مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سميح القاسم: “الحركة الوطنية الفلسطينية لم تبدأ بفتح ولا تنتهي بحماس”

الشاعر الفلسطيني سميح القاسم (يسار الصورة) والدكتور جون حايك رئيس جمعية الجالية الفلسطينية بسويسرا خلال الأمسية الشعرية - برن، 6 يونيو 2009. swissinfo.ch

يوم 19 أغسطس 2014، رحل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم بعد صراع مرير مع المرض عن عالمنا. الشاعر الكبير زار سويسرا في العديد من المناسبات، كانت آخرها سنة 2009، وفي تلك المناسبة خص الراحل سويس إنفو بحوار شامل وهام لا يزال يحتفظ بنضارته وجدّته كاملتيْن، رغم مرور خمسة اعوام شهدت فيها الأراضي الفلسطينية والمنطقة عموما العديد من الاحداث الجسيمة والتطوّرات المثيرة. 

كانت تلك الزيارة بدعوة من جمعية الجالية الفلسطينية بسويسرا، حيث أحي سميح القاسم أمسية شعرية في مدينة برن، العاصمة الفدرالية لسويسرا يوم 6 يونيو 2009 ألقى فيها بعض قصائد الوجع الفلسطيني التي صفّق لها الحضور العرب والسويسريين طويلا.

الأمسية كانت مناسبة لتقديم عدة مداخلات حول أوضاع الاراضي المحتلة، والاوضاع الإنسانية المأساوية لأكثر من مليون ونصف فلسطيني يعيشون في قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي (ديسمبر 2008 – يناير 2009)، كما كانت التظاهرة مناسبة للتاكيد على وحدة الشعب الفلسطيني بكل هيئاته، وطوائفه، ونخبه. وفي ما يلي نص الحوار:


سويس إنفو: قلتم في إحدى المناسبات: “نحتاج نحن العرب إلى تفجير نووي على مستوى العقل والوجدان والذاكرة”، ما الذي يُـزعجكم في هذا الوعي العربي؟

سميح القاسم: الذي يزعجني ليس الوعي العربي، بل غيابه، الذي يسود اليوم هو غياب الوعي وليس الوعي. لأن الوعي الحقيقي ينبغي أن يذكّرنا بأن مكاننا بين شعوب الأرض يجب أن يكون أفضل مما هو عليه الآن. نحن أبناء أمة طيبة ومتواضعة، أضاءت بحضارتها الإنسانية العالم ثماني قرون، فلا يعقل أن نسقط على هذا الدرك، نحن اليوم متهمون بالإرهاب، وبالكراهية، وتلحق بنا كل الصفات اللاإنسانية. هذه الصفات غريبة علينا، نحن لسنا إرهابيين، بل نحن ضحايا الإرهاب، ولسنا عنصريين، بل ضحايا العنصرية.

في ثقافتنا ، وفي تاريخنا، وفي أدياننا، الإسلام والمسيحية واليهودية، وهذه الأخيرة أيضا هي نتاج أرضنا، والعصر الذهبي لليهودية لم يكن في أوروبا، ولا في أمريكا، بل عاشه اليهود في كنف الحضارة الإسلامية في الإندلس. لذلك كله لا نستحق نحن ابناء هذه الامة أن تُشاع عنا هذه الصورة القبيحة، وعلينا تقديم الصورة الحقيقية عن ذواتنا، صورة المحبة والتسامح واحترام التعددية.

لا مكان في حضارتنا للكراهية، ولكن حينما تكون عرضة للإحتلال، وللقمع وللعنصرية، ومناطق كثيرة في الوطن العربي مازالت محتلة من طرف قوى أجنبية، فلا يتوقعنّ أحدا منا أن نسكت عن الإحتلال والإذلال وعن الإهانة، واغتصاب الحقوق. لذلك، انا أريد ما سميته بـ “التفجير النووي في وعينا كأمة” حتى نسترد مكانتنا الصحيحة بين شعوب الأرض.

سويس إنفو: أنت احد أعلام أدب المقاومة. بعد ان أصبح السلام “الخيار الإستراتيجي الوحيد” للعرب في مواجهة المستعمر، هل مازال هناك مكان لهذا النوع من الأدب والشعر؟

سميح القاسم: البعض يُسيئون فهم مقولة “أدب المقاومة”. المقاومة في جوهرها رد فعل على الإحتلال والقهر، وعلى القمع والعنصرية، لذلك ما دامت هذه المظالم جاثمة على صدورنا، فالمقاومة فعل مطلوب. في فرنسا زمن الغزو الألماني كان هناك مقاومة، وفي أوروبا كلها كان هناك مقاومة، وحينما كانت أمريكا مستعمرة بريطانية كان هناك أيضا مقاومة. عبر تاريخ الشعوب الطويل كانت المقاومة أمرا مشروعا.

أنا أتمنى ان يزول الظلم على شعبي وعلى وطني، وعلى أمتي، حينها سيكون لديّ متسع لكتابة أجمل أشعار الحب، وأجمل أبيات الغزل. نحن لم نختر المقاومة، وهي ليست رياضة قومية، أو هواية جذابة، ولم نُنجب أطفالنا ليقذفوا الحجارة وزجاجات المولوتوف، بل أنجبناهم ليعيشوا حياة حرّة وكريمة، ويتعلموا ويتقدموا ويساهموا بإيجابية في بناء عالم اليوم كما فعل أجدادهم من قبل. لكن، حينما يسلط علينا المستعمر جرائمه، على مرأى ومسمع من العالم، فكيف يحق لهم أن يلوموننا أو يتهموننا بالإرهاب، إذا دافعنا عن أنفسنا؟.

سويس إنفو: الثقافة “خندق العرب الأخير” كما تقول. ما هو الدور المطلوب اليوم من المثقف العربي لكي يكون في مستوى التحديات التي تواجه أمته؟

سميح القاسم: وضع أي امة مرهون بموازين القوى الدولية على المستوى الإقتصادي والسياسي والعسكري، ولا يشذّ عن ذلك وضع الأمة العربية. للأسف الشديد، النظام الرسمي العربي هو جزء من لعبة تاريخية، إسمها “لعبة سايكس – بيكو”، والتي كان هدفها تجزئة العالم العربي الواحد إلى دويلات بحدود غير مبررة، وغير منطقية جغرافيا وحضاريا، وهي كيانات غير قادرة على خدمة مواطنيها.

أمام هذه الحقيقة، على المثقف العربي أن يُـشـخّـص أوّلا الحالة التي نعيشها، ليطرح لاحقا الأفكار البديلة عن الوعي السائد. الفكر السائد إما فكر متشدد قوميا واجتماعيا ودينيا، أو فكر انهزامي وعدمي واستسلامي. على المثقف العربي أن يقدّم الطريق الثالث: الفكر القومي التقدمي الإنساني والمتنوّر، والحر في نفس الوقت. ولا يمكن ان يقوم بذلك إلا إذا رفض أن يكون تابعا لنظام أو لسلطة. التفكير الحُـرّ يتطلب أن يكون المثقف خارج دائرة الضغط الرسمي، والضغط الظلامي، وضغط التخلّف. عليه أن يحترم هويته من دون انغلاق.

ومن هذا المنطلق أرفض القول أن الحضارة الغربية عدوة للعرب وللمسلمين. هذا طرح سخيف وجاهل، ومتخلف. الحضارة الأوروبية هي الإمتداد الشرعي للحضارة العربية والإسلامية، وهي صديقتنا، ويجب ان نستفيد منها بقدر ما استفادت هي من تراث أجدادنا. اليوم لدينا كثير من الإستشهاديين بأحزمة ناسفة، وأنا أريد مثقفين إستشهاديين بثقافة ناسفة وعقول ناقدة.

سويس إنفو: حلم الجيل العربي في العقود الماضية بمجتمع عربي، علماني وديمقراطي، لكن هناك في الواقع عودة قوية للفكر الديني، وتحكم أنظمة شمولية في المصير العربي. هل يشعر سميح القاسم، أحد أبناء ذلك الجيل بحسرة وخيبة أمل؟

سميح القاسم: هو شعور بالخذلان، وليس باليأس، لديّ مرارة شديدة، أعبّر عنها في قصائدي وسردياتي، لديّ إحساس بالألم كذلك من دون شك، لكن لن تجد لديّ شيئا من اليأس. اليأس رفاه، باهض التكاليف، لا نستطيع تسديد فاتورته، وهو يعني الإنتحار، والتسليم بأننا على خطأ، وأن خصمنا على صواب. وفي الحقيقة نحن على صواب، وليس خصمنا.

أما الحال الراهن، هذا التنقل الفاجع بين الإستبداد والظلامية، فهو أيضا مسألة ليست قدرية. نحن قادرون على قلب هذه المعادلة. أنا أؤمن بأن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة متنورة، وليست ظلامية. ديننا مفعم بروح التسامح، والإنسانية و قيم التعددية، وعلينا حمل تلك النصوص على تأويلات سليمة. لكن لدي بركان من الغضب، كيف يمكن أن يكون رد فعلي وأنا أقرأ أن أكثر من 50% من أبناء أمتي يعيشون على دولار واحد باليوم. أدعو إلى بناء ثقافة ناسفة، وإلى المثقف الحر، وترعبني كثيرا عمالة المثقف لهذه السلطة أو لتلك، سواء كانت سلطة الإمارة أو المال أو الجند.

المزيد

سويس إنفو: هذه الأحلام التي لم تتحقق، ألا تتطلب من جيلكم مراجعات جذرية على مستوى المنطلقات والمفاهيم، كالموقف من التعبيرات السياسية الجديدة التي تشق الشارع العربي؟

سميح القاسم: أوّلا أحلامنا لم تكن خطاً، حلمت بالوحدة العربية، وبتحرير الأرض المغتصبة، وبالعدالة الاجتماعية لأبناء وطني، وهذه كلها أحلام مشروعة، الذي يجب ان يعتذر هو من وقف ضد تحقيق هذه المطالب، وليس من حلم بها، الخطأ في قوى الشر، وقوى العدوان والكراهية. وثانيا من قال إن تيارات مثل حزب الله، وحماس تيارات ظلامية؟ أنا لم اقل هذا. في الحقيقة هناك قوى ظلامية تريد تحويل قوى المقاومة إلى قوى ظلامية. كقوة مقاومة، نحن معهم، لكن من حيث القيم، أنا أريد أن تتحول المقاومة الدينية إلى تيار متنور ومتقدم، هناك الآن حرب على الروح الدينية كما كانت هناك حرب بين حركات التنوير والمؤسسة الكنسية في أوروبا في عصر التنوير. وكما انتصرت الديمقراطية في أوروبا، وكسبت قلب المواطن المسيحي، أنا أريد أن تنتصر النورانية في بلاد المسلمين، وان تفوز الديمقراطية بقلب هذا المواطن المسلم.

سويس إنفو: من الواضح أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد غيّرت مفردات خطابها تجاه الشرق الأوسط، هل تعتقد كمثقف فلسطيني أن إدارة أوباما جادة في مسعاها لتحقيق السلام المنشود؟

سميح القاسم: انا لن اكتفي بالقول إنما الأعمال بالنيات، ولكل إمرئ ما نوى، لأن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتيْن، ونحن لدغنا من هذا الجحر مرات. لا أحاكم نظام أوباما من خلال تصريحاته، أو من خلال لون بشرة قادته، فانا لست عنصريا. أريد أن ارى وقائع على الأرض، أريد من هذه الإدارة إيقاف الإستيطان، وفرض الشرعية الدولية، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإقامة دولة وطنية عاصمتها القدس الشريف. هذا هو الفصل بيننا وبين هذه الإدارة.

سويس إنفو: في خطاب القاهرة دعا باراك أوباما الفلسطينيين إلى الإقتداء بالسود الأمريكيين في نضالهم السلمي من أجل الإنعتاق والحرية، هل يوافق الفلسطينيون على نبذ العمل المسلح؟

سميح القاسم: أتمنى على باراك أوباما أن يقرأ التاريخ قراءة عميقة، الأمريكيون السود لم يحصلوا على حقوقهم من خلال المظاهرات السلمية فقط. لقد قتل وعذّب منهم الآلاف، ودافعوا عن أنفسهم ايضا بكل الوسائل، ولم يعدموا أي وسيلة من أجل الحرية والإنعتاق. وهكذا كان الأمر في الهند في عهد غاندي، أو في جنوب إفريقيا بزعامة نلسون مانديلا. لقد فعلنا نحن الفلسطينيون ذلك أيضا ومن ابناء شعبنا من وضع الورود في فوهات بنادق الجنود الإسرائيليين بعد اتفاقيات أوسلو، لكن الرد كان الرصاص الحقيقي والرصاص المطاطي على زهرات وبراعم شعبنا.

سويس إنفو: مؤلم ان يكون الوطن تحت الإحتلال، والمؤلم أكثر أن يتقاتل الأشقاء. كيف تعيشون حالة الإنقسام السائدة اليوم بين ضفتي الوطن؟

سميح القاسم: أنا لا اعيش حالة الإنقسام، انا أموت حالة الإنقسام. هذه حالة فاجعة ومُهينة، حالة مؤلمة جدا. لكن، أيضا لا يجب أن ننسى أن هناك قوى خارجية تغذّي هذا الصراع، وتتسلى بعذاباتنا، وترقص على أشلائنا. إنه صراع دولي، نحن وقوده. ومن دون شك أنا ضد هذا الإقتتال.

سويس إنفو: هل معنى هذا أن الحركة الوطنية الفلسطينية اضاعت البوصلة؟

سميح القاسم: الحركةالوطنية الفلسطينية لا تبدأ بفتح، ولا تنتهي بحماس. لا تؤاخذوني، واقبلوا تواضعي، أنا دخلت السجون الإسرائيلية من أجل القضية الوطنية، قبل أن تسمعوا عن فتح أو حماس، أو عن ياسر عرفات، أو أحمد ياسين، أو جورج حبش أو نايف حواتمه… قبل هؤلاء جميعا كان هناك مناضلين شرفاء يواجهون العنصرية والإحتلال. الحركة الوطنية لم تبدأ بفتح، ولا تنتهي بحماس. الحركة الوطنية إحساس شعبي يمتد مداه إلى جميع المناصرين للقضايا العادلة.


يعد سميح القاسم واحدا من أبرز شعراء فلسطين المعاصرين، ويلقب بشاعر الثورة والمقاومة، ولد في عائلة درزية فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية عام 1929، ودرس في مدارس الرامة والناصرة، ودرّس أيضا.، وتوفي يوم 19 أغسطس 2014.

انصرف سميح القاسم مبكرا إلى العمل السياسي، وانخرط في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، قبل أن يترك العمل الحزبي ويتفرّغ لعمله الأدبي.

سجن سميح القاسم أكثر من مرة، كما وضع في الإقامة الجبرية بسبب أشعاره ومواقفه السياسية.

القاسم غزير الإنتاج والكتابة، وفي شعره حث على الكفاح والمقاومة، وحسرة على معاناة أبناء وطنه المسلوب، وما أن بلغ الثلاثين من عمره حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي، ومن هذه المجموعات “دمي على كتفي”، و”دخان البراكين”، و”رحلة السراديب الموحشة”، و”قران الموت والياسمين”.

من مؤلفاته ايضا مجموعة “كولاج”، و”رماد الوردة”، و”حسرة الزلزال”، وهو أيضا مؤلف “الرسائل”، كتبها بالإشتراك مع المرحوم محمود درويش، ومن اعماله أيضا “مطالع من انطولوجيا الشعر الفلسطيني في الف عام”.

شارك سميح القاسم في العديد من المهرجانات الشعرية وأحيا السهرات الأدبية في مختلف بلدان العالم، وترجمت أشعاره للعديد من اللغات العالمية.

تأسست هذه الجمعية الأهلية في أبريل 2006، بمدينة برن السويسرية استجابة لرغبة الجالية الفلسطينية في سويسرا في توحيد جهودها ولمّ شملها. ومنذ ذلك الحين تحتضن هذه الجمعية العمل المشترك لجزء مهم من هذه الجالية العربية.

تهدف الجمعية بحسب ما ينص نظامها الأساسي إلى “التعريف بالهوية الفلسطينية، من خلال تنظيم جملة من التظاهرات الثقافية والإجتماعية”، كما تهدف إلى “تعزيز أواصر الصداقة مع أبناء الجاليات العربية الأخرى المقيمة بسويسرا، وعامة السويسريين”.

للجمعية موقع على شبكة الإنترنت هو عبارة عن منبر إعلامي ينسق من خلاله أبناء الجالية جهودهم على الصعيدين الإجتماعي والثقافي، ويسعى القائمون عليه إلى “توفير مساحة واسعة للرأي الحر النزيه في جو ديمقراطي لا تشوبه النزاعات الشخصية”.

كما يعتبر القائمون على هذه المؤسسة “مصلحة فلسطين وشعبها هي العليا، وهي همنا الأول والأخير”.

ومن المنتظر أن تصدر هذه الصفحة المتوفرة حاليا باللغتين العربية والألمانية، بلغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية