مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

السينما التونسية في مُواجهة واقع مُعقّد ومتحرك

ساره عبيدي، مخرجة الفيلم التونسي "شط السلام" تتسلّم جائزة صندوق "رؤى جنوب شرق" ضمن فعاليات برنامج "سينما تحت المجهر" بالمهرجان الدولي للسينما الوثائقية بمدينة نيون السويسرية يوم 29 أبريل 2014 Delphine Schacher

قد لا يختلف واقع الإنتاج السينمائي في تونس ما بعد ثورة 14 يناير عما يمرّ به القطاع في البلدان العربية الأخرى حيث تتحكّم فيه ثلاثة تطوّرات عميقة ومهمّة تشمل التطوّر التكنولوجي وظهور السينما الرقمية، وانهيار الأيديولوجيات والمنظومات الشمولية، وولوج عالم عصر ما بعد الحداثة، وما يعتمل فيه من قلق وعدم يقين.

حلول السينما التونسية ضيفا هذا العام على الدورة الخامسة والأربعين للمهرجان الدولي للسينما الوثائقية بمدينة نيون السويسرية ضمن برنامج “تحت المجهر” الذي يسلّط الضوء على خمسة عشر فيلما تونسيا، بالإضافة إلى يوم دراسي، ومسابقة بين خمسة مشروعات سينمائية تونسية واعدة، وفّـر لـ swissinfo.ch فرصة مُلاقاة مع المنتج والناقد والمفكّر التونسي كمال بن ونّاس، وإجراء حوار مطوّل معه تناول الوضع الإنتقالي الذي تمرّ به الساحة السينمائية التونسية منذ اندلاع ثورة الياسمين.

السيد بن ونّاس أستاذ بجامعة قرطاج، ومؤلف وكاتب نشر العديد من المقالات حول أعمال سينمائية مختلفة، ورئيس سابق للجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي، كما يشغل منذ عام 2009 منصب نائب رئيس الفدرالية الإفريقية للنقد السينمائي.

swissinfo.ch: بشكل عام، ما هو الدور الذي يلعبه النقد في تطوير الإنتاج السينمائي وفي نشر الثقافة السينمائية؟

كمال بن ونّاس: الأهم من الإنتاج السينمائي هو الثقافة. ومن يشاهد فيلما طيلة عشر سنوات، من دون أن يقرأ حوله أي تعليق أو نقد، فكأنه لم يشاهده، وقد تترسّب في ذهنه صور متواترة، بدون أن يكون لهذه الصور معنى أو ترابطا فيما بينها. النقد السينمائي في جوهره هو خطاب على الخطاب، كلام على الصور، الهدف منه إعطاء فكرة وموقف واضح لهذا الناقد، ثم منح المتفرّج فرصة ليختبر ما فهمه وما لم يفهمه، أو هو يوفّر قراءة وتأويلية أخرى. وليس معنى هذا أن الناقد له معرفة أوسع من معرفة المتلقين الآخرين. هدف الناقد أيضا خلق فضاء للحوار مع المتلقي للعمل السينمائي، حتى يكون التواصل، وحتى يتجدد المعنى، وحتى تتسع دلالات الفيلم، لأن أي فيلم لا ينظر إليه المتفرجون بنفس المقاربة. الشريط السينمائي ككل خطاب له معاني ودلالات عديدة، هي متطوّرة ومتحوّلة مع الزمن. فالمعنى الذي نستشفه من الفيلم الذي شاهدناه في الستينات من القرن الماضي، لا يحصل لدينا المعنى نفسه لو أعدنا مشاهدته الآن. لو أخذنا الفيلم التونسي “الفجر” لعُمار الخليفي، أو فيلم “باب الحديد” ليوسف شاهين. هذا الفيلم الأخير عندما نشاهده اليوم لن تكون قراءتنا له نفس القراءة السابقة، لأننا آنذاك لم نكن نعرف أفلام شاهين التي جاءت بعد ذلك، فأفلام “الأرض”، و”عودة الإبن الضال”، و”الإسكندرية ليه”، و”المصير”،…، كما أن تطوّرات تاريخية كثيرة مرت على مصر منذ تاريخ إنجاز ذلك العمل… كل ذلك يمنحنا فرصة لنقدّم قراءة جديدة ومختلفة لشريط “باب الحديد”. المعنى في تطوّر، والذي يمنح فرصة الوعي بهذا الفارق هو الناقد.

swissinfo.ch: هل هناك مستوى واحد للنقد السينمائي؟

كمال بن ونّاس: بل هناك مستويات عديدة: النقد الذي يتحدث في الصحافة اليومية عن الفيلم كحدث ثقافي فقط، (تاريخ العرض، المنتج والمخرج، المكان،…) بما هو إبلاغ وإعلام. والنقد السينمائي الذي يضع الفيلم في إطاره العام الثقافي والتاريخي، وخطابه موجّه إلى المعنيين بالفن السابع، وأما المستوى الثالث، فهو المستوى العلمي الأكاديمي، الذي ينظر للشريط السينمائي كمادة ثقافية تستحق القراءة العلمية بحسب مناهج متعددة.

swissinfo.ch: حتى لا يسقط هذا العمل النقدي في الإسفاف، أو في التجريح وتصفية الحسابات مع المنتجين أو المخرجين، هل من ضوابط محددة يجب احترامها؟

كمال بن ونّاس: الخطاب حول السينما له نفس المعايير ونفس الأخلاقيات كأي خطاب آخر، ولا يجب إفراد النقد السينمائي بما لا يلزم به غيره. يجب أن نعطي للناقد الحرية والفرصة في أن يعبّر عما يراه، سواء كانت دوافعه موضوعية أو غير موضوعية. فهذا الأمر يرتبط بالحالة النفسية للناقد، ونحن لسنا في كنيسة أو مسجد. إذا جاء النقد لاذعا وغير موضوعي، على القارئ أن يتفطّن لذلك، ويعرف أن الموضوعية غاية لا تُدرك، وأن الذاتية، التي هي من طبيعة الإنسان، أمر محمود في الخطاب السينمائي. عندما يشتد النقد حول بعض الأعمال، فذلك إمّا للرهانات الكبيرة التي يعبّر عنها ذلك العمل، أو لغياب التواصل بين المبدع والإعلامي. المهمّ برأيي ليس المعايير والضوابط، بل ما يمتلكه القارئ من أدوات معرفية تسمح له بالتمييز بين ما هو نقد حقيقي، وما هو مجرّد مزايدات. ومن ذلك إطلاعه المُسبق على العمل الإبداعي قبل البحث عن النقد الذي وُجّه له، حتى لا نكون مثل القائل “هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب”.

swissinfo.ch: تتميّز الثقافة التونسية في العموم بالإنفتاح والإعتدال لأسباب تاريخية وجغرافية. هل ترى أن السينما التونسية أحسنت توظيف هذه الميزة؟

كمال بن ونّاس: علينا أن نتفق أوّلا على معنى “الإنفتاح”. إذا كان المقصود بذلك هو “الجرأة” في معالجة بعض المواضيع التي تُعدّ في بعض البلدان العربية من المحرّمات / التابوهات/ (جسد المرأة، العلاقات خارج مؤسسة الزواج، …) هي فعلا منفتحة بهذا المعنى، رغم أن بعض البلدان العربية الاخرى بدأت تتجاوز تونس في هذا المجال، كالسينما المغربية مثلا. أما الجرأة على المستوى السياسي إلى حد ما، فتفسير ذلك بحسب رأيي، أن النظام التونسي السابق في عهد بن علي كان يعتبر أن السينما فن نخبوي ولا تشكل خطرا عليه. وفي الوقت الذي حرص فيه نظام بن علي على إتاحة حرية كبيرة للإنتاج السينمائي لإعطاء نظرة في الخارج بأنه نظام ديمقراطي وحداثي منفتح، كان الفيلم في الداخل يُعرض في مهرجان أو اثنيْن، وأسبوعا واحدا في إحدى قاعات السينما، ثم يطويه النسيان. لكن الفيلم في حدّ ذاته، له من الجرأة والجمالية الحظ الوفير.

شكلت استضافة المهرجان الدولي للسينما الوثائقية بمدينة نيون السويسرية للسينما التونسية فرصة لأكثر من 15 فيلما لمصافحة الجمهور الدولي، وكان من بينها خمسة أفلام لا تزال مشروعات غير مكتملة جاء مخرجوها ومنتجوها إلى سويسرا لمحاولة إقناع المُموّلين الأجانب بتقديم الدعم لها.

فيما يلي تقديم موجز لهذه المشروعات التي شاركت أيضا في مسابقة للفوز بجائزة قدرها 10000 فرنك سويسري يمنحها صندوق “رؤى جنوب – شرق”، لأفضل شريط وثائقي من الجنوب:

فيلم “شط السلام”، للمخرجة ساره عبيدي، وهو شريط اختارت مخرجته النأي بنفسها عن نشوة الثورة، وحاضرة العاصمة، وعادت إلى مدينة قابس، القطب الصناعي بجنوب البلاد، لتعالج موضوعا خطيرا يتعلّق بالتلوّث البيئي. تنقلنا كاميرا هذه المخرجة التي ولدت ونشأت هناك، إلى أماكن، وتصوّر مشاهد، وتسجّل لمحات من حياة الناس البسطاء، مستفيدة من الإنفتاح وحرية الكلمة الذي يشهده هذا البلد المغاربي. وبفضل صراحة هؤلاء البسطاء المحليين، يكشف الفيلم الواقع الذي يختفي وراء تعقيدات هذه المدينة التي يخنقها التلوث الكيميائي.

فيلم “الخط العادي”، للمخرجة أريج سحيري، التونسية المقيمة بفرنسا والعائدة للإقامة في بلدها الأصلي بعد الثورة. الشريط يسلط الضوء على خط نقل حديدي قديم جدا يربط بين تونس العاصمة وغار دماء، المجاورة للحدود الجزائرية، ويشق مناطق الشمال الغربي التي يلفها الإهمال والنسيان. يقود أحمد، وهو مدير فني سابق بإحدى دور النشر، القطار القديم الذي يتوقّف باستمرار في منتصف المسافة بسبب العطب الذي يصيبه، وغياب الصيانة. يروي أحمد رحلاته عبر الفصول المختلفة، ورغبته في مغادرة هذا العمل لكي يصبح شيئا آخر، ويهرب من واقعه المر.

فيلم “الراب التونسي”، للمخرجة هند المؤدب، وهو عبارة عن رحلة في أدغال هذه الموسيقى الشبابية التي كانت تعبّر عن مقاومة النظام السابق، وأصبحت صوت الثورة بعد 14 يناير، لكنها لم تسلم، بحسب الشريط من التضييق والحصار، في السنتيْن الأخيرتيْن. وترى المخرجة أنها تمنح – من خلال أعلام هذه الموسيقى – الفرصة لكل الشباب التونسي لكي يعبّر عن وجهة نظره.

فيلم “زينب تكره الثلج”، للمخرجة كوثر بن هنية، ويروي الشريط قصة فتاة تبلغ من العمر تسع سنوات، وتسكن مع أمها وأخيها الصغير، بعد أن فارق أبوها الحياة، في بيت صغير بضواحي تونس الفقيرة. تقرّر الأم بعد وفاة الأب، إعادة بناء حياتها بالزواج من رجل كانت على علاقة به من قبل يقيم في كندا، وتضطر الفتاة إلى مرافقة الأم، لكنها سرعان ما تشعر بالضياع والفراغ، ويتحوّل حلمها بالعيش في كندا والتزلّج على الثلوج، إلى كابوس. قصة إنسانية مؤثرة.

فيلم “أنا كافر” للمخرج حمزة عيوني، يصوّر حياة عائلة تونسية، تخترقها كل التناقضات الفكرية والإجتماعية التي يزخر بها المجتمع التونسي الحديث. الأم أرملة تعاني من أمراض مزمنة، والشقيقة الكبرى أنجبت إبنا من خارج إطار الزواج، والشقيق الأكبر متعصب دينيا، والأخت الصغيرة ترتدي الحجاب خوفا لا قناعة. وخلال حفلة عشاء عائلية، يقرّر الشقيق الأصغر إعلام أفراد الأسرة بأنه أصبح “ملحدا”. هذا الشريط الوثائقي يريد تسليط الضوء على الإشكالات التي تعيشها الأسرة التونسية ومن وراها المجتمع بأسره.

تجدر الإشارة إلى أن جائزة صندوق “رؤى جنوب شرق” كانت من نصيب فيلم “شط السلام” ومخرجته سارة عبيدي.

swissinfo.ch: لعقود، ظلت هذه السينما كما يقال “رهينة المحبسيْن”، رهينة التوظيف السياسي للدعاية للحزب الحاكم، من جهة، وللمنظومات الأيديولوجية من جهة أخرى. هل تعتقد أن هذه السينما قد تحرّرت من كل ذلك بعد الثورة؟

كمال بن ونّاس: هذه المسألة معقّدة. السينما في العقود الماضية تم استغلالها للدعاية السياسية. نعلم أنه في عصر الإتحاد السوفياتي، كانت هناك وزارة خاصة بالسينما،… كانت في الواقع تسمية أخرى لوزارة الدعاية. وفي تونس، في بداية عهد الإستقلال، استعملها بورقيبة في الدعاية لنظامه، وللقيام على ذلك أسّس “الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية” (الساتباك)، ثم عندما ظهر التلفزيون صُرِف النظر عن السينما لصالح الشاشة الصغيرة. ودخلت السينما معترك التنافس الإيديولوجي، وكانت مرة ثانية، أداة ووسيلة، وليس غاية ثقافية في حد ذاتها. أما الآن، هناك ثلاثة عناصر تلتقي مع بعضها البعض لتجعل من السينما شيئا جديدا: الأوّل، هو التطوّر التكنولوجي وظهور السينما الرقمية، والثانية، هو انهيار الإيديولوجيات (أيّ حزب سياسي لم يعُد بمقدوره استعمال السينما للدعاية مثل استعماله للتلفزيون، وهذا ما يفسّر التجاذب الكبير اليوم في تونس حول الهيئة العليا للإتصال السمعي البصري “الهايكا”، بينما تبقى السينما وقضاياها في مكاتب النقابات والدوائر الضيّقة للمشتغلين بها). وأما العنصر الثالث، فهو ما يسمى بعصر ما بعد الحداثة.

swissinfo.ch: ما هي دلالات هذه التطوّرات الثلاث؟

كمال بن ونّاس: مع ولوجنا للعصر الرقمي، أصبح بإمكان أي انسان أن يصبح سينمائيا، بشرط أن يكون صاحب نظرة ثاقبة، ومواقف واضحة، وتجربة ثرية، والنظرة الفنية الإبداعية ليست رهينة أي تدريب وتعليم. وبهذا المعنى، كل رسّام أو فنّان، أو… يمكن أن يتحوّل إلى مبدع سينمائي. والدلالة الثانية، هو أن أي هيئة سياسية، في الحكم أو في المعارضة، لم يعد بإمكانها أن تستعمل السينما كأداة للدعاية، لأن ما يطلبه المواطن من الأحزاب اليوم ليس الأفكار بل برامج اقتصادية، وحلولا فعلية لمشكلاته اليومية. والأمر الثالث، هو أن الإنسان في عصر ما بعد الحداثة قد فقد الثقة في المنجز العلمي والتطوّر التقني، مما خلق حالة من القلق لأن العلوم تساعدنا في الحياة اليومية لكنها لا توفّر لنا السعادة التي نرجوها، أو أن تصلح أساسا للتواصل والترابط الإجتماعي. هذا الوضع يطرح على السينمائي المبدع أدوارا جديدة. لكن في نفس الوقت، السينما والفن عموما ليسا قادرين على تغيير الأمور، وإن كانا قادرين، وهو أهم، على تغيير مواقفنا ونظرتنا للمجتمع وللواقع من حولنا. السينما تزوّد المتفرّج بفطنة وذكاء يجعله منتبها ومتحفّزا لأشياء لم يكن يعطيها قيمة من قبل، وبذلك يُصبح الفرد نفسه منتجا للفكر وليس مجرد متلقي، لكن في حوار وتفاعل مع الآخر. وهنا نعود لما سبقت الإشارة إليه من أن الفيلم لا يمكن فهمه إذا لم يدخل المتفرّج في حوار مع الشريط، ومع الناقد، ومع الجمهور الآخر مثله.

swissinfo.ch: يرى البعض أن التغيير الذي شهدته تونس نهاية 2010 – بداية 2011، لم يفاجأ النخبة السياسية فقط، بل أربك أيضا المنظومة الثقافية التي كانت متحالفة مع العهد السابق. ما هو الطابع الذي سيسم سينما المستقبل في تونس؟

كمال بن ونّاس: منذ ثورة 14 يناير ظهر جيل جديد من المبدعين، له نظرة جديدة، وقيم يدافع عنها، وله طريقة خاصة في الإنتاج وفي التعامل مع الجمهور، أما التغيير الأهم فقد تجلّى على مستوى الموضوعات التي يتطرّقون إليها. السينما التونسية بدأت تتحرّر كما تحررت الكلمة عامة (البطالة، والهجرة، المخدّرات، الفساد الإداري،..). ثم ظهور الإسلاميين وترسيخ وجودهم كمركّب هام في المجتمع التونسي، خلق نظرة ووضعية جديدة. لكن علينا أن نكون حذرين، ولا نطلق العنان للتفاؤل، لأن هناك رقابة ذاتية لدى المبدع، وأصبح المجتمع أكثر فعالية في الدفاع عن قيمه. وإذا أصبح الحاكم في تونس لا يمارس الرقابة، فإن المجتمع التونسي بدأ يفرض الرقابة الأخلاقية والإجتماعية. والمثال الصارخ على ذلك فيلم نادية الفاني “لا ربّي لا سيدي” الذي خلق في موفى عام 2011 بلبلة وردود أفعال قوية، ولا أتصوّر أن ذلك الفيلم سيكون بالإمكان عرضه قريبا في تونس، وعليه الإنتظار ربما لسنوات طويلة. هذا يعني أنه تُوجد في المجتمع خطوط حمر ليس من حق المبدع تجاوزها، وهذا في الحقيقة أخطر من الرقابة الحكومية الرسمية.

swissinfo.ch: لكن أليست وظيفة المبدع تجاوز الخطوط الحمر هذه؟

كمال بن ونّاس: فعلا هذه هي وظيفته الحقيقية، ولكن الأمر يتعلّق بكيفية “الإلتفاف” على هذه الرقابة لا المواجهة معها، من خلال كتابة وإبداعات جديدة. يقول بورخيس الذي عاش في ظل الدكتاتورية في الأرجنتين: “المبدع كحبة الزيتون، لا يمكن أن تحصل منها عن الزيت إلا بعد طحنها وعصرها”. وكما يُقال “الأزمة تخلق الهمة”.

swissinfo.ch: هل السينما التونسية، كما يرى البعض، مدعوة اليوم إلى التصالح مع مجتمعها؟

كمال بن ونّاس: لا أعتقد أن السينما التونسية في الماضي كانت جزءً من منظومة النظام، بل بالعكس هي اختارت موقفا فيه شيئا من الحرية، ومن الإبتعاد عن المواجهة لأن السينما التونسية كانت تحصل على تمويلاتها من الدولة، ومن جهة أخرى، كان نظام بن علي يغض الطرف عنها لأنه كان يعتقد أنها لا تشكّل خطرا عليه. ولو نظرنا إلى الأفلام التي أنتجت قبل الثورة لوجدنا أنها كانت لا تخلو من الجرأة، وإن اختارت (بحثا عن السلامة) الإنشغال بموضوعات بعيدة عن السياسة (الأزمات النفسية لدى الشباب، العلاقة بين الجنسيْن). هي حقا لم تكن معارضة أو متشنّجة، لكنها ساهمت بطريقة ذكية في تصوير الأزمة التي كان يمرّ بها التونسي. أما إن كانت مُتصالحة مع مجتمعها أم لا؟ فهذا إشكال قد يشغل الناقد والمثقّف، وليس عموم الجمهور. ثم لا يمكن للمبدع أن ينتج فيلما للتصالح مع المجتمع، لأن الذين أنتجوا أفلاما في عهد بن علي هم أنفسهم الذين أنتجوا أفلام ما بعد الثورة، وهم منصهرون في المرحلة الجديدة. مع التأكيد دائما بأن السينما ليست الواقع، بل هي نظرة للواقع، نظرة الأنا للمخرج. وإذا كان هناك نقص في تصوير الواقع او إغفال لبعض جوانبه أو تعامي، فعلى الناقد أو المتفرّج أن يتفطّن إلى ذلك. المبدع ليس نبيّا، هو إنسان ومواطن مثل غيره، يقدّم نظرة حول الواقع ولكن بآليات سينمائية، وفنيّة، وبجمالية خاصة. ولأن المهمّ ليس ما يقوله الشريط بل اللاوعي الكامن وراء الصور، وهو ما نسميه بالقراءة النقدية للأفلام. وكما يقول كوندارا: “الأثر الناجح يفوق ذكاء كاتبه”، أو كما يقول آخر: “الكاتب انتقل إلى جوار ربه، عاش أثره”، خاصة أن معنى ودلالة الأثر تزيد ثراءً مع مرور الوقت، حتى وإن كانت تحمل في طياتها تناقضات.

الناقد السينمائي التونسي كمال بن ونّاس، نيون، أبريل 2014 swissinfo.ch

swissinfo.ch: يرى البعض أن إحدى المشكلات المزمنة للسينما التونسية تتمثل في الإعتقاد بأن الدولة هي الجهة الأساسية التي من الواجب عليها تمويل الإنتاج السينمائي، ورعاية الثقافة وتنمتيها. هل بدأت هذه النظرة تتغيّر أخيرا؟

كمال بن ونّاس: هذا ما يحدث الآن بالفعل. منذ 2012، شُرع في تنظيم مهرجان الفيلم التونسي، وقد انتظمت دورته الثالثة في شهر فيفري الماضي، ويختص المهرجان بتقديم كل الإنتاج السينمائي التونسي خلال السنة (أفلام قصيرة، طويلة، روائية، وثائقية، مدعومة من الدولة أو غير مدعومة،…)، وتعرض هذه الأعمال لمدة أسبوع. لاحظتُ أنه في كل دورة، يُعرض ما لا يقلّ عن سبعين شريطا سينمائيا جديدا، بغض النظر عن القيمة التقنية والجمالية لتلك الأعمال. لكن الملفت أن عددا قليلا جدا من هذه الأعمال حاصلة على تمويل من الدولة، وأن الأغلبية هي مبادرات شخصية، ويُوجد في تونس ما يسمى السينما المستقلّة، أو السينمائية غير التقليدية ( informel)، وهو ما يثبت أن السينمائي التونسي بدأ يتحرّر من ضغوط التمويل الرسمي. أما السينما التي تشارك في المهرجانات السينمائية الدولية (نيون، لوكارنو، فريبورغ، البندقية، تورينو،…)، فلا يمكن أن تتطوّر وتبرز إلا في نطاق تلقي الدعم من صناديق التمويل والتشجيع من الخارج. هذا يعني أن هناك مسارا قد بدأ.

ويتزامن هذا مع خطوة اخرى تمثلت في اتخاذ وزارة الشؤون الثقافية قرارا بالتخلّي عن دعم ورعاية السينما، وإنشاء بدلا من ذلك المركز التونسي للسينما والصورة، وهو الذي سيتكفّل بعملية المساعدة، كما أن دوره لا يقتصر على العناية بالإنتاج، بل يشمل التكوين وتشجيع الثقافة عموما. يحدث هذا أيضا في لحظة لم تعد فيها الدولة التونسية ولأسباب اقتصادية قادرة على تخصيص موارد كبيرة لهذا الغرض لأن لها أولويات اجتماعية خاصة حارقة وملحة.

swissinfo.ch: كيف تنعكس مرحلة الإنتقال الديمقراطي الذي تشهده تونس على مستوى اللغة والإنتاج السينمائيين؟

كمال بن ونّاس: ألاحظ كثافة كبيرة وآنسيابية غير معهودة في الإنتاج السينمائي. وخلال هذا العام فقط، تستقبل الساحة السينمائية التونسية مولودا جديدا كل ثلاثة أسابيع.. مرة أخرى، بغض النظر عن القيمة الفنية لهذه الأعمال. ما هو جديد أيضا، أن ما كنا نعيشه طيلة عقود من أن الفيلم التونسي، وقبل وصوله للجمهور المحلي، يقوم بجولة حول العالم في المهرجانات… وكأنما السينمائي التونسي كان خائفا أو لا يثق في الجمهور، رأينا الأمر قد تغيّر في السنوات الثلاث الأخيرة، إذ بدأ الفيلم التونسي يذهب مباشرة إلى جمهوره. هل ستنجح هذه الأفلام وتحقق الإشعاع؟ الزمن هو الذي سيحكم على ذلك. الأكيد أن رجع الصدى الذي نطالعه في الصحافة ليس سلبيا، كما أنه ليس حماسيا أيضا، لكن أكثر هذه الأفلام تكشف على المستويْين الفني والجمالي عن حرفية كبيرة، قد لا تكون على نفس الدرجة من النجاح في ما يتعلّق باختيار التيمات (أي الموضوعات)، لأن الواقع التونسي أصبح صعب الفهم، كما أضحى المجتمع معقّدا ومتنوّعا في تركيبته.

swissinfo.ch: هل تؤمن بدور ما للسينما في ترشيد الحركة التاريخية للمجتمعات؟

كمال بن ونّاس: السينما لها دور كبير في ترشيد المسار الذي دخلت فيه تونس بعد الثورة، وبمقدورها أن تمنح التونسيين فرصة لكي يعوا بطريقة ذكية رهانات الفترة التاريخية الحاسمة التي تمرّ بها بلادهم، لكن حتى يحصل ذلك، لابد أن يذهبوا إلى قاعات السينما لمشاهدة هذه الأعمال. إن الأعمال الإبداعية تمنح المتلقي فرصة قراءة واقعه بطريقة أخرى تحرره من (ديماغوجية) الخطاب السياسي، و(سطحية) خطاب الصحافة… حتى يُصبح هذا المتلقي عندما يستمع أو يقرأ خطابا معينا يستحضر أيضا إرادة الشخص أو المؤسسة التي تتخفى وراء ذلك الخطاب. والسينما التي تُوصف بأنها “ميتا- خطاب” هي التي تعطينا فرصة أن نرى إنسانيتنا، فالمبدع يتكلّم بأحاسيسه الشخصية وبأزماته النفسانية، وما يصنع الفارق هو النزاهة الفكرية لدى المُبدع. السينما لها دور كبير، وخاصة السينما الوثائقية، التي يتحوّل معها السينمائي إلى شاهد عيان على الحقبة التاريخية لمجتمعه.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية