مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الإتفاق في ليبيا سيُنفَّـذ عاجلا أم آجلا لأنه “ثمرة قرار دولي وإقليمي”

المبعوث الأممي بيرناردينو ليون متحدثا إلى ممثلي وسائل الإعلام في منتجع الصخيرات (المغرب الأقصى) يوم 28 أغسطس 2015. Keystone

رفع إعلان الموفد الأممي برناردينو ليون عن اتفاق بين الفرقاء السياسيين اللِّيبيين من درجة الإحتقان وأثار مزيدا من التجاذبات والمُماحكات، لكن الخبراء والمراقبين يُرجّحون أن بنود الإتفاق ستجِد طريقها إلى التنفيذ، إن عاجلا أم آجلا. وأتى دعم خمس دول أوروبية كبرى، هي بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة لبنود الإتفاق، لا بل وتوعدها للرافضين بالويل والعقوبات، دليلا إضافيا على أن الإتفاق، إنما هو ثمرة قرار دولي وإقليمي. 

الدول السِتّ اعتبرت أيضا أن أي تأخير في إقرار وتنفيذ المقترح الأممي، سوف يُطيل أمَد مُعاناة الشعب اللّيبي، مُهدّدة بـ “عزل” الذين لا يحترمون اقتراح تشكيل الحكومة في ليبيا. بهذا المعنى، أيا كان حجم الإحتقان والإعتراضات التي ستأخذ وقتا لترضية أصحابها، فإن حكومة الوفاق ستوضع على السكة ومعها المؤسسات الإنتقالية المنصوص عليها في الإتفاق، وخاصة مجلس الدولة.

وكما هو معلوم، يقضى مشروع الإتفاق الذي تقدّم به برناردينو ليون، بتكوين مجلس رئاسي يتألّف من رئيس حكومة ونوابه الثلاثة، على أن يمثل كلّ واحد منهم إقليماً من أقاليم ليبيا. كما طرح إسم فايز السراج لرئاسة الحكومة (وهو عضو في مجلس النواب المُعترف به دوليا ويُمثل المنطقة الغربية أو إقليم العاصمة طرابلس) ونوابه الثلاثة، فتحي المجبري (من أجدابيا وممثل المنطقة الشرقية أو إقليم برقة)، وموسى الكوني (من المنطقة الجنوبية أو إقليم فزان) وأحمد أمعيتيق (من مدينة مصراتة وممثل لإقليم طرابلس). غير أن هذه التشكيلة لاقت أنواعا مختلفة من الإعتراضات، وخاصة من أعضاء “المؤتمر الوطني العام” المُنتهية ولايته، ما تسبّب في عودة المشاحنات والتنابذ بين القطبيْن المتصارعيْن، أي “المؤتمر” و”مجلس النواب” المُعترَف به دوليا.

شبحُ التقسيم

ويمكن القول أن الأوضاع في ليبيا وصلت إلى درجة من التدهْـور والتعفّن، باتت معها البلاد مُهدّدة بالتقسيم والصَّـوْملة، بعدما اقتطع كل فريق قِسما من البلد ووضعه في قبْضة ميليشياته. فالعاصمة طرابلس وأجزاء من المنطقة الغربية تحكمها ميليشيات “فجر ليبيا”، والمدينة الثانية بنغازي ومعها قسم من المنطقة الشرقية (برقة) توجد تحت سيطرة ما تبقّى من الجيش الليبي بقيادة الجنرال المُثير للجدل خليفة حفتر، فيما أحكم تنظيم “داعش” قبضته على 90% من مدينة سِرت (وسط). وتُـسيْطر ميليشيات قبلية على مناطق أخرى، مثل الزنتان (غرب) وسَبْها، عاصمة فزان (جنوب)، وهي المدينة الثالثة. من هنا، سيكون صعبا إخضاع هذه القوى لأجندة التوافق وقبولها الإمتثال لسلطة الحكومة الإنتقالية التي من المُقرّر أن تستمرّ سنة واحدة.

تهميش المؤسسة العسكرية

هذه الأوضاع تطرح سؤالا كبيرا عن مدى قدرة الجيش الليبي على إخضاع الميليشيات. فقد أكّد وزير سابق، فضّل عدم الكشف عن إسمه في تصريح خاص لـ swissinfo.ch أن ما تبقّى من الجيش النظامي، لا يتجاوز ألف عنصر مع عَـتاد محدود. وعزا ذلك إلى قيام القذافي بحلّ الجيش منذ أكثر من عشر سنوات، واستقطاب الميليشيات للكفاءات العسكرية بعد ثورة 17 فبراير 2011. وقد باءت كلّ المحاولات التي بذلتها الحكومات السابقة لتدريب مُجنّدين جُددا في دول عربية وأوروبية، بالفشل، لأن أولئك المُتدرّبين يختفون في غابة الميليشيات أو يعودون إلى قبائلهم ومدنهم الأصلية بعد نهاية فترة التأهيل في الخارج.

مع ذلك، يُفترض أن صوْلة الميليشيات ستقل نسبيا مع الْـتِزام القوى والتكتّلات التي تُحرّكها بنتائج الحوارات السياسية، وإن كانت ثمّة مجموعات لم تشارك في الحوارات ولا تعترف بمُخرجاتها أصلا. وفي مُقدِّمة القِوى الرافضة للدولة والداعية لتقويضها، تنظيم “داعش”، الذي حاول الإستقرار في مدينة درْنة وضواحيها منذ أبريل 2014، مُستفيدا من الإنشِقاقات التي حدثت في صفوف “أنصار الشريعة”، المُرتبط بتنظيم “القاعدة”، قبل إجلائه عنها واستقراره في مدينة سرت (وسط – مسقط رأس معمر القذافي)، حيث وجد حاضنة له بين الفئات المُرتبطة بالنظام السابق.

5800 مدرسة مُقفلة

من أوكد المهمات التي ستواجه الحكومة المقبلة في ليبيا، إعادة عشرات الآلاف من التلاميذ إلى المدارس بعدما أدّى اضطراب حبل الأمن في مدن عدّة إلى إقفال عدد كبير منها، إلى جانب تضرر أخرى من القصف أو بسبب غياب الصيانة. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد تلك المدارس المقفلة بلغ 5800، ويُعتقد أن عددها سيزيد مع استمرار المعارك وغياب الأمن في مناطق مختلفة من البلد.

عجز مالي

في المقابل، لا تقتصر التحديات التي تُواجه حكومة الوِفاق على افتقارها للشوكة التي تُمكّنها من بسْط سلطتها على كافة المناطق وحسْب، وإنما ستجد أمامها أيضا وضعا اقتصاديا كارثيا، بعدما سحبت الحكومات السابقة من الإحتياط لتُنفق على إسكات الميليشيات، بالإضافة للفساد الإداري الذي يهدر إمكانات الدولة في نفقات وهمية. وفي هذا الصدد، قال محمد عبد الله النايلي، المكلف بصرف رواتب الموظفين في إحدى المدن الغربية لـ swissinfo.ch: “إن مئات الموظفين يتقاضون في الشهر الواحد راتبيْن أو ثلاثة وحتى أربعة من الدولة، وهُم لا يُداومون في أي موقع إداري”. أما العقبة الأكبر أمام أية حكومة قادمة، فهي تراجع منتوج البلد من النفط وارتفاع عجْز الموازنة العامة إلى أكثر من 18 مليار دولار في العام المنقضي.

فليبيا التي كانت تُنتج أكثر من 1.6 مليون برميل من النفط يوميا قبل الثورة، يصل إنتاجها اليوم بالكاد إلى 400 مليون برميل، أي رُبع المنتوج المُعتاد عليه. كما أن انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، يُضاعف من تلك المصاعب ويؤدّي إلى عجز يفرض اتخاذ إجراءات تَـقشُّفية وإلغاء عدّة مشاريع، بينما البلاد مُقبِلة على حركة واسعة لإعادة إعمار ما تهدّم طيلة السنوات الأخيرة.

احتياط نفطي ضخم

ليبيا هي رابع دولة في إفريقيا من حيث المساحة، رغم أن عدد سكانها يبلغ حوالي سبعة ملايين فقط. وهي حلقة الوصل بين إفريقيا وأوروبا، إذ تمتد سواحلها على مدى ألفيْ كيلومتر، وهو أطول ساحل بين الدول المطلّة على البحر المتوسط.

كما أنها تملك عاشِر أكبر احتياط نفطي مؤكّد في العالم، لكن الدولة الليبية مع ذلك مهدّدة اليوم بالإفلاس.

النفط والهجرة غير النظامية

وعليه، فإن من أولى مهام الحكومة المقبلة، إعادة فتح ميناءيْ السّدرة ورأس لانوف (شرق)، أكبر موانئ البلاد المُغلقين منذ ديسمبر 2014، بالإضافة إلى التصدّي لمحاولات تنظيم “داعش” الإقتراب من الهلال النفطي لضمان موارد مالية له، على غرار ما فعل في العراق وسوريا. وهنا تبرز الضغوط التي تقوم بها كل من الولايات المتحدة وأوروبا للتّعجيل بالحلّ السياسي، من أجل ضمان استئناف تدفّق النفط والغاز من الحقول الليبية، وكذلك للسيطرة على شبكات الهجرة غير النظامية.

وفي هذا السياق، وصل الأمر إلى حدّ التلويح باللّجوء إلى تدخل عسكري في ليبيا لوقف تدفّق المهاجرين غير النظاميِّين نحو أوروبا. وقد كشفت صحيفة “ذي تلغراف” البريطانية أنّ رئيسَ الوزراءِ البريطاني دافيد كامرون ينظر في إمكانيةِ إرسال قوات بريطانية إلى ليبيا من أجْل “القضاء” على الشبكاتِ التي تقوم بإرسال المهاجرين اليائسين إلى حتفهم في مياه المتوسط. والظاهر أن هذه الفكرة أتت من الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزيرة الدفاع الإيطالية روبرتا بينوتي والمفوض الأوروبي للهجرة اليوناني ديميتريس افراموبولوس.

غير أن المحلِّلين يتّفقون على استبعاد هذا الخيار لثلاثة أسباب: أولها، أن العدو غير واضح في هذه المعركة. وثانيها، أن القانون الدولي يشترط موافقة إحدى الحكومتيْن القائمتين في ليبيا أو الإثنتين معا، من أجل الدخول إلى مياهها الإقليمية وإنزال قوات على أراضيها. وثالثها، أن هذه العملية العسكرية قد تكون استدراجا للوقوع في أوحال ورْطة لا مَخرَج منها.

لذا، فالأرجح أن وساطة ليون بين الفرقاء الليبيين ستُستأنف في الأيام المقبلة، وإن بشكل غير رسمي وبعيدا عن أضواء الإعلام، من أجل مراجعة مشروع الإتفاق وتعديل بعض بنوده، بالرغم من كونه أعلن أن وقت التفاوض انتهى ولم يبق هناك من خيار سوى التوقيع على الإتفاق، وذلك لأنه يُدرك أن خلف الفرقاء الليبيين، تقِف قوى دولية وإقليمية يبدو أنها اعتبرت زمَن الصراع في ليبيا أشرف على النهاية وأن الأوضاع هناك باتت تحتاج لسلطة قوية تضبطها. 

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية