مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الأزمة السياسية في تونس تتأرجح بين محاولات التصعيد وآفاق الحل

"النهضة ديقاج" (أي ارحلي عن السلطة بالفرنسية)، شعارٌ رفعه المشاركون في اعتصام الرحيل مساء 6 أغسطس 2013 في ضاحية باردو القريبة من العاصمة التونسية قبالة مقر المجلس الوطني التأسيسي. Keystone

لم يكن يوم 6 أغسطس في تونس فقط مناسبة لإعادة طرح سؤال مَن قتَل شكري بلعيد بعد مرور ستة أشهر على اغتياله، وإنما جاء أيضا ليُعطي زخما جديدا لاعتصام نواب المعارضة بساحة باردو، المقابلة لمقر المجلس التأسيسي في ضاحية باردو، وذلك بعد الفتور الذي لوحظ خلال الأيام التي سبقته. فهل يكون هذا التاريخ بداية للخروج من المأزق؟

يتواصل الصراع السياسي في البلد الذي انطلقت منه انتفاضات الربيع العربي مفتوحا على احتمالات متعدّدة، بين الترويكا الحاكمة بقيادة حركة النهضة، المدعومة من قبل عدد من الأحزاب الصغيرة من جهة، وبين معظم حركات المعارضة الرئيسية، المسنودة من قِبل جزء حيوي من المجتمع المدني وبعض أطياف الرأي العام الحضري. ومنذ 25 يوليو 2013، تاريخ اغتيال النائب والناشط السياسي محمد البراهمي، يسعى كل طرف أن يحشر خصمه في زاوية حادة، وأن يلوي ذِراعه بغرض دفعِه إلى التّـراجع عن مواقفه أو تغييرها.

صورة قاتمة

من جهة، تطالب المعارضة بإيقاف المسار الإنتقالي في صيغته الحالية، من أجل وضع آليات جديدة له، وذلك من خلال حلِّ المجلس الوطني التأسيسي، الذي تعتبره قد فشِل في تحقيق مهمّته الرئيسية، ممثلة في كتابة الدستور، وكذلك الشأن بالنسبة للحكومة المدعوة إلى تقديم استقالتها واستبدالها بحكومة “إنقاذ وطني”.

في مقابل ذلك، يصف الإئتلاف الحاكم والمساندون له هذه المطالب بأنها دعوة للإنقلاب على الشرعية، ويعتقد بأن العلاج لا يكون بنسْف البيت، وإنما بإطلاق حوار وطني حول كيفية إنهاء المرحلة الإنتقالية قبل نهاية هذا العام.

حاليا، تبدو الصورة قاتِمة، حيث لا يزال كلّ طرف متمسّكا بالسَّقف العالي جدا الذي وضعه لنفسه، وهو ما زاد في حيرة التونسيين، خاصة في ضوء تصاعُـد مُواجهة الجيش وقوات الأمن مع المجموعة أو المجموعات المسلحة، التي لا تزال مُخْتبِئة في جبل الشعانبي، أو تلك التي تعدّدت عملياتها في عديد المدن التونسية بعد اغتيال المناضل الناصري محمد البراهمي.

فبعد مرحلة من الكمون والإختفاء، اختارت بعض هذه الخلايا، بتوجيه من قيادتها الميدانية والسياسية حسبما يبدو، القيام بعدد من العمليات المُتفرقة، بهدف تحقيق المزيد من الإرباك السياسي وتخفيف الضغط على المجموعة المحاصرة في جبل الشعانبي، مثلما تؤكّده المصادر الأمنية، إلا أن ذلك أدّى إلى قتل واعتقال عدد هامّ من هذه العناصر، التي وصفها وزير الداخلية بـ “المتشدِّدين التكفيريين”، دون ربطها بشكل مباشر بجماعة أنصار الشريعة المحظورة.

محاولة الإنقضاض على السلطة!

المفارقة هنا تمثلت في أنه بدل أن تدفع أحداث القتل (التي ذهب ضحيتها إلى حد كتابة هذا المقال البراهمي وتسعة جنود تونسيين، إلى جانب محاولات كادت أن تفضي إلى اغتيال شخصيات أخرى بمدينة سوسة، وتفجير بعض الأماكن العامة)، نحو التِفاف الجميع حول مؤسسات الدولة في مقاومتها للإرهاب، وبالتالي، تغيير الأولويات لدى المعارضة وتأجيل الخلافات السياسية، حسبما تطالب به الجهات الرسمية، حصل العكس تماما.

فقد رأت عدة أطراف أن تلك الأحداث قد “أدخلت البلاد من جديد في أزمة سياسية حادّة، وكشفت عن عجْز الترويكا على إدارة شؤون الدولة، وهو ما يقتضي إحداث تغييرات أساسية في قواعد اللّعبة السياسية، بسحب البساط من تحت أقدام حركة النهضة والعمل على إبعادها عن الحُكم” عن طريق حلّ المؤسسات التي تستند عليها، انطلاقا من الشرعية الإنتخابية التي كسبتها يوم 23 أكتوبر 2011. هذا الرأي دفع راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة إلى اعتبار ما يجري من حِراك احتجاجي، مجرد محاولة للإنقضاض على السلطة من قِبل “قوى الثورة المضادة”، التي تأكّدت من فشلها انتخابيا، بل وذهب إلى حدّ القول بأن الجماعات السلفية في تونس “مُخترقة من قِبل أحزاب في الداخل، تدفع بها نحو إسقاط حركة النهضة”، على حد زعمه.

استنساخ التجربة المصرية؟

تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن ما يجري في مصر يكاد يكون جاثِما بكثير من تفاصيله في الخيال السياسي لكثير من الأطراف الفاعلة. لذلك، تسعى بعض الشخصيات المعارضة إلى تصوير المشهد التونسي بعبارات وصِيَغ مُستوْحاة من الحالة المصرية، وذلك بالرغم من اختلاف السياقات والأدوار والفاعلين الرئيسيين.

فمن جهة، أكد الجيش الوطني التونسي من جديد في بيان صادر عنه، عدم الزج به في الصِّراع السياسي الراهن، معطيا الأولوية للحرب التي يديرها ضد المجموعات الإرهابية. كذلك الشأن بالنسبة للمؤسسة الأمنية، التي تطالب دوريا باحترام حيادها وإبعادها عن التجاذبات الحزبية.

في هذا السياق أيضا، تم استنساخ صيغة الإعتصامات المُتوازية بين طرفيْ الصراع والدفع نحو الإستئساد بالشارع، إلى جانب استعمال مصطلحات مشحونة، مثل الإنقلاب والإعتصام والشرعية وغيرها، وهو ما جعل بعض المبادرات التي ترمي إلى نزع فتيل التوتر بين الطرفين هذه الأيام تنصّ في وثائقها على أن “محاولات استنساخ التجربة المصرية، ليست فقط أمرا عقيما، وإنما هو أيضا عمل من شأنه أن يزجّ بتونس في سيناريوهات مُكلِفة وافتراضية”.

وعد رئيس الحكومة التونسية علي العريض الخميس بان تبذل حكومته كل جهدها من اجل ان تحل بواسطة الحوار الازمة السياسية الناجمة عن اغتيال المعارض محمد البراهمي في 25 يوليو 2013.

واكد العريض في بيان اصدره بمناسبة عيد الفطر ان “الحوار هو السبيل الامثل لتخطي الصعوبات الماثلة ولحل الإشكاليات القائمة”. واضاف ان “الحكومة لن تدخر جهدا في دعم الحوار والعمل على تسريع وتيرته”.

وهذا رد الفعل الاول لرئيس الحكومة منذ تعليق اعمال المجلس الوطني التأسيسي مساء الثلاثاء 6 أغسطس بقرار من رئيسه مصطفى بن جعفر إلى حين “بدء حوار بين السلطة والمعارضة” لحل الازمة السياسية.

وبعد يومين من هذا الاعلان وتظاهر عشرات الالاف من معارضي السلطة في العاصمة التونسية لم يعلن بعد عن اي موعد او اتفاق مبدئي على عقد محادثات.

ويطالب عدد من احزاب المعارضة من يمين الوسط الى اقصى اليسار باستقالة حكومة النهضة وتشكيل حكومة انقاذ وطني من شخصيات مستقلة وبحل المجلس الوطني التأسيسي.

ويوم الاربعاء 7 أغسطس، اقترح الاسلاميون مجددا تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع الاحزاب السياسية، بعد ان اعلنوا في السابق انهم لن يتخلوا عن منصب رئاسة الوزراء ولن يقبلوا حل الحكومة احتراما للشرعية الانتخابية.

من جهة اخرى يسعى الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يضم 500 الف عضو من اجل تشكيل حكومة تكنوقراط ويؤيد بقاء المجلس التأسيسي في موقف يشاطره اياه الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية.

وتحمل المعارضة حركة النهضة المسؤولية عن ازدياد نفوذ التيار السلفي الذي تواصل هجماته زعزعة الإستقرار في تونس.

(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب. بتاريخ 8 أغسطس 2013)

احتمالات التوصل إلى حل.. قائمة!

هل هناك أفُق ممكن للخروج من الأزمة الراهنة؟ هذا هو السؤال على ألسنة الجميع اليوم في تونس. وبالرغم من أن مواقف الطرفين المتنازعين تبدو بعيدة ومتعارضة جوهريا، إلا أن عديد المؤشرات قد تدلّ على أن التوصل إلى حلّ، يظل احتمالا ممكنا.

أولا: أظهرت الوقائع أن كل طرف لا يزال يتمتّع بالقدرة على الصمود وإيذاء خصمه، مما يعني وجود شبه تعادُل في موازين القوى، وسيكون من الصعب أن ينفرد أحدهما بالقرار ليوجّه ضربة قاضية للآخر.

ثانيا: يعتبر القرار المفاجئ الذي أعلن عنه مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس الوطني التأسيسي، يوم 6 أغسطس مساء بتعليق الأشغال إلى لحظة انطلاق الحوار الوطني بين الأطراف السياسية، تأكيدا على أن المؤسسة الرئيسية في الدولة قد تضرّرت بسبب انسحاب 65 نائبا منها، ولم يبق عن الثلث المعطّل لسير أشغاله سوى خمسة فقط، كما تراجعت أهمية دور المجلس بعد أن أصبح فضاءً “لسماع الصوت الواحد”.

ثالثا: تعدّدت المبادرات في الأيام القليلة الماضية، التي قامت بها أطراف عديدة، وذلك بهدف تقديم مقترحات عملية للخروج من الأزمة، وهو ما يؤشر على وجود اقتناع لدى عديد المؤسسات والشخصيات في البلاد، بضرورة الخروج من المأزق الراهن، وذلك عبْر الحوار والإستعداد لتقديم تنازلات جديدة ومُؤلمة في الآن نفسه.

رابعا: وجود أخبار عن حوار ساخن داخل أطُر حركة النهضة، كشف عن تبايُن وِجهات النظر حول كيفية مواجهة الأزمة، خاصة بعد أن عجزت الجهود السابقة في التخفيف من حدّتها، وبعد أن سُجّل تراجع شعبية الحركة في استطلاعات الرأي الأخيرة، ويبدو أنه من غير المنطقي أن تجد الحركة والحكومة نفسيهما غير قادرتيْن على عدم الأخذ بعيْن الإعتبار اتِّساع رُقعة المطالبين بتغيير فِعلي وشامل للحكومة الحالية.

مخاض صعب

ضمن هذه القوى المطالبة بتغيير الحكومة نجد الإاتحاد العام التونسي للشغل (أهم مركزية تقابية) واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (اتحاد أرباب العمل)، إلى جانب وجود تململ في أوساط الشريكيْن الرئيسييْن لحركة النهضة في السلطة، وخاصة في حزب التكتل الديمقراطي للعمل والحريات، حيث لم يعد مُستبعَدا أن يقرّر هذا الإنسحاب من الترويكا “إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة ترتقي إلى مستوى الأزمة وحجمها”، حسب تصريحات بعض قياداته.

ومن هذه الزاوية، أصبحت حركة النهضة مدعوة إلى التفكير بجدِية في البدائل، بما في ذلك احتمال التنازل عما اعتبره الغنوشي يوم الإثنين 5 أغسطس “خطا أحمر”، ويقصد به استبدال رئيس الحكومة علي العريض.

بعد عطلة العيد، ينتظر أن تكون الأيام القليلة القادمة حُبلى بالحِراك والمفاجآت السياسية والإجتماعية. ومع أنه من المؤكّد أن تونس تمُرّ بمخاضٍ صعبٍ، وأن كل طرف سيُحاول الحد من خسائره إلى أقصى حد، إلا أن الثابت، هو أن التونسيين يعيشون في هذه الأجواء الساخنة والصعبة على أكثر من صعيد، حالة قلق شديد ويشعرون بأن مستقبلهم “يكاد يُصبح رهينة المتحكّمين في اللعبة السياسية”.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية