مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“مهمة المسرح غرسُ قيم النقد الذاتي وليس الإخبارَ عن التاريخ”

Kohei Matsushima

لا تزال المشاركة العربية في مهرجان زيورخ للمسرح الذي تنتظم دورته التاسعة والعشرين في الفترة الممتدة من 14 إلى 31 أغسطس الجاري، محدودة على الرغم من الإنفتاح الذي تبديه الإدارة الفنية الجديدة بقيادة ساندرو لونين.

العديد من الأعمال التي تعرض خلال هذه الدورة تصور التحولات الإجتماعية وترصد آثار النزاعات الدولية، وتعلم عن الإوضاع النفسية للعديد من الفئات في هذا العالم الفسيح وكل عمل من هذه الأعمال الفنية يقترح لمسة فنية خاصة، ورؤية فلسفية متميزة.

إحدى المشاركات المتميزة في هذه الدورة كانت مسرحية “لكم تمنت نانسي لو أن كل ما حدث لم يكن سوى كذبة نيسان”، من إخراج الفنان اللبناني ربيع مروة وإنتاج الجمعية الللبنانية للفنون التشكيلية “أشكال ألوان”. ويقترح هذا العمل الإبداعي رواية بديلة للحرب الأهلية التي عصفت بلبنان عقديّن كامليْن تقريبا. فريق سويس أنفو إلتقى المخرج على هامش عرض المسرحية في إطار فعاليات مهرجان زيورخ للمسرح، وكان معه الحوار التالي:

سويس انفو: كيف تقيمون إقبال الجمهور على المسرحية إلى حد الآن؟

ربيع مروة: لاحظت ان هناك إقبال وتجاوب كبير.. لكن لا أعرف صراحة سر ذلك! عندما كتبنا وأنجزنا المسرحية، لم يكن في بالنا إلا الجمهور اللبناني، لا جمهور ياباني، ولا جمهور سويسري. كل مرة نعرض فيها المسرحية خارج لبنان، أشعر بأن الجمهور كريم جدا معنا، كيف لا وهو يقضي ساعة ونصف منصتا بانتباه إلى خصوصيات وتفاصيل الحرب الأهلية اللبنانية. أضف على ذلك، أننا لم نكلف أنفسنا جهد تكييف الموضوع أو تبسيطه.المسرحية موجهة لجمهور يعلم تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية في زمن الحرب الأهلية. كل مرة تعرض فيها المسرحية نفاجئ بإقبال الجمهور، والأسئلة المثيرة التي يطرحونها بعد العروض.

سويس أنفو: ما الذي بحسب رأيك، يجعل الجمهور يتفاعل مع هذا العمل المسرحي رغم ما سبق أن أشرت له؟

ربيع مروة: مستويات عدة من هذا العمل يمكن أن تثير اهتمام الجمهور الغربي، أحدها موضوع المسرح بحد ذاته. فالتجربة التي أخوضها شخصيا على المستوى الفني، تثير العديد من الأسئلة الجوهرية والعميقة من نوع ما هو المسرح؟ وما هو التمثيل بصفة عامة؟ كيف يقف الممثل اليوم على المسرح؟ وأي نص يصلح للأداء المسرحي…هذه الأسئلة وغيرها تهم أي مسرحي عربي أم غيره.

سويس انفو: ما الذي أوحى لك بهذه الأسئلة؟

ربيع مروة: أعتقد أن فن المسرح في العالم اليوم يمر بأزمة، ثم كل فن بحاجة إلى إعادة صياغة ومسائلة من حين لآخر. قضية ماهية الفن، ولماذا نمارسه؟ ثم الصياغة وطريقة الأداء. هذه الخيوط إذا ما التقطها المشاهد الغربي تستطيع أن تنقذه من متاهات تفصيلات الحرب الأهلية التي تعالج المسرحية موضوعها.

سويس أنفو: وكيف كان تفاعل الجمهور العربي مع هذه المسرحية؟

ربيع مروة: بالإضافة إلى لبنان، عرضت المسرحية في تونس وفي القاهرة، وهما تجربتان مختلفتان: في تونس شهدت المسرحية أسوء إقبال، (بعد ابتسامة عريضة، يواصل)، وكانت التجربة مختلفة عن كافة العروض في أوروبا واليابان، وفي تونس تجاوب الجمهور كان ضعيفا جدا، على الرغم من أن العرض إستضافته مدرسة “ناس الفن” المتخصصة، لابد ان هناك تفسيرا ما لذلك، لكنني لا أعلمه. أما في مصر فالإقبال كان كبيرا، الجمهور المصري بطبعه يتفاعل مع العروض الفنية، وله ذوق وإهتمام بالمسرح.

سويس أنفو: يعرف لبنان بكونه عاصمة الثقافة العربية، وتشتهر بيروت بدور نشرها التي لم تتوقف عن العمل حتى زمن الحرب الأهلية، لماذا أنتم تحرصون على تقديم لبنان في هذا المهرجان الدولي من خلال الحرب الاهلية سيئة الذكر؟

ربيع مروة: أنا لا أقدِّم لبنان، ولست هنا أتكلم بإسم لبنان، بل لا أمثل إلا نفسي. أنا فرد، وأعتقد أن كل واحد منا حر يفكر ويطرح الأسئلة التي يريد. وبما أنني أقيم وأعيش في لبنان، يهمـُّني أن أفكر في قضايا المجتمع اللبناني. لو كنت تونسيا، لاختلفت ربما القضايا التي أطرحها. وهكذا أيضا لو كنت في سويسرا. في لبنان، تفتقد العديد من القضايا إلى الشفافية والوضوح، وتستوجب طرحها على خشبة المسرح لكي تعود إلى واجهة التفكير والتأمل. وبهذا المعنى، من الطبيعي بالنسبة للبناني أن يطرح سؤال الحرب، لأنه يعيش أجواء الحرب باستمرار وهي تجثم على أنفاسه، وتهدد مستقبله. لأننا نريد أن نخلص من هول هذه الحرب، فنحن بعملنا هذا نريد أن نكشف بطلان وزيف مبرراتها. لكن يظل السؤال هو طريقة الحديث عن الحرب، هل نكتفي بالحديث عن ويلاتها، وعذاباتها لإثارة الشفقة؟ نحن ندعو المتفرج إلى التفكير في هذه الحرب، وطرح الأسئلة عما يقال عنها، نفكر في الحرب، ولا نخبر عن الحرب. أنا في النهاية لا أمثل لبنان، ولا أقدمه من خلال الحرب، بل أقدم نفسي كمواطن بتلك المنطقة تـهُمه المشاركة في بناء وصياغة مستقبلها.

سويس أنفو: وكيف إستقبل المجتمع السياسي اللبناني هذه المسرحية، ما هي ردود الفعل التي وصلتكم من النخبة اللبنانية بكل طوائفها؟

ربيع مروة: استقبلت المسرحية في لبنان بحماسة كبيرة، وأثارت نقاشات حادة على أكثر من مستوى. أنا وفادي توفيق الذي كتب معي هذه المسرحية، كنا نريد تقديم تاريخ بديل للحرب الأهلية عن التواريخ الرسمية لدى كل طائفة وكل حزب. لا نهدف من وراء ذلك إلى تقديم رواية إضافية لما هو موجود أصلا، بل الهدف تقديم رواية سرعان ما تختفي بعد أن تزرع النسبية، وتثير الشك في ما هو سائد من الروايات، هذه الرواية المفروض أن تكون مثل الشبح، تختفي بعد أن تظهر، وتظهر لتختفي مرة أخرى.

سويس أنفو: كيف سيؤدي هذا العمل إلى إبعاد شبح الحرب على لبنان؟

ربيع مروة: أنا ليس لدي وهم أو إدعاء بأن المسرح قد يغير المجتمع. المسرح أو الفن هو فضاء للتساؤل، ودعوة للمشاهد لمشاركة الفنان التفكير فيما يجري حولنا. إذا ما حدث التغيير بالتزامن مع التفكير فهذا من حسن الطالع. كفنان وكمسرحي، لا أؤمن بأن الفن يغيّر الواقع، الذي يغيّر الواقع هو الحركات التغييرية. وظيفة الفن تتوقف عند زرع ورعاية بذرة النقد الذاتي، وإحداث ثورة على النفس.

سويس أنفو: في أعمالكم الفنية، تسائلون القيم السائدة في لبنان، القيم الإجتماعية والمفاهيم السياسية، ومن يطرح الأسئلة، لابد أنه يحلم بشيء ما، بأي لبنان تحلمون؟

ربيع مروة: مكمن المعضلة هنا. أي لبنان يريده اللبنانيون؟ (يتنهد طويلا)، سؤال صعب. أحلم بلبنان بلدا علمانيا غير طائفي حيث يسود القانون، يكون فيه كل اللبنانيين سواسية تحت قانون تشرف على تنفيذه دولة مركزية قوية، وينعم فيه المواطن بحرية التعبير، والسلم، وتخدمه مؤسسات منتخبة ديمقراطيا.

سويس أنفو: اليوم نحن في سويسرا، ويشبه هذا البلد الأوروبي لبنان على أكثر من صعيد خاصة في تعدد أعراقه، ولغاته وطوائفه الدينية. ما الذي يمكن أن يستفيده اللبنانيون من النموذج السويسري لإخراج بلدهم من الوضع المحرج الذي هو فيه؟

ربيع مروة: يمكن للبنانيين، إذا أحسنوا دراسة هذا النموذج، أن يستفيدوا الكثير، وأن يأخذوا العبر. لا أقول إن لبنان يجب أن يكون على النمط السويسري، ولكن يمكن الإستفادة مثلا من نظام الفدراليات المعمول به هنا في سويسرا.

ولد ببيروت سنة 1967، وهو في نفس الوقت ممثل ومخرج ومنتج وكاتب سيناريوهات. منذ سنة 1990، بدأ العمل المسرحي كممثل ومخرج مع مجموعته الخاصة. ويتميّز هذا الفنان المبدع ببحثه المستمر عن الجدة والطرافة فيما يقدمه، ويسعى إلى تنويع طرائق العمل وفنون الأداء، في لغة مسرحية محبكة الإخراج.

ربيع مروه باحث أركيولي لا يسلم باي فكرة مسبقة أو أي رؤية مجمع عليها حتى لو كان مفهوم المسرح، أو العلاقة بالزمان والمكان خلال الوقوف على الركح، وبين يدي المشاهدين.

هذا البحث المستمر عن الافضل، في علاقته بالمسرح، وفي تعاطيه مع الجمهور، لا تضاهيه إلا الجرأة في تناول القضايا التي يتجنبها الآخرون، ويتمنى المعنيون بها لو مرت من دون إثارة أو لفت انتباه، وإحدى هذه القضايا الحرب الأهلية التي ستظل وصمة عار على جبين أغلب الطوائف اللبنانية.

من أبرز الأعمال المسرحية التي أخرجها ربيع مروة: “لكم تمنت نانسي ان يكون كل ذلك كذبة نيسان”، التي كتب نصها مروه وفادي توفيق، و”دعني أوقف التدخين”، و”أبحث عن عامل مفقود”، و”النظر في الضوء”…

2008، هي السنة الاولى لمهرجان زيورخ للمسرح (الذي يعقد هذه السنة دورته التاسعة والعشرين) تحت الإدارة الفنية لساندرو لونين، الذي يشتهر بانفتاحه على المدارس المسرحية في كل من إفريقيا وآسيا، والذي يبدي إعجابا بتجارب تلك الشعوب، ويؤمن إيمانا قاطعا، كما يقول، بأهمية التبادل الثقافي بين الشعوب على أساس من التعارف والتشارك.

ظل هذا المهرجان لسنوات عدة مقتصرا بصفة كاملة تقريبا على مدارس المسرح الأوروبي، لكن مرحلة جديدة من الإنفتاح تلوح في الأفق، ومن المنتظر أن يتعزز الحضور العربي في السنوات القادمة، خاصة من منطقة المغرب العربي، حيث يؤكد ساندرو لوني على “أهمية التجارب المسرحية وثرائها في تلك البلدان”.

يقدم البرنامج هذه السنة دليلا قاطعا على هذا الرأي، فهناك مشاركات من لبنان، ومن القدس وأندونيسيا، والأرجنتين، وجنوب إفريقيا، بالإضافة إلى عدة بلدان أوروبية.

الإضافة الأخرى لهذه السنة انتظام فعاليات المهرجان على أطراف بحيرة زيورخ بمياهها الزرقاء الدافئة، وهو ما يزيد هذا المهرجان إحتفالية، وينعش الحضور الذي يتردد بين التجوال على ضفاف البحيرة، وتذوّق الاكلات في مطاعم عكست التنوع الثقافي والتعدد العرقي الذي تزخر به زيورخ، وبين هذا وذاك عروض فنية وندوات حوارية، وسهرات رقص وترويح عن النفس.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية