مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

فوزية أسعد: “في جنيف، يحلو المقام”

swissinfo.ch

على بعد مسافة قصيرة جدا من بحيرة جنيف، وعلى الضفة المقابلة للمقر الأوروبي للأمم المتحدة، وعلى بعد أمتار قليلة من مستشفي للعلاج المستمر، تسكن الدكتورة فوزية أسعد فيلاّ شاسعة يحيطها حزام أخضر، وتظللها أشجار وارفة.

نصف قرن من الإقامة في سويسرا لم يمنع هذه الكاتبة والروائية من مواصلة سبر أغوار التراث المصري القديم الذي ترى فيه “منبعا للفكر الخلاّق، ومصدرا للعبقرية الشرقية”.

مثلما كان قدامى المصريين يلجؤون إلى الطقوس الدينية والأساطير لطرد شبح الجفاف واستدرار فيضان النيل، تدعو الكاتبة والروائية المصرية إلى العودة إلى الفن والجمال لإيقاف عجلة الدمار والحروب.

وتقول فوزية أسعد: “عند قدامى المصريين، كان الفن الخلاّق يبعث الحياة في الموات. لكن الممارسة الفنية اليوم فقدت فعاليتها، لأنها غيبت المعنى الكوني للفن، فتحول إلى سلعة رخيصة للدعاية والاتجار”.

وفي حديث إلى سويس انفو، تلخص فوزية أسعد تجربتها الفنية من خلال التأكيد على أن ما ينقص الشرق اليوم هو الإبداع الخلاّق، “فعندما أوقفنا فيضان النيل، ساد الخراب ديار الشرق، وأهملنا الأشياء الجميلة التي كان يستخدمها القدامى لإعمار الكون، واستبدلناها بأشياء سيئة تحركها الغرائز، والرغبة في التسلط والتفوق”.

وتأسف هذه المصرية المتشبعة بتراث بلادها “لكون مصر الحديثة أخذت من التراث الإغريقي والفارسي أكثر مما أخذته من قدامى المصريين”.

الكتابة الروائية

أما رحلتها مع الكتابة، فقد بدأت منذ أربعين سنة، وتحديدا بعد الظروف الصعبة التي ألمت بمصر جمال عبد الناصر على إثر هزيمة 1967، التي تقول عنها: “كانت أياما مرة وقاسية جدا جعلتني أحترف كتابة الرواية. كنت في جنيف الدولية، عندما أجلس إلى سفرة عشاء، وأحكي عن نفسي وعن ظروف بلدي، أرى من هم حولي مستغربين ويتساءلون: من أين لفتاة مصرية بهذا الذكاء والفطنة؟!”.

وصادف أن تزامن هذا مع تخصيص الأمم المتحدة لعشرية “المرأة الكاتبة” (1975-1985)، فطُلب منها تأليف رواية عن وضع المرأة المصرية، فكانت “المصرية” رواية “وفرت لي فرصة للتعبير عن نفسي وعن أهلي وبلدي، وعن حضارتنا وثقافتنا”.

وتميل هذه الكاتبة النشطة إلى استعارة الصور الأسطورية في مؤلفاتها، وعن ذلك تقول: “يتهيأ لي أن الأسطورة أفضل نموذج للتعبير عن تصرفات الإنسان”. وقادتها هذه الاستعارات إلى الخلط بين الرواية والفلسفة وإلى الغوص في “دراسة المصريات”.

هذه الدراسة التي كرست لها فوزية أسعد أغلب أعمالها الأدبية والفلسفية لا تكمن أهميتها في مضمونها المعرفي فحسب، بل في التأكيد على أن “الفن والجمال هما سر البقاء والحياة، فقدامى المصريين كانوا يقدمون القرابين ويبتكرون الأشكال الفنية المختلفة من أجل استرضاء الآلهة لتطلق فيضان النيل، فتعود الحياة بعد الممات”.

العودة الأبدية

وكان إيقاع حياة المجتمع المصري وفكره محكومين بفكرة التضاد الذي لا يلغي التكامل، وهي “فكرة مستمدة من حركة النيل الذي يجف وينهض، وحركة الشمس التي تغيب وتظهر، والصحراء التي تمتد لتعود إلى الالتحام بالوادي من جديد”.

هذه التأملات شكلت قراءة مخالفة لما هو متداول حول تاريخ الفلسفة، وتقول الكاتبة: “يكتشف دارس التراث الفرعوني المصري لغة أخرى ونسقا فكريا آخر له منطقه الداخلي الخالص”. ففكرة الديالكتيك، التي يرجعها المعاصرون إلى هيجل، يجسدها الفراعنة المصريون القدامى، وتجسدها شخصية أخناتون في الرواية الأخيرة “اخناتون ونفرتيتي وحتشبسوت”.

وعلى خلاف الفلسفة اليونانية التي تتمحور حول “الكينونة” «le verbe Etre»، يتركز فكر الشرقيين حول الحركة والفعل “le mouvement”. ووجدت فوزية أسعد في مفهوم “الفرعونية” نفسه حضورا لفكرة “إرادة القوة” التي ينسبها الدارسون إلى نيتشه: “ففرعون يمثل البيت الكبير، أو القوة القاهرة، التي توحد المتضادات، وتألف بين مصر العليا ومصر السفلى، وهذه القوة هي التي تحفظ بقاء الجمادات والأحياء”. وهو ما يفتح الباب أيضا لفكرة “العود الأبدي”، التي لا تقل حداثة ومعاصرة عن سابقاتها.

هذه الإشراقات الفلسفية من شأنها إعادة الاعتبار إلى الفكر الشرقي القديم الذي كان ضحية الأفكار العامة المبسطة، والقراءات المتحاملة المتغافلة.

فساد النخبة

وترى فوزية أسعد أن المجتمعات العربية تتعرض اليوم إلى مؤامرة كبرى، وتناولت ذلك بالتفصيل في “أطفال وقطط”، ثالث رواية تكتبها في سويسرا. ويرى النقاد أنها دراسة اجتماعية عميقة لواقع المجتمعات العربية الحديثة، وليست رواية بالمعنى التقليدي.

ويمكن تلخيص أطروحة تلك الرواية في “قصة ملك أراد أن يختار له وزيرا. فقرر اختبار المترشحين لهذا المنصب، ويتمثل الاختبار في حمل كيس مملوء بالفئران من البصرة إلى بغداد، وفشل الجميع في الاختبار لأن الفئران تقضم الكيس وتفر، إلا مترشح واحد نجح في المهمة، وعندما سأله الملك عن سر نجاحه، أجاب: كلما هدأ الفئران واستعدوا لقضم الكيس، خضخضت الكيس بقوة، فعادت الفئران للخصام في ما بينها، وعض بعضها البعض، وتركت الكيس في حاله، وهكذا إلى أن وصلت إلى بغداد”.

وتريد الكاتبة بذلك القول أن ما تعيشه المجتمعات العربية من حروب طائفية ونزاعات قبلية، هي بفعل نخبة فاسدة متسلطة في الداخل، تلعب دور الوكيل عن قوى دولية في الخارج، هدفها إلهاء الشعوب بنزاعات هامشية عن تحقيق تطلعاتها في التنمية والازدهار.

وترجع فوزية أسعد ما يعيشه المجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية من أزمة قيمية وأخلاقية أيضا إلى “مشكلة الفقر، وشراء ضمائر الناس بالأموال، ورهن خياراتهم، فاليوم في العالم العربي، من يملك المال يمتلك ضمائر الناس ويتحكم في قرارهم”.

وأما العامل الثالث المحدد للوضع العربي الراهن، بحسب فوزية أسعد، هو المواجهة المحتدمة بين الشرق والغرب، والتي تتخذ يوما بعد يوم طابعا دينيا. فالشرق يريد الإنعتاق من التبعية للغرب بالعودة إلى هويته الدينية، والغرب يريد المحافظة على هيمنته بالقوة العسكرية، “وكلا المعسكرين خاطئ، وعلينا تحديد اختياراتنا المستقبلية من خلال مصلحة مجتمعاتنا، وليس من خلال تقمص صورة مضادة للغرب، فإذا كان الغرب ماديا، أوغلنا نحن في التدين”.

جنيف، المدينة المضيافة

في جنيف، مهد العولمة، أمكن لفوزية أسعد الكتابة بحرية ومصداقية حول قضايا تلتقط خيطها كلما زارت أرض الكنانة، وقد يكون ذلك الخيط كلمة أو جملة غير كاملة، أو موقفا ملفتا للنظر، لكن شاعرية تلك الصورة ولبوسها اللغوي لا يكتملا إلا بالعودة إلى جوار بحيرة ليمان بجنيف. تقول الكاتبة: “عندما أكون في مصر، لا تكون لدى تخيلات شعرية”. وليس ذلك بسبب الرقابة الرسمية، “فالرقابة موجودة هنا أكثر مما هي في مصر، أعني رقابة وسلطة دور النشر، هذه الدور الملغمة، والتي لا غرض لها سوى تكديس المال”.

لكن السر يكمن في السكون والحياة الدولية، “فمن الأمم المتحدة، أعرف كل مشاكل الدنيا، ولو كنت في بلد ثاني، لضاقت بي الدنيا، لكن جنيف يحلو بها المقام”.

وفي حديثها إلى سويس انفو، كشفت فوزية أسعد على أنها تحظى باحترام وصداقة عائلات سويسرية عريقة، وهو ما يجعلها تفكر في عائلتها وتتساءل باستمرار: “لو لم تكن الظروف السياسية كما هي، لكانت مصر مثل سويسرا، لقد كان حظهم جيدا بعد الحرب العالمية، وكان حظنا سيئا، دخلنا في حروب من دون جدوى، وفرطنا في وحدتنا، لكن لا شيء يمنع من تدارك ما فاتنا!”. هكذا تختم فوزية أسعد كلامها.

كيركيغارد، أب الفلسفة الوجودية (1960)

المصرية (1975)

الأطفال والقطط (1987)

البيت الكبير بالأقصر (1992)

الأحلام والزبالين بالقاهرة (2004)

أخناتون، نفرتيتي وحتشبسوت (2007)

بالإضافة إلى عدة دراسات أخرى في المجالين الفلسفي والأدبي.

ولدت فوزية أسعد في حي المخايل بالقاهرة، وتعيش في جنيف بسويسرا منذ نصف قرن تقريبا. وهي كاتبة وفيلسوفة حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة بجامعة السربون بباريس.

تتركز أغلب أعمالها الأدبية على وصف وتحليل التركيبة المعقدة للمجتمع المصري. ومن خلال العادات والمعتقدات والأساطير، ومن خلال الصور الهزلية والسياسة، تسعى إلى رسم طبيعة العلاقة الرابطة بين الغالبية المسلمة والطائفة القبطية المسيحية، وتتبع خيوط الهوية المصرية الضاربة في أعماق التاريخ، والمتواصلة إلى عصرنا الحاضر.

ولم تبدأ فوزية أسعد كتابة الرواية إلا سنة 1975، وسبق أن مارست التدريس في جامعة عين شمس. ثم تركت مقاعد التدريس لترافق زوجها الدكتور فخري أسعد بعد أن عين خبيرا بمنظمة الصحة العالمية ومقرها بجنيف.

فوزية أسعد أم لبنتين وولد يقيم اليوم بفيينا، وجدة لسبعة أحفاد، أصدرت العديد من المحاولات الفلسفية قبل أن تنتقل لكتابة الرواية والغوص عميقا في الدراسات المصرية، وكانت أول رواياتها “المصرية”(1975)، وآخرها “اخناتون ونفرتيتي وحتشبسوت” (2007). حصلت فوزية أسعد مرتين على الجائزة الكبرى للأدب بجنيف.

من ناحية أخرى، تحضر فوزية أسعد باستمرار جلسات مجلس حقوق الإنسان بصفة مراقب للدفاع عن حرية التعبير، وهي عضو في لجنة اختيار قائمة الأدباء المرشحين للإقامة بدار الأدب بلافيني، الواقعة في منتصف المسافة بين لوزان وجنيف، وكذلك عضو بالهيئة المديرة لـ “لجمعية الثقافية المصرية السويسرية” بجنيف.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية