مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أحداث بنغازي .. انعطاف في صراع الأجنحة؟

صورة بثها التلفزيوني الرسمي الليبي لواجهة القنصلية الإيطالية في بنغازي التي أحرقها متظاهرون محتجون على الرسوم المسيئة للرسول يوم 17 فبراير 2006 Keystone

"لو جرت أحداث بنغازي في طرابلس (العاصمة الليبية) لما اختلفت نتائجها وتداعياتها عن أحداث أكتوبر 1988 في الجزائر"..

هكذا وصف خبير في الشؤون الليبية أكبر هزة عرفتها البلاد منذ سنوات وكان منطلقها الإحتجاج على الرسوم المسيئة للرسول محمد.

لكن المظاهرات التي اندلعت شرارتها يوم 17 فبراير الجاري واشتد عنفوانها في الأيام الموالية ليلتهم لهيبها ثلاثين مبنى أغلبها في وسط المدينة، اعتُبرت الجبل العائم من الصراع بين جناحين في الحكم على نحو نقل المناكفة القديمة من تحت خيمة العقيد القذافي إلى الشارع.

وكان لافتا أن الإيطاليين، وهم أعرف الأوروبيين بالشأن الليبي، بادروا إلى إعطاء هذا التفسير للأحداث ليس على لسان إعلامي أو باحث أكاديمي وإنما بصوت رئيس مجلس الشيوخ مارتشيلو بيرا الذي أطلق جملة لا تخلو من المنطق عندما صرح لصحيفة “كورييري ديلا سيرا” بأنه لا يعتقد أنه “من الممكن في ليبيا كما في سوريا أو إيران أن تُنظم مظاهرة حاشدة من دون أن يكون مسؤول كبير في النظام على علم بذلك”.

أكثر من ذلك اعترف بيرا للصحيفة أن توجهاته “تُعاكس الجهود الديبلوماسية الحكومية”، مما يعني أن الحكومة قد تشاطر تحليله للوضع لكنها محمولة على التعاطي معه بلغة ديبلوماسية لأن ثلاثين في المائة من حاجات إيطاليا إلى المحروقات مرتبطة بليبيا.

غير أن تفكيك المشهد الليبي بعد الأسبوع الدامي يومئ إلى وجود مسارين متوازيين التقيا في لحظة الهجوم على القنصلية الإيطالية في بنغازي، ويمكن أن يفترقا لاحقا.

فما من شك بأن استفزازات وزير الإصلاحات الإيطالي المستقيل روبرتو كالديروني، الذي وعد بتوزيع قمصان عليها رسوم الكاريكاتير الفضائحية، هي التي ألهبت مشاعر الليبيين فلم يرتضوا السكوت عليها وهبوا إلى القنصلية الإيطالية. لكن ما كان للتيارين المتصارعين في هرم السلطة أي الداعين لليبرالية اقتصادية وانفتاح سياسي من جهة والمتشبثين بإحكام قبضة “اللجان الثورية” على النظام من جهة ثانية، أن يتفرجا على حركة شعبية بهذا الحجم. ومع افتراض أنهما فعلا كذلك فإن حجم التحرك كان يقتضي سرعة التعاطي معه من زاوية استثماره لقلب الوضع على الطرف المقابل.

سير الأحداث

في البدء انطلقت جماهير حاشدة في بنغازي بعد صلاة الجمعة في مسيرة لم تختلف عن المسيرات التي نُظمت في سائر العالم الإسلامي احتجاجا على الإساءة للرسول الأكرم. وكان واضحا أن اللجان الثورية في المدينة هي التي نظمت المظاهرة احتجاجا على تصريحات الوزير الإيطالي إلا أن الوضع خرج عن السيطرة بمجرد أن بدأ عناصر من “رجال الدعم المركزي” في استفزاز المتظاهرين مما حملهم على الرد فتصاعدت الملاسنات وتحولت إلى اشتباكات، خاصة مع المحاولات المستميتة لاقتحام القنصلية الإيطالية في وسط المدينة، وفعلا تمكن شاب في الخامسة عشر من عمره من الصعود إلى سطح المبنى وانتزاع العلم الإيطالي، فما كان من الشرطة إلا أن أطلقت عليه النار وعندها التهب الموقف وخرج عن السيطرة. وسرعان ما استخدمت قوات الدعم المركزي القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي لتفريق المتظاهرين، وأسفر إطلاق النار على الصدور إلى سقوط أحد عشر قتيلا ومئات الجرحى.

وأفاد تقرير خاص نشرته صحيفة “القدس العربي” اللندنية أن رجالا يرتدون ملابس مدنية بعضهم مقنَع يُـعتقد أنهم أعضاء في “اللجان الثورية” وأجهزة الإستخبارات شاركوا في إطلاق الرصاص، إلا أنهم لم يتمكنوا من تفريق المتظاهرين الذين أضرموا النار في الطابق الأول من القنصلية.

واستمر الوضع خارجا عن السيطرة في الأيام الثلاثة الموالية إذ عاد المتظاهرون يوم السبت لإضرام النار في الطابق الثاني من القنصلية ومقر الإتحاد الأوروبي، لكن الأحداث اتخذت وجهة أخرى باستهداف مباني رسمية وخاصة تلك التي ترمز للقمع والمعاناة الطويلة من قبضة رجال الحكم.

وبين السبت (18 فبراير) والإثنين (20 فبراير) أحرق المتظاهرون أربعة مراكز للشرطة ومبنى المباحث الجنائية واقتحموا مديرية أمن بنغازي وحرقوا مبنى الضرائب وبنك الوحدة ومبنى صندوق الضمان الإجتماعي. وقُدَر عدد المباني الحكومية التي أُضرمت فيها النيران بنحو ثلاثين مبنى، مما يدل على حجم الأحداث التي شابهت ما عرفته بلدان المنطقة خلال انتفاضات سابقة وبخاصة مدينة الجزائر العاصمة في أكثوبر من عام 1988.

تطويق الحريق

عند هذا الحد باشرت دوائر الحكم ضبط الوضع ومنع مزيد إفلاته من السيطرة باتخاذ إجراءات سياسية للتهدئة وأخرى أمنية لتطويق الحالة في بنغازي، فاعتبرت ضحايا المظاهرات “شهداء من أجل نصرة الله ورسوله” وعزلت وزير الأمن العام نصرالمبروك وأحالته إلى التحقيق وفصلت المسؤولين الأمنيين في بنغازي وأرسلت سبعة من الجرحى في المصادمات على متن طائرتين خاصتين إلى الخارج للعلاج.

وفي الشق الأمني، حالت دون تنظيم جنازة مهيبة للضحايا خشية تنظيم مظاهرات جديدة واستقدمت الكتائب التي كانت متمركزة في الجبل الأخضر ومن بينها كتيبة يقودها العقيد الساعدي معمر القذافي، لحماية المواقع الإستراتيجية في المدينة، وأعلنت الإذاعة عن تطبيق قانون الطوارئ وفرض حظر التجوال على السكان.

وتشابكت على خلفية تلك الأحداث مسارات واستراتيجيات، متقاطعة حينا ومتباعدة أحيانا أخرى. فإذا كانت إيطاليا غاضبة مما تعرضت له قنصليتها إلا أنها تدرك أن عليها أن تسيطر على ردود فعلها كي لا تتأثر المصالح الواسعة لمجموعاتها العاملة في ليبيا وفي مقدمتها مجموعة “إيني” النفطية العملاقة.

والجناحان المتنافسان داخل الحكم ماضيان في المناكفة لكن إلى حد، والخط الأحمر هو زعزعة المصالح الكلية للحكم. ولذلك جاء فرض حالة الطوارئ لمنع وضع مصير النظام برمته في الكفة. وبرز هنا موقف جناح سيف الإسلام النجل الأكبر للعقيد القذافي الذي حرص على استثمار الأحداث لتعزيز مواقعه والتخلص من رؤوس الجناح المقابل، وهي العملية التي بدأت بعزل نصر المبروك وربما تُستكمل بتدابير أخرى.

وكانت تصريحات سيف الإسلام الإيجابية تجاه المتظاهرين والتي نقلتها صحيفة “العرب” الصادرة بلندن والقريبة من والده، مؤشرا قويا على السعي لامتصاص الغضب العارم على النظام وتجييره لصالح التيار الذي يُنعت بالإصلاحي.

التقاء المصالح .. وافتراقها

من هنا يبدو خط الفصل في تداعيات الأحداث الأخيرة مُتطابقا مع السهم الفاصل بين أنصار النظام وخصومه، إذ تلتقي مصالح الجناحين المتصارعين داخل خيمة الحكم في مواجهة حركات المعارضة التي ترمي لتقويض النظام، إلا أن لقاءها لا يمحو آثار الصراع على المواقع الذي جسدته سرعة تنحية نصر المبروك من وزارة محورية، فيما رئيس الوزراء شكري غانم المقرب من سيف الإسلام ماض في تنفيذ خطة الإصلاحات الإقتصادية، والتي اتخذت وجهة سياسية في الفترة الأخيرة بتواتر الحديث عن مكافحة الفساد، وبخاصة بعد الإعلان عن تشكيل لجنة متخصصة في هذا الأمر وإن لم ترشح عنها معلومات كثيرة.

ومن غير المستبعد أن يستثمر أحد الجناحين نتائج التحقيق الذي يباشره النائب العام محمد المصراتي، الذي انتقل إلى بنغازي غداة المظاهرات لإجراء تحقيقات ترمي لتحديد المسؤوليات عما جرى.

ومن المتوقع أن تكون الإستخلاصات وقودا لتأجيج الصراع بين أركان الحكم على خلفية التجاذب الشديد الحالي، خصوصا أن مهمة المصراتي واضحة وتتلخص بمعرفة ظروف استخدام قوات الأمن الرصاص الحي ضد المتظاهرين. ويمكن التكهن منذ الآن بمن سيدفع الضريبة السياسية لذلك العمل، الذي يوصف في العالم العربي عادة بكونه “تجاوزات”، من أجل امتصاص النقمة وحالة الذهول الشعبية من عنف الرد الأمني على المظاهرة التي بدأت سلمية.

وعادة ما تشكل أحداث بهذا الحجم ضربة لقوى التشدد، إلا إذا كان العقيد القذافي سيكتفي بعزل المبروك ويفرمل أي إجراءات عقابية أخرى اعتقادا منه أنها ستُخلخل توازنات حكمه مستفيدا من ميوعة الموقف الغربي من مسألة الإصلاحات في ليبيا، وخاصة في ظل تداعيات فوز “حماس” بالإنتخابات الفلسطينية.

توجس من بنغازي

غير أن التيار المتشدد استفاد من الأحداث الدامية ليبرهن على صحة تحذيره القائل بأن أي نسمة انفتاح ستثير عاصفة من الأمواج الخارجة عن السيطرة وتقود إلى انقلاب سفينة الحكم بمن فيها.

ولم يكن من باب الصدفة إطلاق شائعات في هذه الفترة مفادها أن الساعدي (32 عاما) النجل الأوسط للعقيد القذافي مؤهل أكثر من سواه لتولي مقاليد الحكم، بعدما تراجع ولعه بكرة القدم، إذا ما حصل فراغ على رأس الدولة. وأشار المروجون لهذا السيناريو إلى أن الساعدي يحمل رتبة والده العسكرية (عقيد) وكان تخرج في كلية الهندسة العسكرية نقيبا في أواخر التسعينات ثم منحه صديقه الملك عبد الله الثاني رتبة عقيد مهندس في عمان في صيف 1999.

ويحتفظ “المهندس” كما يحب أن يسميه الليبيون بعلاقات متينة مع الملك محمد السادس وولي عهد الأردن الأمير حمزة بن الحسين وأمراء آخرين في السعودية والخليج وأوروبا، ولديه مصالح واسعة في إيطاليا بوصفه المشرف على مؤسسة الإستثمار الليبية في الخارج، مما يبوئه موقع المنافس لشقيقه سيف الإسلام.

مع ذلك يبدو أن جميع المرشحين لخلافة القذافي ومراكز القوى في الحكم عموما، تتوجس من تداعيات أحداث بنغازي لاعتبارات مناطقية واضحة، فبنغازي هي بؤرة الحركات الإسلامية التي حملت السلاح ضد النظام والتي لاقت القوات النظامية صعوبات جمة في السيطرة عليها.

وهي كانت قبل ذلك موطن الإنتفاضات الطلابية التي استهدفت نظام العقيد القذافي في السبعينات والتي بلغت ذروتها سنة 1976 عندما نُصبت المشانق للطلاب وتُركت جثثهم تتدلى من الأعواد ردا على المظاهرات التي أُضرمت خلالها النيران في مبنى “الإتحاد الإشتراكي” (التسمية التي كانت تُطلق آنذاك على الحزب الحاكم).

وتتسم المنطقة بحجم الغضب المنتشر بين أهلها بسبب الشعور بالإهمال الذي طفا على سطح الإعلام الدولي بمناسبة قضية الأطفال الذين قضوا في مستشفى المدينة بسبب استخدام حقن ملوثة بالإيدز، وهي القضية التي مازالت تداعياتها تُسمَم العلاقات الليبية مع بلغاريا واستطرادا أعضاء الإتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة.

وهي أيضا المدينة التي لا تنفك نخبتها الإعلامية والثقافية تُظهر العداء للحكم أسوة بالمقالات التي كان الصحافي الراحل ضيف الغزال يبثها على شبكة الإنترنت ضد الفساد، قبل أن تعتقله ميليشيات “اللجان الثورية” في السنة الماضية وتُصفَيه مُمثلة بجثته كأبشع ما يكون التمثيل.

رشيد خشانة – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية