مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عندما تُنْسـِي الشاعريةُ مشاهد الدّم في مسلخ جزائري

"في راسي رونبوان" كان الشريط الوثائقي الوحيد الذي اختير إلى جانب 11 فيلما روائيا ضمن المسابقة الرسمية للأفلام المطولة في الدورة الثلاثين لمهرجان فريبورغ السينمائي الدولي. FIFF

تصوير فيلم وثائقي داخل مسلخ وجعل الحوارات تدور عن كلّ شيء تقريبا ما عدا اللّحوم، ذلك هو التحدي الذي رفعه بنجاح المخرج الجزائري الشاب حسان فرحاني في شريطه المطول الأول "في راسي رونبوان" الذي حاز على العديد من الجوائز العربية والأوربية، ورُشّح لجائزة النظرة الذهبية لمهرجان فريبورغ السينمائي الدولي. swissinfo.ch حاورت فرحاني حول هذا العمل الذي غاص بشاعرية في وجدان عمّال تحدثوا بأريحية مثيرة ومؤثرة أمام الكاميرا.  

في ربيعه التاسع والعشرين، انطلق حسان فرحاني في هذه المغامرة بجيوب فارغة لكن بأفكار واضحة. كان زادُه عشقـه للفن السابع و”أدعية الخير”، كما يقول، التي رافقته وصديقه مهندس الصوت. معا، قضّيا شهرين ونصف داخل أحد أقدم المسالخ بالجزائر العاصمة الذي يتشهر باجتذاب هواة اللّحوم المشوية – بالقرب من حيّ القبة الشعبي حيث نشأ وترعرع. ولكن الذّبيحة هنا ليست سوى ذريعة. فالمخرج الشاب أراد تسليط الضوء على العُمّال الذين يعيشون داخل هذا العالم الذكوري بعيدا عن أسرهم التي تقطن في سطيف، ووهران، أو منطقة القبائل، وغيرها.

وتحت القُمصان المُلطخة بالدماء، قلوبُ رجالٍ تنزفُ ألما، وتشكو قهرا، ولكنها تنبض حُـبّا أيضا. قد تكون مكسورة ومجروحة، ولكنها تظلّ خفيفة الدم. أصحابُها يتحدّثون عن العشق، والموسيقى، وكرة القدم، والسياسة، عن حقبة الإٍستعمار الفرنسي وثورات العالم العربي، عن أحلام الشباب بعبور البحار لهجرة العوز والظلم الإجتماعي، يخوضون في نقاشات وجدانية وروحانية وفلسفية… ويغوصون بين الفينة والأخرى في صمت عميق، يتخلّله ضجيج الآلات، ومقاطع الموسيقى، وحِكمُ وأشعارُ اثنين من أكبر العاملين سنّا في المسلخ. أقوالهما قد تبدو مُفكّكة ولكنها ذكية ومُتعقـّلـة.

مشاركة المخرج حسان فرحاني مؤخرا في مهرجان فريبورغ السينمائي الدوليرابط خارجي الذي تواصل من 11 إلى 19 مارس الجاري، كانت مناسبة لمعرفة المزيد عن خلفية وأبعاد شريط “في راسي رونبوان” أو “في رأسي دوّار مروري”.

المخرج الجزائري حسان فرحاني
المخرج الجزائري حسان فرحاني في مقر مهرجان فريبورغ السينمائي الدولي الذي وصله قادما من باريس يوم 13 مارس 2016. FIFF

swissinfo.ch: لا تُعتبر المسالخ أماكن “مثيرة” لتصوير أول فيلم مطول. لماذا هذا الإختيار؟

حسان فرحاني: إنها الرغبة في تصوير فيلم عن العمال ومعهم. وهذا النوع من الأشرطة الوثائقية قليل جدا في السينما الجزائرية بشكل عام. كما أردْتُ التعرّف أكثر على هذا المكان، وعندما قرّرت دخوله، اكتشفت عالما لا يُصدّق. اندهشت أولا بأجوائه الصّوتية لأن العُمال يستمعون كثيرا إلى الموسيقى، وخاصة أغاني الراي. كما جذبتني البقع الضوئية بين جدرانه. وسرعان ما اقتنعتُ بالثّراء البشري والسينماتوغرافي لهذا المكان. إنّ تراكم أشياء كثيرة هو الذي عزّز رغبتي في صنع هذا الفيلم. وهناك أيضا مقال نشرته إحدى الصحف الجزائرية، وتحدّث عن تدمير المسالخ القديمة على المدى الطويل. حينها، قُـلت لنفسي: حسنا، عليكَ أن تنطلق في التـّنفيذ قبل اختفائها.

swissinfo.ch: هل كان من السهل دخول هذا المكان المُغلق حيث يعيش مئات الرجال وكأنهم في ثكنة؟

حسان فرحاني: لقد تطلب الأمر الحصول على تراخيص عديدة، واستغرق ذلك بعض الوقت. وتوجّب الإصرار بعض الشيء أيضا لأن التصوير داخل مسلخ هو عملية مُعقدة، سواء في الجزائر، أو فرنسا، أو بلدان أخرى. فهذه فضاءات حسّاسة. وبعدما شاهدوا أفلامي السابقة وأدركوا أنني لا أريد المساس بالقضايا المُتعلقة بالنظافة، ولا التشكيك في نظام عمل المسالخ، منحوني حرية الدخول المطلقة.

swissinfo.ch: أحيانا، بدت الشخصيات الرئيسية وكأنها تتجاهل تماما وجودكم، تحدثوا عن العشق والغرام، ولكنهم صاحوا أيضا عاليا في وجه بعضهم البعض، وتلفظوا بشتائم وعبارات مُبتذلة. كيف كسبتم ثقتهم لهذه الدرجة؟

حسان فرحاني: لا شيء يُكتسب بسهولة. مع صديقي مهندس الصوت، قضّينا الكثير من الوقت في الحديث معهم والإهتمام بحياتهم. فلا يمكن اقتحام مكان عملهم وعيشهم هكذا بدون ترفّق أو حساسية. كنت أعلم أنّني لا أريد إنجاز فيلم عن طبيعة عملهم، بل الإتجاه نحو نوع من الشاعرية، والغوص في عُمق ذواتهم. أردت تصوير فيلم يتحدّث عن كلّ شيء ما عدا اللّحوم. منهم من استوعب ذلك على الفور وانضم إلى المغامرة بسرعة وبثقة، مثل يوسف وحسين، ومنهم من انتظر شهرا قبل السّماح لي بتصويره مثل “عمّو” الذي يتميز بأفكاره الفلسفية.

swissinfo.ch: الشاعرية التي تتحدّثون عنها هي ما يُميز بالفعل هذا العمل الذي يظهر الوضع في الجزائر بمزيج من الرّقة والحزن. عندما يقول يوسف إن الشباب مثله يواجهون ثلاثة خيارات: الإنتحار، أو العيش كأحياء أموات، أو عبور البحار، نتساءل هل الأوضاع ميؤوس منها إلى هذا الحد؟

حسان فرحاني: لا، ونعم. من الصّعب الإجابة على هذا السؤال. لا أعتبره يأسا بل خيبة أمل، وأيضا وضوحا في الرؤية. يوسف يتميز بالواقعية. لو كان يائسا لاستسلم، لكن هذا الشاب هو الشخصية الرئيسية التي تتطور أكثر في الفيلم. في البداية، كان يهاتف صديقته ويتحدث عن الحب، ومع تقدم الفيلم، استحوذت على ذهنه الأفكار المظلمة، تملكه القلق، فرأسه يشبه “دوارا مروريا” متعدد الطرقات ولا يعرف أي نهج يجب سلكه، ومن ثم جاء عنوان الشريط.

لا يجب أن ننسى أن عمره 20 سنة فقط، وفي هذا العُمر، لا يُعتبر العمل في مسلخ مبعثا للبهجة. وحتى إن كان يتحدّث عن تلك الخيارات الثلاثة في وقت مُعيّن، ويؤكد ما يقول بأسلوب جافّ جدا، فهو يريد تحسين وضعيته. وبالتالي، لا توجد حقيقة مُطلقة. وهذا ما أحاول إظهاره من خلال هذا الفيلم؛ أي تقديم رجال بطبيعتهم المُعقّدة مع إبراز مكامن القوة والضعف.

swissinfo.ch: فضّلتم في تصوير الشريط لقطات ثابتة، طويلة نوعا ما، بما يتيح حرية الحركة للعمال الذين غالبا ما يدخلون إلى إطار التصوير ويخرجون منه بمحض إرادتهم. فهل كانت هذه طريقتكم لاحترام خصوصيتهم؟

حسان فرحاني: إن إيقاع الفيلم يعكس إيقاع الشخصيات الرئيسية. وبما أن المسالخ ليست صناعية، فإن وتيرة العمل فيها ليست قارّة، إذ يمكن أن يكون عدد الذبائح 300 اليوم و30 يوما آخر. وأنا أردت التصوير خلال تلك الثغرات، بين العمل ولحظات الراحة. ففي تلك الأوقات، كانوا يبوحون أكثر بما يخطر في وجدانهم، لاسيّما في المساء واللّيل. وهذا هو نوع السينما الذي أحب، سينما متأملة تتربص اللحظات الحقيقية لالتقاطها، سينما تُعيد خلق فضاءات جديدة داخل الفضاء الذي تتواجد فيه. إنها لقطات طويلة، ولكن الحركة لا تغيب عنها. لقد أردت بذلك الإصغاء فعلا لما يحدث من حولي دون أن أمنع نفسي من الإنحراف [بالكاميرا] يمينا أو يسارا. 

 swissinfo.ch: خفة الدّم الجزائرية لا تغيب عن هذا الفيلم. رغم البؤس الذي يشكون منه والمحن التي يعيشونها، لا تغيب المشاكسات الفكاهية عن الحوارات، كأنه نوع من العلاج الذي يستمدون منه قوتهم وطاقتهم أمام الصعاب..

حسان فرحاني: أعتقد أن هذا جزء من العلاج المغاربي بشكل عام. لمست في المغرب وتونس أيضا هذا النوع من السخرية الذاتية البالغة الأهمية. ولحسان الحظ. في الجزائر مثلا، بلغت النكت أقصى حدّ لها خلال عقد التسعينات الذي شهد المذابح وتدفق الدماء. التوقف عن الضحك يعني الإستسلام. وطالما هناك روح دعابة، هناك حياة.

مخرج واعد

ولد حسان فرحاني عام 1986، وهو يعيش حاليا بين باريس والجزائر العاصمة، مسقط رأسه. 

في عام 2006، أخرج شريطه القصير الأول “خليج الجزائر” Les Baies d’Alger ، ثم ثلاثة أفلام وثائقية:

“رحلة 140″ عام 2008، و”فندق إفريقيا” (2010) و”تارزان، دون كيشوت ونحن” (2013).

“في راسي رونبوان” Dans ma tête un rond-point هو شريطه المطول الأول، والذي تلقى التمويل بعد إنتاجه. وقد حاز هذا العمل بعد على جوائز في العديد من المهرجانات: أمستردام (هولندا)، قرطاج (تونس)، تورينو (إيطايا)، سانت لويس (السنغال)، باريس، و أميان، ومرسيليا، وبلفور (فرنسا)، والجزائر العاصمة.

 swissinfo.ch: بعد تلك السنوات من إراقة الدماء، هل تفتح دور السينما أبوابها مجددا؟ هل الناس متعطشون للصور والأفلام؟

حسان فرحاني: نعم إنهم متعطشون تماما للصّور. ونلمس ذلك في كلّ مهرجان، بحيث يتدافع الجمهور نحو قاعات السينما، وهذا شيء رائع ودليل على وجود حاجة وطلب حقيقين. ولكن بمجرد انتهاء المهرجان، تتراجع الحركة ولا تصل أفلام جديدة. لحسان الحظ، هناك أقراص الفيديو الرقمية المقرصنة في الأسواق التي تنقدنا [من فترات الفراغ السينمائي].

swissinfo.ch: حاز “في راسي رونبوان” على ألقاب عدّة منها جائزة مهرجان الدورة السادسة لمهرجان الجزائر الدولي للسينما التي كرست للفيلم المُلتزم. هل تُعرّف نفسك كمخرج ملتزم بقضايا معينة؟

حسان فرحاني: لا أطرح على نفسي هذا السؤال عندما أريد إنجاز أيّ فيلم، مهما كان نوعه. أنطلق أولا من الرغبة في التصوير، ومن فكرة معالجة هذا الموضوع أو ذاك، في هذا المكان أو ذاك. لا أٌقول أنني سأصنع فيلما مُلتزما أو غير ملتزم. أخرج الأفلام وفقا لأحاسيسي، وفي غالب الأحيان، بمُشاركة الأشخاص الذين أصورهم. ما أبحث عنه في المقام الأول هو التفاعل والتعاون. كان هذا أسلوبي في أفلامي السابقة، فمن أصوّرهم يُقدّمون أيضا إسهاماتهم، لا أكتفي بنظرتي الشخصية للأشياء. فكرة العمل معا هي المُحرك الرئيسي.

ماذا قال المدير الفني للمهرجان عن “في راسي رونبوان”؟

“يجب أن يكون الفيلم [الذي يعرض في مهرجاننا] ضروريا ومُتقَـنا”. هذا ما يُردده كثيرا تييري جوبان، الذي عُين منذ خمسة أعوام مديرا فنيا لمهرجان فريبورغ السينمائي الدولي. swissinfo.ch سألته عن أكثر شيء راق له في فيلم “في راسي رونبوان”، الشريط الوثائقي الوحيد الذي اختير إلى جانب 11 فيلم روائي في المسابقة الرسمية للمهرجان، فأجاب:

“المعيار الأول للمهرجان هو أن نشعر بأن المخرج قادر على صنع فيلم ليس فقط لأنه درس السينما، بل لأنه كان بحاجة لإنجازه، حتى أن الأمر يرتبط أحيانا بمسألة حياة أو موت. وأعتقد أن فيلم حسان فرحاني طرح تماما مسألة الحياة والموت بما أن الشريط يدور في مسلخ، وفي هذا المكان جمّع آمال الشعب الجزائري. فمن جهة، هناك أجساد الذبائح، والدم، والآلات، ومن جهة أخرى نجد تطلعات الإنسانية، وكان هذا التجاور مثاليا، وهو ما أدهشني تماما.

كم ذكّرني هذا الفيلم بالسينما الإيرانية التي تعالج المواضيع من خلال الإستعارة. لقد فُـتنت دائما باعتماد ثقافة العالمين العربي والفارسي على الصورة، والمجاز، والاستعارة، إلى حد كبير، وهذا حتى قبل ظهور السينما، ما يجعلني أقول بأن السينما وصلت بصورة طبيعية أكثر إلى هذه المناطق من العالم بالمقارنة مع الغرب. هنا، كانت الأفلام الأولى تشبه في أغلبها أعمالا مسرحية تم تصويرها كأفلام سينمائية. ولكن عندما نُشاهد الأفلام التي صُورت في المغرب العربي، في سوريا، أو العراق، أو إيران، ولئن كانت الثقافات مختلفة – ولكن لديها أرضية مشتركة – فإننا نشعر بأن هذه الشعوب أدركت سريعا الهدف من السينما. وأرى أن هذا الشريط الوثائقي نجح تماما في إظهار هذه الميزة مرة جديدة، لذلك كان الوحيد ضمن الأفلام الروائية في مسابقة المهرجان”.


متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية