مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الانفصاليون في ليبيا يستخدمون ورقة النفط لتكريس الفدرالية

عامل ليبي يتفقد منشأة لتخزين النفط في حقل مليتة للنفط والغاز الواقع على نحو 130 كيلومتر شمال غرب طرابلس يوم 9 أكتوبر 2013. Keystone

أتى اندلاع معارك دامية بين ميليشيات مسلحة في طرابلس نتيجة حتمية لتغول تلك الجماعات واستقوائها على الدولة بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، ما أدى لسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى. واستطاع أمراء تلك الميليشيات أن يبثوا الرعب وينصبوا حواجزهم في جميع المدن ويتحولوا إلى دويلات داخل الدولة، بل أن يُقزموا الحكومة باختطاف رئيسها من غرفة نومه.

وكانت آخر عملية في هذه السلسلة اختطاف نائب رئيس المخابرات مصطفى نوح من مطار طرابلس لدى عودته من تركيا. وعلى رغم انطلاق إضراب احتجاجي يستمر ثلاثة أيام للمطالبة بوضع حد لوجود الميليشيات المسلحة في العاصمة الليبية، فالأرجح أن تلك الميليشيات ستبقى ماسكة بالسلك الكهربائي لتركيع الحكومة وقت ما تشاء. 

ولوحظ في الفترة الأخيرة أن قبضة الميلشيات المسلحة لم تعد تكتم أنفاس المدنيين الليبيين وحسب أو تستهين بالدولة ومؤسساتها فقط، وإنما اقتربت فوْهات رشّاشاتها من حقول النفط، على نحو يُهدّد بقطْع شريان الحياة عن الحكومة المركزية. هذا المنعطف الخطير، هو الذي حمل رئيس الوزراء علي زيدان على التحذير من أن “الدولة ستجد نفسها في عجز، إذا ما تعطّل (تصدير) النفط، لأن الموازنة توضع على أساس الدّخل السنوي للنفط، والآن 60% من منتوج النفط متوقّف، وقد نجِد أنفسنا في الشهر المقبل أو الذي يليه في مشكلة”.

الأرجح، أن المشكلة آتية لا محالة، لأنه لا توجد قوة تستطيع اليوم لجْم الميليشيات وإجلاء عناصرها من المُنشآت النفطية والموانئ، بينما وضعت موازنة الدولة على أساس السّقف الأعلى للإنتاج النفطي في ظلّ سلاسة التصدير. وكانت ليبيا تُصدّر مليون ونصف المليون برميل من النفط يوميا، وهي لا تُصدّر حاليا سوى 300 ألف برميل، ما يشكل خسارة كبرى يصعُب تعويضها في اقتصاد يعتمِد على عائدات المحروقات بنسبة 95%.

 شركاء ليبيا

وقال الخبير النفطي عبد السلام قاوق لـ swissinfo.ch، إن الوضع بات بالغ الحساسية، بعدما صارت مصفاة الزاوية (غرب ليبيا)، وهي ثاني أكبر مصفاة في البلد، تعمل بأقل من طاقتها بسبب استمرار سيطرة الميليشيات على حقل “الشرارة”، وهو أحد حقول النفط الرئيسية، إذ تبلغ طاقته 330 ألف برميل في اليوم.

وأوضح قاوق أن الطاقة الإنتاجية للمِصفاة تبلغ 120 ألف برميل يوميا، مُشيرا إلى أن مصفاة رأس الأنوف (وسط)، وهي أكبر مصفاة في ليبيا، إذ تبلغ طاقتها 220 ألف برميل يوميا، ما زالت مقفلة هي الأخرى منذ أغسطس الماضي. ووصلت الأمور إلى الذّروة (ذروة مؤقتة!) مع قطع تصدير الغاز الطبيعي إلى إيطاليا عبْر البحر المتوسط، من ميناء مليتة، الذي تديره شركة “إيني” الايطالية والمؤسسة الوطنية للنفط الليبية (قطاع عام)، وهي خطوة قد تدفع الإيطاليين والغربيين عموما إلى معاودة النظر في موقِفهم من الوضع العام في ليبيا.

وليس خافيا أن ليبيا تكتسي أهمية خاصة في سوق النفط، بوصفها أهم مُصدِّر للمحروقات في الحوض الغربي للمتوسط، حتى أن أمريتا سنت، كبيرة المحللين لدى مؤسسة “إنرجي أكسبكتس”، التي يوجد مقرها في لندن، أكّدت أن ليبيا هي المحرك الرئيسي اليوم لخام برنت، وهي (أي ليبيا) في سبيلها، إذا ما استقرّت أوضاعها، لأن تكون مركز الاستقطاب الرئيسي للاستثمارات والإنتاج الصناعي والزراعي في غرب المتوسط، ما يجعلها أغنى بلد في هذه المنطقة، وعليه، فلن تقبل الدول الغربية التي شاركت في إسقاط نظام القذافي بأن تتحوّل إلى دولة فاشلة ومُصدّرة للإرهاب والمهاجرين غير الشرعيين.

بهذا المعنى، يمكن فهم التحذير الأخير الذي أطلقه علي زيدان من تدخل محتمل لقوات أجنبية في حال استمرار الفوضى الراهنة، حين أكد أن “المجتمع الدولي لن يتركنا هكذا كي (نصبح) منطقة مُصدرة للإرهاب والقلاقل والعنف في وسط البحر المتوسط”. وأشار إلى أن ليبيا ما زالت تحت طائلة القرار 1970 الذي أصدره مجلس الأمن في أواخر أيام القذافي، لتبرير التدخل العسكري في هذا البلد.

تنامي النزعة الفدرالية

والخطير في اللّعب بورقة النفط القابلة للاشتعال، أنها صارت سِلاحا بأيْـدي كلّ الجماعات التي تريد إملاء مواقِفها على الحكومة، إن كانت ميليشيات أم جماعات إثنية (مثل الأمازيغ) أم كُـتلا مناطقية وانفصالية. ومن مؤشِّرات هذا الانعطاف، أن جماعة تنسب نفسها للأمازيغ، هي التي أوقفت تصدير الغاز من ميناء مليتة، للضّغط على أعضاء “المؤتمر الوطني العام” (برلمان انتقالي) من أجل تنقيح مشروع الدستور، بما يرفع اللّغة الأمازيغية إلى مرتبة اللّغة الوطنية أسْوة بالعربية.

ومع أن هذا المطلب وجيه وحريّ بالمناقشة، فإن التداول في شأنه “يكون في البرلمان واللِّجان المُنبثِقة منه ومؤسّسات المجتمع المدني، وخاصة وسائل الإعلام، وليس باستِخدام قوة الميليشيات لتعطيل تصدير النّفط، الذي هو شريان الحياة في ليبيا”، كما قال الخبير قاوق.

لكن الذي حصل، هو أن كل الجماعات التي لها مطالِب خاصة، استسْهَـلت استِخدام ورقة النفط، بوصفها أقصَر الطّـرق لثَـنْي إرادة الحكومة و”المؤتمر الوطني العام” وتطويعِهما لمشيئَـتها. وهذا ما فعلته شخصيات نافذة في برقة، ما فتئت تعمل على إعادة ليبيا إلى مرحلة الفدرالية التي كانت تمنح قدرا كبيرا من الحُكم الذاتي لثلاثة أقاليم، هي برقة (شرق) وطرابلس (غرب) وفزان (جنوب).

ويسعى الدّاعون إلى منح إقليم برقة مجدّدا أكبر قدْر من الحُكم الذاتي، إلى جعل بنغازي (ثاني المدن الليبية) عاصمة للإقليم، مُستنِدين على كونها عانت من التهميش في عهْد القذافي، ومن ثمَّ كانت مهْد الثورة التي أطاحت بنظامه. والأهَم من ذلك، أنهم يطالبون بنصيبٍ أعلى من موارد النفط والغاز، باعتبار أن القسم الأكبر من الحقول يوجد في المنطقة الشرقية. وذهب هؤلاء مؤخّرا إلى حد تأسيس شركة خاصة بإقليم برقة لتصدير النفط، ما يُشكِّل في بلدان أخرى، بداية انفصال تستحقّ الملاحقة.

وقام بالتمهيد لهذه الخطوة، أحد القادة العسكريين المنشقِّين في المنطقة الشرقية، وهو إبراهيم الحضران، الذي كان مكلَّفا بالإشراف على وحدات حِراسة المُنشآت النفطية، لكنه سيْطر على الموانئ المصدِّرة للنفط، بالاعتماد على آلاف من مُؤيِّديه، ما أدّى إلى تقليص صادرات ليبيا من النفط إلى حوالي النصف طيلة الأشهر الماضية.

فزان خارج السيطرة

وفي خطٍّ موازٍ، أعلنت مجموعة من أعْيان المنطقة الجنوبية يوم 27 سبتمبر الماضي منطقة فزان إقليما فدراليا، كما شكّلت “المجلس الاجتماعي الأعلى لقبائل فزان” في مُلتقىً عقدوه في مدينة أوباري الجنوبية، وانتخب أعضاء “المجلس” نوري محمد القويزي رئيسا لإقليم “فزان”. وبرّروا هذه الخطوة بقلّة فعالية “المؤتمر الوطني العام” وإخفاق الحكومة في الاستِجابة لمطالب الشارع، وخاصة في منطقة فزان.

ومن المهم الإشارة هنا، إلى أن الغالبية الكبرى من سكّان إقليم فزان، لا تُخفي ولاءها للنظام السابق، عِلما أن المنطقة لم تُشارك في الانتِفاضة على نظام القذافي، وما زالت بعض نواحيها خارِج سيْطرة النظام الجديد.

ويعزو طارق متري، موفد الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا إقدام جماعات مسلّحة على تعطيل تصدير النفط إلى سعْي تلك الجماعات إلى تعزيز قُدراتها التفاوضية في مسألة التقسيم الفدرالي. ويُميِّز متري بين الثوّار السابقين و”المسلّحين غيْر الثوار”، أي الجماعات الأيديولوجية التي تخدم بعض المصالح، مُعتبِرا أن التحدّي الأساسي الذي تُجابهه ليبيا اليوم، هو عدم استقرار الوضع الأمني، بمعنى أنه ليست هناك عملية بناء للجيش والشرطة وجمْع للسّلاح من الثوار.

لكن المشهد ليس كلّه قاتما، إذ تحقّقت خطوات صغيرة يُمكن إذا ما استقرّت الأوضاع، البناء عليها للمُضي في مسار الانتقال الديمقراطي، ومنها إقرار المؤتمر الوطني العام لقانون العدالة الانتقالية. وتبذل الأمم المتحدة جهودا لافِتة في مساعدة ليبيا على الصّعيد الفنّي، من أجل بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية وتكوين الأجهزة اللاّزمة، لضمان احترام حقوق الإنسان. كما تكفّلت أيضا بتنسيق المساعدات الدولية التي تقدم إلى ليبيا، بناءً على قرار من مجلس الأمن في هذا الغرض.

صحيح أن البلد لا يحتاج إلى مساعدات من المانحين، إلا أن هناك استعدادات من بلدان أوروبية وعربية لتقديم الدّعم الفني والخِبرات في المجالات الأمنية والعسكرية، وهو أحد الملفّات الرئيسية التي حملها رئيس الوزراء زيدان معه خلال زياراته الأخيرة لعواصم تلك البلدان. لكن الظاهرة التي يلحظها المراقبون العارفون بالشأن الليبي، هي ضعف الحكومة بسبب خِلافها مع رئاسة المؤتمر الوطني العام التي تحاربها، بدل أن تدعمها وتمنحها الشرعية اللازمة للحد من سطْوة الجماعات المسلحة، ما يجعل رأسيْ الدولة في صِراع مُستمر.

جماعة “درع ليبيا”، وهي مؤلّفة من تحالف لميليشيات ينتمي أفرادها أساسا إلى مدينتيْ الزاوية (قرب العاصمة) ومصراتة، وهي ذات توجّه أصولي. وكان “المؤتمر الوطني العام” نقل عناصر من هذه الميليشيا إلى طرابلس في الصيف الماضي، بعد اتحاد كِيانات مؤيِّدة للنظام السابق مع بعض القبائل للإطاحة بالحكومة. ومن المُهم الإشارة إلى أن “غرفة عمليات ثوار ليبيا” التي سبق أن اختطفت رئيس الحكومة علي زيدان، تنتمي لهذا “الدّرع”.

جماعة “ثوار الزنتان”، وهي تنحدِر من الزنتان (جنوب غرب العاصمة)، ويتمركز عناصرها في غرب طرابلس، حيث كانت قصور القذافي وأبناءه. يقودها لواء القعقاع المؤلّف من حوالي 18 ألف مسلح، تضم عناصر من قوات القذافي التي تعلمت في روسيا. وتُعتَبر هذه الميليشيا غريمة لكل من “درع ليبيا” و”اللجنة الأمنية العليا” اللّتين تتَّهمُهما بمحاولة فرض هيْمنة الإسلاميين على “المؤتمر الوطني العام”.

اللجنة الأمنية العليا، التي ينحصر نفوذها في شرق ليبيا، وهي حليفة لدرع ليبيا ضدّ ميليشيات الزنتان، وهي تتصرّف الآن كما لو كانت قوّة شرطة نظامية.

جماعة أنصار الشريعة، وهي أحد الفصائل الكثيرة المُنبثقة من تنظيم “الجماعة الليبية المقاتلة”، الموالي لتنظيم “القاعدة”، والذي شنّ عمليات ضد نظام القذافي في تسعينيات القرن الماضي، قبل اعتقال عناصره. ويسعى تنظيم أنصار الشريعة، الذي يتمركز عناصره في بنغازي ودرنة، إلى إقامة حُكم ديني متشدّد، ويُعتقَد أنه مسؤول عن الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي، الذي أودى بحياة السفير الأمريكي السابق في ليبيا. كما أنه يدعم جماعة أصولية تحمل الإسم نفسه في تونس.  

بعد استقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951، تحوّلت إلى النظام الفدرالي مع بقائها في ظل النظام الملكي بقيادة العائلة السنوسية، وبات اسمها الرسمي المملكة الليبية المتحدة.

لكن النظام الفدرالي ألْغِي في 1963 قبل أن يُفكك النظام السياسي أصلا بعد ستّ سنوات فقط، في أعقاب الانقلاب الذي قاده “الضباط الأحرار” ضد الملك إدريس السنوسي الأول في 1969 والذي أوصل العقيد معمر القذافي إلى سدّة السلطة عن طريق “مجلس قيادة الثورة”.

وما لبث القذافي أن أقام نظاما جديدا، لا هو بالجمهورية ولا بالملكية، مُحولا ليبيا إلى “الجماهيرية العربية الشعبية الاشتراكية العظمى” في 1977، إلى أن انهار هذا النظام بدخول الثوار إلى طرابلس في 20 أغسطس 2011 وفرار القذافي منها.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية