مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تاريخ طويل بين سويسرا والجزائر

لوحة زيتية للرسام السويسري أدولف أوت عن مشاهداته في الجزائر في أوائل القرن العشرين swissinfo.ch

صدر مؤخّـرا في الجزائر كتاب بعنوان "السويسريون والجزائر" هو بمثابة مذكرات حيّـة لتاريخ العلاقات بين الجزائر وسويسرا، لاسيما خلال حقبة الاستعمار الفرنسي.

ويتضمن هذا الكتاب العديد من المواقف الطريفة التي تُـسلّـط الضوء على ثقافة الشعبين.

قلة هم الجزائريون الذين يعرفون أن جالية سويسرية أقامت في الجزائر قرابة قرن من الزمان خلال فترة الاستعمار، ربما لأن هذه الجالية انطوت على نفسها واهتمت بالزراعة والصناعة أو أن أفرادها كانوا فنانين أو رجال دين لا ينظر إليهم الجزائريون نظرة المستعمِـر، أو أنهم ذابوا في المجتمع الاستعماري واختفت منهم صفات السويسريين وخصوصياتهم.

انطلاقا من هذه الفكرة، ألّـف السيد عثمان بن شريف سفير الجزائر السابق في الولايات المتحدة، كتابا بعنوان: “السويسريون والجزائر”، طبعته له دار البرزخ الجزائرية.

الكتاب في حدّ ذاته سابقة في تاريخ العلاقات الجزائرية السويسرية، كما أن الكثير من الجزائريين الذين اطّـلعوا عليه فوجئوا بأن جزائر ما بعد استعمار فرنسا عام 1830 كانت محل اهتمام مصورين وفنانين سويسريين كثيرين، أمثال أدولف أوت، الذي رسم صُـورا عديدة للعاصمة الجزائرية بعد دخول القوات الفرنسية. والواقع أن صوره الرائعة كانت مجهولة من قبل الكثير من الجزائريين.

ولم يُـفَـت السفير عثمان بن شريف فرصة ذكر الأسباب التاريخية لقدوم بعض الرسامين السويسريين إلى الجزائر. فمنهم من جاء مثل أدولف أوت ليُـزَوِّد أرشيف ملك فرنسا لويس فيليب، الذي أراد تخليد ذكرى الانتصارات الفرنسية في الجزائر، فاختار أدولف أوت من بين أحسن الرسامين الأوروبيين ليقوم بهذه المهمة.

وبحكم التجربة الدبلوماسية لابن شريف، فقد وظف أثناء تأليف الكتاب تعبيرات دبلوماسية تُـنسي القارئ أن من رافق المستعمر وخذل أهل البلاد، فهو مستعمر. ويبقى من خلال قراءة الكتاب أن أحقاد الحروب يجب أن تُنسى، لأن زمنها قد ولى.

في الذاكــرة

بمثل هذا الأسلوب، تـعـرّف الجزائريون والسويسريون على حد سواء على فنان سويسري اهتم بالجزائر شمالا وجنوبا، ساحلا وصحراء، وهو يوهان كاسبار فايدنمان.

والواقع أن أسلوب فايدنمان في تصوير داخل بيوت القصبة وروائع الصحراء الجزائرية مثّـل بالنسبة لجيل من الفنانين الأوروبيين الذين جاءوا بعده، مدرسة لا يُـمكن تجاهلها.

من الناحية النظرية، تعتبر محاولة وصف المرحلة الاستعمارية بأنها فترة نهضة الجزائر “بالمقلوب”، محاولة يائسة ولا يُصدق المرء وهو يقرأ كتاب السفير بن شريف، أن النحاس أضحى ذهبا.

فعندما يتحدث عن أوائل المهاجرين السويسريين إلى الجزائر، لا يذكر أنهم استغلّـوا فرصة وجود الفرنسيين، بل لأنهم وجدوا فرصة للابتعاد عن سويسرا التي كانت من أفقر بلدان أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر.

الحقيقة أن تحليلا بسيطا للتواجد السويسري في الجزائر خلال فترة الاستعمار يُـعطي الانطباع بأن تقاسم فكر المستعمرين لم يكن بالضرورة سلعة رائجة لدى الجالية السويسرية التي تمركـزت لأول مرة في القرى الاستعمارية الأولى بحمر العين بسهل “متيجة” غرب العاصمة الجزائرية.

وبالجملة، فقد تركّـزت أغلب العائلات السويسرية في مستعمرات أو قرى قرب العاصمة الجزائرية إلى أن تأسست أول مستعمرة سويسرية في الهضاب العليا الجزائرية بمنطقة سطيف، 350 كلم جنوب شرق العاصمة، وكانت أصول السويسريين القادمين إليها من مدينة جنيف، وكان هذا سنة 1852 عن طريق رجلي الأعمال بول إليزي لولان، وفراسوا أوغست ساوتر.

المثير للانتباه، أن هذين السويسريين اتفقا مع السلطات الفرنسية على إنشاء مجموعة من القرى في ولاية سطيف مثلت أول تجربة للإدارة الفرنسية مع القطاع الخاص، لأنها المرة الأولى منذ استعمار الجزائر عام 1830 ترفع الإدارة يدها عن إنشاء القرى الاستعمارية التي تستغل أراضي الجزائريين وتُسلم إلى القطاع الخاص “بتعبير اليوم” ولم يكن منفذا هذا المشروع سوى سويسريين.

وفي الملفات

فُتحت أول قنصلية سويسرية في الجزائر عام 1842 وكانت وظيفتها رعاية مصالح الجالية السويسرية أمام الإدارة الاستعمارية. وتذكر الوثائق أن عدد السويسريين في الجزائر بلغ 3 آلاف عام 1896، دون حساب المجندين في اللفيف الأجنبي التابع للقوات الفرنسية.

ويمكن التساؤل هنا عن طريقة عيش آلاف السويسريين في الجزائر. هل اندمجوا مع باقي الأوروبيين الذين استوطنوا الجزائر؟ جواب السفير عثمان بن شريف هو التالي:

“تبنى المعمرون السويسريون نفس الأفكار الاستعمارية تجاه الجزائريين، وكان اتصالهم بهم نادر جدا ويُختصر غالبا ضمن علاقة المُـستعمِـر بالمُـستعمَـر”.

تبعا لوجهة النظر هذه أو ما هو حقيقة تاريخية في واقع الحال، تبدّلت وضعية السويسريين في الجزائر جيلا بعد جيل، إلى أن خرجوا من الجزائر عام 1962 بعد أن رفضوا استقلال الجزائر عن فرنسا.

لا تتوقّـف العلاقة بين الجزائر وسويسرا إلى هذا الحد. فموقف أصحاب الأصول السويسرية في الجزائر المستعمَـرة، كان مختلفا عن آراء السويسريين الذي أيّـدوا استقلال الجزائر، ووقفت صحف سويسرية كثيرة مع الثورة الجزائرية.

يذكر السفير بن شريف أن اللجنة السويسرية لمحاربة العنصرية كتبت بيانا إبّـان الثورة التحريرية ردا على من قالوا بأن سويسرا لا دخل لها في ما يجري في الجزائر، ولا فائدة لها فيه، لأنها محايدة.

وجاء في هذا بيان: “الحياد السياسي لبلادنا، ولو أنه يمنعنا من التدخل في صراع لا يهددننا بالضرورة. فهذا لا يمنعنا بصفتنا مواطنين سويسريين من إعلان تضامننا مع أصحاب الحق”.

بمثل هذا الموقف، تشكّـلت شبكات جزائرية سويسرية جديدة لدعم الثورة، كما أنها شكلت بعد استقلال البلاد شبكة علاقات سياسية واقتصادية استفاد منها البلدان فيما بعد.

إيفيان الجزائرية!

أما في المدارس، فيتعلم التلميذ الجزائري أن إيفيان الفرنسية المطلة على سويسرا والتي تشارك جنيف ولوزان ومونترو بحيرة ليمان، هي التي شهدت المفاوضات الحاسمة لاستقلال الجزائر، وأن سويسرا ساهمت بشكل مُـلفت للانتباه في مساعدة الحكومة الجزائرية المؤقتة، وأن هذه المساعدة أزعجت فرنسا الاستعمارية، غير أن الواقع أظهر أن التاريخ يتغير ولم يعد بالإمكان رؤية سويسريين يرافقون القوات الاستعمارية أو يستغلون وجودها.

الطبيعة لا تتحمل الفراغ. فإذا لم يكن هناك مُـستعمَـر ومُـستعمِـر، يحل محل الكره أو العزلة شيء آخر يراه السفير بن شريف الانتماء إلى هوية البحر الأبيض المتوسط، لأن بحر الحروب والمذابح هو أيضا منبع الحضارة البشرية ومهدها.

وممن يُمثلون هذا الاتجاه، وقد خصص لهم بن شريف مكانا في كتابه، شارل إدوارد جانّـري ، فنان سويسري قدير، قال بالحرف الواحد: “أنا متوسطي”.

تأثر جانّـري بالجزائر ومناخها ومبانيها، وهو يمثل، حسب السفير بن شريف، حلا لمُـعضلة الشمال والجنوب، وهو ليس حلا من أجل الحلول، بل لأن التعايش أمر ممكن ولا يمكن أن يتحقق إلا عبر أناس يؤمنون به.

وتبعا لحركية الحضارة الأوروبية بمنطقها وآلياتها وفلسفتها المختلفة عن نظرة الشرق إلى الدنيا، تمرد سويسريون على النظام السائد وبحثوا عن المذاق المختلف في بقايا حضارة الآخر.

من أشهر هؤلاء المغامرة والمتصوفة السويسرية، إيزابيل إيبرهارت التي انبهرت بالصحراء الجزائرية وبطرقها الصوفية المنتشرة في كل مكان. وتعتبر إيبرهارت صنفا نادرا ضمن الجالية الأوروبية في الجزائر في بداية القرن العشرين.

ولا يتوقف إعجاب الفنانين السويسريين بالجزائر وصحرائها وطرقها الصوفية. فهناك أيضا الفنان السويسري الشهير فريتيوف شيون الذي أعجب بشخصية الشيخ الصوفي أحمد العلوي، أحد الوجوه الصوفية البارزة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

تمثل المتوسطية الحل الوحيد للتجاذب الحضاري بين ضفتي البحر المتوسط، وإلا فكيف يمكن وصف التقارب الحالي بين الأجيال الجديدة في الجزائر وسويسرا؟

لابد من وجود شيء يجمع بينهما لأن التاريخ المشترك ملغم بلوثة الاستعمار ولم يبق غير الانتماء إلى حوض واحد، ملك ما فيه وما حوله سجال الغالب فيه يحتاج إلى المغلوب، ونكران أحدهما يحول الآخر إلى عدم.

هيثم رباني – الجزائر

بدأ الاستعمار الفرنسي للجزائر عام 1830
بدأ توافد عدد من السويسريين على الجزائر المستعمرة عام 1850
معظم السويسريين استقروا في منطقة سطيف
استقلت الجزائر عام 1962

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية