مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل تنجح جنيف مدينة السلام في إيجاد حَلّ للحروب التجارية؟

موظفون يتنقلون داخل أروقة منظمة التجارة العالمية في جنيف
في هذه الأيام، لا تخلو الأجواء السائدة في أروقة منظمة التجارة العالمية التي تتخذ من جنيف مقرا لها من بعض التوتر. © KEYSTONE / MARTIAL TREZZINI

تشهد الأروِقة الواسعة لمنظمة التجارة العالمية التي يوجد مقرها الرئيسي في جنيف، شعوراً جديداً يتسم بالإلحاح. ففي الوقت الذي يقوم فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بِرَفع مستوى التعريفات الجمركية على بعض الصادرات إلى بلاده، يتعامل المقر الرئيسي لمنظمة التجارة العالميةرابط خارجي، الذي صَمَّمه المُهندس المعماري السويسري جورج إبيتو في عام 1923 لاستضافة مكتب العمل الدولي الجديد التابع لعُصبة الأمم، مع عدد غير مسبوق من القضايا المُتنازع عليها.

“من الإنصاف القول بإن هِمَّتَنا تخضع للإختبار”، كما جاءَ على لسان كيث روكويل، مدير الإتصال الإعلام في منظمة التجارة العالمية.

لا بُدَّ من القول بأن الوضع اليوم مختلف كلياً عن عام 2008، عندما كَتبتُ تقريراً مُفَصَّلاً حول منظمة التجارة العالمية آخر مرّة. وكان وزراء التجارة من جميع أنحاء العالم قد اجتمعوا آنذاك، على أمل وَضع اللمسات الأخيرة على صفقة جديدة طموحة، من شأنها خَفض الحواجز التجارية حول العالم، ومُساعدة الدول النامية على الوصول إلى الأسواق العالمية.

بيد أنَّ هذا التفاؤل لم يَدُم طويلاً. فبعد تسعة أيام من الإجتماعات التي سادَتها الإنقسامات، وساعات طويلة من المحادثات المُتعثرة المَتبوعة بتطورات اللحظة الأخيرة في وقت متأخر من الليل، فشل الوزراء في التوصل إلى إتفاق بشأن ما سمّي باتفاقية الدوحة.

 في عام 2013، تم إحياء هذا الإتفاق جزئياً في بالي، عندما توافقت الآراء حول اتفاقية أبسط وأكثر تواضعا من سابقتها بكثير. لكن هذه الخلافات العديدة، والإجتماعات الطويلة غير المُجدية في أغلب الأحيان، ليست سوى مؤشرات على مدى الصعوبة التي يمكن أن تتَسم بها المفاوضات التجارية. واليوم، يَخشى البعض من أننا قد نكون على شفا حرب تجارية شاملة.

الأسوأ لم يأتِ بعد

تُعدّ سويسرا أحدث دولة تتقدم بشكوى رَسمية إلى منظمة التجارة العالمية، احتجاجاً على فَرض الولايات المتحدة رسوماً على واردات الصلب والألومنيوم من دول العالم، بما في ذلك الكنفدرالية. وكانت بَرن قد بعثت برسالة مُهذبة إلى واشنطن في شهر مارس المُنقضي، تطلب فيها إعفاء صادراتها المُتواضعة من الصلب البالغ قيمتها 80 مليون فرنك من الرسوم الجمركية. لكن، وبِحَسب وزراة الشؤون الإقتصادية “لم تتلق سويسرا أي ردٍ على رسالتها”. 

ورغم أن يان آتسلاندر من رابطة رجال الأعمال السويسريينرابط خارجي “EconomieSuisse”، يتفق على أن التعريفات الجمركية على هذه الصادرات المتواضعة لن تَضُرَّ كثيراً باقتصاد سويسرا المُتعافى حالياً، إلّا أنَّه لا يزال يَشعر بالقلق. 

“أنا أخشى من أن الأسوأ لم يأت بعد”، كما يقول. ويضيف: “هذا هو تصوري الشخصي. عندما تَحَرَّكت الولايات المتحدة، بادرت الصين بالرد [مؤكدة عزمها على الدفاع بقوة عن مبادئ منظمة التجارة العالمية]، بينما لا يزال الاتحاد الأوروبي يستعد للرد … لو استمر الوضع على هذه الوتيرة، سوف يؤدي ذلك إلى تَدمير نمو الإقتصاد في العالم”. 

بالتالي، توجد هناك حالة من التوتر في غرف مجالس الإدارات حول العالم. ولا يعرف أحد المدى الذي ستذهب إليه الإدارة الأمريكية، التي لا يمكن التكهن بتصرفاتها في فرض هذه التعريفات التجارية. وكما يعلم الجميع، فإن السوق يكره حالة عدم اليقين. 

دبلوماسية تجارية شديدة البطء

إذن، هل سيكون بِوِسع منظمة التجارة العالمية إعادة الأمور إلى نصابها؟ “الطريقة الوحيدة لإيجاد حل لهذه الحالة هي من خلال منظمة التجارة العالمية”، بحسب روكويل. “علينا أن نتذكر أن مُبتدعي النظام التجاري المُتعدد الأطراف الذي تطور إلى منظمة التجارة العالمية إنما وضعوا هذا النظام لمثل هذه الحالات بالضبط”. 

بالطبع، كانت الولايات المتحدة واحدة من مؤسسي النظام التجاري القائم على النُظُم والقواعد. ولكن واشنطن، وحتى قبل انتخاب دونالد ترامب، كانت قد أعربت عن مَخاوفها من البطء الشديد لإجراءات تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية، وتجاوزها لحدود صلاحياتها. 

ويتفق روكويل على أن بعَض الإصلاحات قد تكون ضرورية؛ فالعالم اليوم يُمارس الأعمال التجارية بشكل مُختلف مما كان عليه عندما صيغَت بعض قواعد مُنظمة التجارة العالمية لأول مرة. “لكن مثل هذه المناقشات لا تحدث… نحن بحاجة إلى المَزيد من الوضوح [من الولايات المتحدة] حول الكيفية التي سَيُعالجون بها هذه القضايا”، كما يقول.

 نهاية منظمة التجارة العالمية؟

بدلاً من ذلك، تَتَّبِع الولايات المُتحدة ما يَشُك البعض بكونه سياسة أكثر دهاءً لتقويض منظمة التجارة العالمية، من خلال فرض التعريفات الجمركية من جانب واحد، ومَنع تعيين قُضاة استئناف جُدُد في المنظمة في ذات الوقت. ومن المُفتَرَض أن يكون لدى هيئة تسوية المُنازعات في منظمة التجارة العالمية سبعة قُضاة (سيما وأنَّ 80% من الخلافات تُستأنَف) لكنها حاليا لا تضم سوى أربعة. وسوف يتقلص هذا العدد إلى ثلاثة قضاة فقط – وهو الحد الأدنى المطلوب –  في حال حَظَرَت واشنطن إعادة تعيين قاضٍ سوف تنتهي فترة ولايته في شهر سبتمبر المُقبل. 

من جانبه، يرى سيدريك دوبورابط خارجي، المتخصص في التجارة في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية بجنيف، أن هذا التكتيك يدعو إلى السخرية، وبأنه وسيلة تتبعها الولايات المتحدة “لإلحاق الضرر بالمنظمة” دون أن تغادرها بالفعل، الأمر الذي يعتقد دوبو أن حتى ترامب لن يجرؤ على القيام به. 

“إنها وسيلة لإظهار قوة الولايات المتحدة”، كما يقول. ويضيف: “إن تأخير تجديد القاضي هو وسيلة لخروج الولايات المتحدة دون أن تعمد إلى المغادرة بالفعل”. 

وهكذا، وبينما لا يشهد العالم حربا تجارية كاملة بعد، فإن ذات المنظمة التي يُفتَرَض بها مَنع حدوث هذه الصراعات، قد تشهد في غضون الأشهر القليلة القادمة إصابة آلياتها الخاصة بالنزاعات بالشلل من قِبَل الدولة العضو المُتَسَبِّبة بهذه النزاعات. 

“هذه المخاوف تستَدعي القلق الشديد”، كما يقول روكويل. ويضيف: “من الصعب جداً التكهن بما سيحدث حينئذٍ”. 

مع ذلك يتفق كل من روكويل وآتّيسلاندَر على حقيقة أن لجوء الدول الأعضاء لمنظمة التجارة العالمية، واستخدامها لها لإيجاد حَلٍ للنزاعات التجارية، إنما هي علامة إيجابية. “هذا يُظهِر درجة من الثقة في نظام تسوية النزاع ،” كما يقول روكويل. 

بدوره يضيف آتّيسلاندَر: “لا تزال منظمة التجارة العالمية العمود الفقري والبُنية التحتية الأساسية للقانون في نظام التجارة العالمي”. وهو يُشَبِّه نظام تسوية النزاعات بقارب النجاة ويقول: “نحن لا نريد استخدامه، لكن من الجَيّد أن يكون متوفراً لدينا”.

كما أعرب دوبون عن ثقته في قُدرة منظمة التجارة العالمية على التعامل مع ما يصفه بـ “المناوشات” الجارية. لكنه حَذَّر قائلاً: “لا أعتقد أن المنظمة ستكون قادرة على فعل أي شيء في حال نشبت هناك حرب تجارية حقيقية، فهذه المنظمة يُمكن أن تمد يد العون فقط عندما يكون هناك توافق بين أعضائها”. 

قيادة الأعمال

في هذا المجال بالذات، يتعين على قادة الأعمال التدخل بحسب آتسلاندَر، ويقول: “يتعيّن على قادة قطاع التجارة التصدى لذلك وإعلان رفضهم لقرارات ترامب”.

“هل نريد أن يكون لدينا نظام سوق مفتوح على مستوى العالم حيث تُتاح لكل بلد الفرصة للمشاركة، أو أن تكون لدينا النزعة الحمائية التي تُدَمِّر الثروات وفُرص العمل”؟

في الأشهر القليلة المقبلة على الأقل، سوف يتعيّن على منظمة التجارة العالمية أن تسلك دربا صعباً، يتمثل في حَلّ نزاعات تجارية مُتعددة بوجود عدد أقل من القضاة، ومحاولة إجتذاب الولايات المتحدة لمحادثات بناءة حول مستقبل التجارة الدولية، ومحاولة منع حدوث شلل كلي في نظام تسوية النزاعات.

ورغم أن آتسلاندر ما زال يخشى من أن هذه المناوشات التجارية سوف تُصبح أسوأ قبل أن تتحسّن، إلا أنه يعتقد أن القلق واسع الإنتشار قد يُقنع جميع الأطراف – من اليمين واليسار – الذين يشككون في اتفاقيات التجارة العالمية، بقيمة هذه الإتفاقيات، وبالأهمية الكبيرة للهيئة التي تقوم بدعمها، والتي تتخذ من جنيف مقراً لها.

“يُمكنني أن أتخيّل أن منظمة التجارة العالمية سوف تخرج من هذه الأزمة بشكل أقوى بِمُجرد إنتهاء هذه الخلافات”.

“من حسن حظنا أن لدينا منظمة التجارة العالمية. لقد أدركنا فجأة أن هذه هي الأرضيّة التي نقف عليها، وبأن هذا هو نموذج أعمالنا، وأن هذا هو نظام التجارة العالمي”، يقول آتسلاندر مُختتماً.


متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية