مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“النظام الفدرالي في النهاية ليس سوى تسوية سياسية”

الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي يلقي خطابا خلال احتفال بمناسبة اختتام الحوار الوطني بصنعاء يوم 25 يناير 2014، وكان من أبرز نتائج هذا الحوار الاتفاق على تحوّل اليمن إلى دولة ذات نظام فدرالي مما سيمهّد الطريق إلى صياغة دستور جديد تليه انتخابات عامة وذلك بعد سنتيْن من ثورة اسقطت نظام علي عبد الله صالح Keystone

كُتب الكثير منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عن المخاض العسير الذي تمرّ به عملية التحوّل الديمقراطي في العالم العربي، وعن الواقع الذي سينتج عن هذه التحوّلات، لكن القليل من الخبراء والدارسين من يتجاوز التوصيف والتحليل لتقديم الحلول كما فعل الخبير السوداني المتخصص في مجال النظم الدستورية والحكم الفدرالي الدكتور عمر عوض الله جعيد خلال هذا اللقاء الصحفي معه.

في هذا الحوار، طرحت عليه swissinfo.ch القضايا الرئيسية التي تحف بالجدل الدائر اليوم في أكثر من قطر عربي حول النظام الفدرالي والتسيير المحلي والإدارة اللامركزية للشأن العام. وفيما يتركّز الجزء الأوّل من الحوار على ماهية الفدرالية وشروط نجاحها، يخلص الجزء الثاني منه إلى تقييم نقدي وعميق للتجارب التي مرّت بها بعض البلدان العربية حتى الآن.

swissinfo.ch: في السنوات الأخيرة تعالت الأصوات في العالم العربي بين مؤيد للفدرالية لأنها ستكفي هذه البلدان شرور الصراعات والحروب الاهلية، وبين من يعتبرها كارثة تنبؤ بتفكك الكيانات. كخبير استراتيجي في هذا المجال، أي الرأيْين ترجّح؟

د عمر عوض الله: ارتفعت حدة النقاش حول الفدرالية وتعالت الاصوات مع اندلاع ثورات الربيع العربي. والمؤشّر في هذا الموضوع أنه في زمن الأنظمة السابقة كانت المجتمعات تفتقر إلى مؤسسات ديمقراطية يمكن للمجموعات الاجتماعية والسياسية أن تعبّر من خلالها عن مطالبها، لذلك كانت هذه المطالب تحت السطح. ومعروف أيضا أن قيام الواسطات الديمقراطية يزيد الشعور بالإحتقان، ويرفع من سقف المطالب. ينبغي الإشارة أيضا إلى أنه حتى المؤسسات العلمية والإعلامية لم تعكس هذه المطالب قبل قيام تلك الانتفاضات. الإشكالية الكبرى في الوطن العربي أن منظمات المجتمع المدني لا تمتلك حيوية أو رؤية واضحة في القضايا الجوهرية التي تخص أوطانها.

الأصوات المطالبة بالفدرالية في العالم العربي يمكن تقسيمها إلى فئتيْن: أصوات فعلا تعاني من الظلم والحيف، ولمطالبها جذور تاريخية، كما هو الحال في اليمن وليبيا، ومن المعلوم أن ليبيا كانت تحت نظام فدرالي حتى سنة 1965، وهذه المطالبات لها سند في التاريخ. أما الفئة الثانية، فهي مجموعات وأحزاب استغلت ضعف أجهزة الدولة المركزية بسبب الضربات التي تلقتها خلال الانتفاضات الاخيرة، ورفعت من سقف مطالبها لتطرح قضية الفدرالية.

الإشكالية هنا هو أن هذا الطرح لم يصاحبه دور تنويري من الإعلام أو جهد تأطيري من منظمات المجتمع المدني، ولم يملّك عامة الجمهور ماذا تعني الفدرالية؟ وهل فيها خير لهذه الدول أم لا؟ وتحوّل الحديث إلى نقاشات نخبوية فيه من يتاجر بالقضية وفيه من يرفع مطالب مشروعة.

د. عمر عوض الله جعيد

الإشكالية الكبرى في الوطن العربي أن منظمات المجتمع المدني لا تمتلك حيوية أو رؤية واضحة في القضايا الجوهرية التي تخص أوطانها

swissinfo.ch: ما الذي يميّز النظام الفدرالي عن غيره من أنظمة الحكم؟

د. عمر عوض الله: هناك حساسية مفرطة في العالم العربي تجاه استخدام كلمة فدرالية، وهي أيضا موضع استقطاب وتجاذب شديديْن بين من يرى أنها تحفظ وحدة الدولة وتمنح الاقاليم (الولايات) سلطات وموارد، ومن يرى أن الفدرالية مطية يستخدمها دعاة الانفصال والتقسيم. لكن الفدرالية في معناها الأساسي هي شكل من أشكال التسويات السياسية، وطريقة ديمقراطية في إدارة الشأن العام، وتضمن تمثيلا نسبيا للأقليات مقارنة بالأغلبية، وهي حل سحري للنزاعات في المجتمعات المتعددة دينيا وقوميا، بل حتى في البلدان المتجانسة نسبيا، إذ هي أيضا طريقة لمعالجة التفاوت الاقتصادي بين ولايات البلد الواحد.

لإقامة نظام فدرالي، لابد من توفّر ست شروط: أوّلا، لابد من وجود اقليميْن أو ولايتيْن فما أكثر (وجود اقاليم وحكومة مركزية مثل دولة الإمارات العربية والسودان)، وثانيا، توفّر دستور قومي يحدد سلطات هذه المستويات، وتكون السلطات محددة دستوريا، وليست مجرّد منحة تقدمها الحكومة المركزية، وتتراجع عنها متى أرادت. وثالثا، أن تتوفّر القدرة للولايات والأقاليم على التأثير في اتخاذ القرار على المستوى المركزي خاصة في ما يكون له انعكاسا على شؤون الاقاليم كتوفّر مجلس للشيوخ أو مجلس للولايات). ورابعا، وجود محكمة دستورية عليا تفصل في النزاعات إذا ما حدثت بين الأقاليم والحكومية المركزية، وخامسا، ألا يستأثر مستوى من الحكم دون آخر بإمكانية تعديل الدستور. وسادسا وأخيرا، التنظيم القانوني للعلاقات التنسيقية. هذه الشروط الست هي الدينيمو المحرّك للنظام الفدرالي.

إذن، الفدرالية هي هيكل للحكم يتسم بالمرونة، ويمكّن الأقاليم أو الولايات أن تحكم نفسها بنفسها بدرجة محددة من الإستقلالية، وفي نفس الوقت تظل في إطار الدولة القطرية الموحدة بما يمنع الانفصال دون التنكّر للمطالب المشروعة للأقليات.

د. عمر عوض الله جعيد من مواليد 7 أكتوبر 1971 في مدينة الأبيِّض وسط غرب السودان، وأصله من قرية جبل أب شمال السودان.

في عام 1992، حصل على شهادة الباكالوريا من مدرسة خور طقت الثانوية بالأبيض.

في عام 1997، حصل على شهادة الإجازة في القانون بجامعة النيلين غرب الخرطوم.

في ديسمبر 1998، التحق بالإدارة الجنائية في وزارة العدل السوادنية كوكيل للنيابة ثم كمستشار قانوني لديوان الحكم الاتحادي.

في عام 2000، قدم للمرة الأولى إلى سويسرا للمشاركة في حلقات دراسية لفترة 21 يوما في معهد الفدرالية التابع لجامعة فريبورغ بتمويل من الوكالة السويسرية للتعاون والتنمية.

في نوفمبر 2001، عاد لسويسرا وبدأ بحثا دراسيا تم ترفيعه إلى درجة الماجستير ثم تفرغ في عام 2003 لرسالة الدكتوراه، بتمويل الحكومة السودانية وتعاون معهد الفدرالية في فريبورغ.

في 4 نوفمبر 2005، ناقش الرسالة في كلية الحقوق بجامعة فريبورغ السويسرية وحصل على الشهادة بمرتبة الشرف.

منذ 2008، ينشط الدكتور عمر ضمن مركز الفدرالية للبحوث وبناء القدرات الذي يوجد مقره بالخرطوم كما يتردد كثيرا على سويسرا حيث يستعد لفتح مركز لتبادل الخبرات في المجال الفدرالي في مدينة فريبورغ.

swissinfo.ch: هل هناك نموذج واحد للحكم الفدرالي أم أن هناك امكانية لتكييف وتعريب هذا النوع من نمط الحكم بما يأخذ بعين الاعتبار واقع العالم العربي وخصوصياته الثقافية والمجتمعية؟

د. عمر عوض الله: بالتأكيد، لأنه من المعلوم أنه لا يمكن تصدير نمط للحكم من بلد إلى آخر. وحتى التجارب المقارنة التي طبّقت خيار الديمقراطية مرّت بتجارب فيها الكثير من السلبيات، وعلينا ان نتعلّم من سلبياتهم كما من إيجابياتهم. لقد مرّت سويسرا مثلا بحروب داخلية، وقطعت أوّل خطوة في صرحها الفدرالي سنة 1291، لكن الدستور الفدرالي لم يتم اقراره في صيغته التي توحدت على أساسه جميع الأقاليم إلا في سنة 1848. في ذلك الوقت كانت العلاقة بين الكانتونات السويسرية لا تخلو من نزاعات وعداوات. أنظر الآن إلى أيْن وصلت سويسرا في نظامها السياسي. نحن إذا أردنا أن نتعلّم من التجربة السويسرية، يجب ان ندرك الاخطاء فنتجنبها ونأخذ الإيجابيات ونحاول ان نكيّفها أو نعدّلها وفقا لخصوصيات كل بلد من بلداننا. من خصوصياتنا مثلا، إذا ما استثنيْنا السودان والعراق، ما يجمع بين مكوّنات المجتمعات العربية داخل الدول القطرية اكثر مما يفرّق بينها، ومسألة التنوع فيها أقل حدّة إذا ما قورنت بدول اخرى تطبّق الآن النظام الفدرالي. 

swissinfo.ch: بالإضافة إلى الشروط الموضوعية الست التي ذكرت، هل هناك آليات او منهج معيّن لابد من احترامه أيضا للوصول إلى حكم فدرالي ناجح؟

د. عمر عوض الله: الخبراء يفرّقون عادة بين شيئيْن: الظروف الموضوعية لنجاح الفدرالية، والآليات والتمشي السليم للوصول إليها. للتوضيح أضرب مثلا من السودان حيث تمت في بداية التفكير في ارساء الحكم الفدرالي، صياغة وثيقة فيها كل ما هو جيّد وحسن، لكن الظروف الموضوعية لإنجاح الحل السياسي لم تكن بالقدر الكافي. أما من حيث التمشّي، وفي أي مجتمع متعدد، لإنجاح الحكم الفدرالي لابد من احترام ثلاثة شروط: أوّلا لابد أن يكون هناك اعتراف متبادل بين المكوّنات المجتمعية داخل الدولة التي تريد الفدرالية، وثانيا، أن يكون هناك اقتناع وتسليم بالنتائج المنجرّة عن ذلك الإعتراف (لو ولّي المسؤولية العليا في الدولة فرد من المكوّنات الاخرى، لابد من التسليم بذلك الإختيار)، وثانيا، لابد أن يكون هناك قدر من التسامح ومن التصالح (عندما يتم الوصول إلى تسوية سياسية، والفدرالية نوع من التسوية السياسية، إذا لم يزل الإحتقان، وفتحت نافذة جديدة، تمت من خلالها مصالحة حقيقية مثل تجربة جنوب افريقيا). وما لم تتوفّر هذه الآلية التكميلية بالإضافة إلى الشروط الموضوعية لن ينجح النظام الفدرالي، وهو ما حدث فعلا في السودان. وإذا لم يدرك القادة السياسيون وممثلي الهيئات السياسية والمجتمعية أن النظام الفدرالي هو عبارة عن تسوية سياسية لا يمكن لأي طرف فيها أن يكسب كل شيء، ولابد أن يكون هناك حدا أدنى من التضحيات المتبادلة بما يسمح بتحقيق التوافق، واستصحاب حقوق الاقليات مقابل الأغلبية. إذا لم تتوفّر هذه العقلية، وكانت الأحزاب السياسية تضع نصب عينيْها المصالح المشتركة لأبناء الوطن لن نستطيع تطبيق النظام الفدرالي، ناهيك عن تغذيته بحيوية الديمقراطية اللازمة لتطويره.

swissinfo.ch: يطرح النظام الفدرالي على الأجندة السياسية الحالية بحدة في اليمن وليبيا، هل تتوفّر شروط النجاح للحكم الفدرالي في هذيْن البلديْن؟

د. عمر عوض الله: بالنسبة لليمن، نجد حاليا أراء متعارضة حول مآلات الدعوة إلى الفدرالية: عند البعض، الفدرالية تعني الإنقسام والإنفصال، وخسارة الإقليم الجنوبي إلى الأبد، وهناك من جهة اخرى من يطالب بتحويل اليمن إلى دولة فدرالية تتشكّل من ستة اقاليم. في ليبيا كذلك، هناك من يرفض الفدرالية خشية أن تؤدي على تمزيق البلاد، وهناك من يتمسّك بتقسيم ليبيا على ثلاثة أقاليم كبرى تتمتع بحكم محلي في ظل دولة اتحادية هي طرابلس، وطرفة، وفزّان.

في الحالتيْن، ما أدعو إليه هو عدم التوقّف عند المصطلح في حد ذاته والمرور إلى ما يوفّره هذا النظام من عدالة بين الاقاليم، وإدارة للشأن العام تتميّز بالشمولية، والسماح لجميع مكوّنات المجتمع بالمشاركة في إدارة الدولة على أساس العدالة في توزيع الثروة والديمقراطية، والهيكلة المرنة للحكم، والقدرة على الحد من السلّم الإداري، وحكم المواطنين لأنفسهم بأنفسهم، فضلا عن توفير السلام والإستقرار.

أطرح سؤالا هنا على الرافضين للفدرالية في اليمن: هل الأفضل أن يظل الإقليم الجنوبي في إطار الدولة اليمنية الموحّدة، أم أن يُجبر على الإنفصال؟ والملفت للنظر ان وثيقة الإتحاد الفدرالي التي طرحت في الحوار الوطني الدائر حاليا في اليمن قد اقترحت مخرجا موفقا لثنائية الشمال/ الجنوب عبر تقسيم اليمن إلى ستة اقاليم، بما يسمح لكل اليمن بالتمتع بامتيازات النظام الفدرالية، والمتمثلة في السماح لجميع المجموعات السكانية بالتعبير عن خصوصياتها داخل الإقليم، كما تتيح لها أيضا المشاركة في اتخاذ القرار على المستوى المركزي. وهل هناك أفضل من هذا. إن ما يعزّز وحدة اليمن السماح لجميع المجموعات السكانية بالمشاركة في بناءه. وللأسف أقرّ بان هناك مبررات موضوعية للعرب المتوجسين من الفدرالية، وتجربة السودان تدعو إلى التوجّس والخوف لأن مجموعات سودانية طالبت بالفدرالية، حتى إذا ما طبقت كوّنت هذه المجموعات دولة منفصلة واستقلت بالإقليم الجنوبي. ولكن اقول بأن العيب ليس في النظام الفدرالي بل في كيفية تنفيذه وتنزيله في الواقع.

د. عمر عوض الله جعيد

الفدرالية هيكل للحكم يتسم بالمرونة، ويمكّن الأقاليم أو الولايات أن تحكم نفسها بنفسها بدرجة محددة من الإستقلالية، وفي نفس الوقت تظل في إطار الدولة القطرية الموحدة بما يمنع الإنفصال دون التنكّر للمطالب المشروعة للأقليات

swissinfo.ch: هل يمكن أن نتصوّر نجاحا لحكم فدرالي في مجتمع لا تزال تتحكم فيه ثقافة القبيلة والطائفة ولا تزال علاقاته سلطوية على أكثر من صعيد؟

د. عمر عوض الله: سؤالكم يتضمّن شقيْن: أوّلا، هل يمكن أن ينجح نظام فدرالي في ظل نظام شمولي؟، والثاني، هل النظام الفدرالي إذا ما طُبّق يمكن أن يساعد في تعزيز الديمقراطية، وبالتالي، يوفّر أسباب نجاحه بنفسه.

الراجح أنه عندما يتم التقسيم الإداري وفقا للنظام الفدرالي، توجد بلديات أو محليات أو أقاليم توفّر آليات تمكّن المواطنين من المشاركة أكثر في تحقيق مطالبهم وتتيح للحاكم في هذه الوحدات الإدارية ان يقدّم لها الخدمات، وهذه المشاركة للمواطنين تزيد في مساحة الديمقراطية. صحيح ان حيوية الديمقراطية شرط ضروري لنظام الفدرليات، ولكن يمكن أن تطبّق الفدرالية حتى في ظل نظام شمولي، وتؤدي مثل هذه التجربة إلى تكريس ثقافة الفدرالية، وهو ما يحدث الآن تحت انظمة عربية البعض منها شمولي، لأنه تغيب عنها المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا ولكنها ساهمت في انتشار الوعي بمحاسن الحكم الاتحادي.

أما الجواب عن الشق الثاني من السؤال، فالرد أن الفدرالية سلاح ذو حديْن، فكما أن المطالبة بوجود اقاليم أو سلطات أوسع للوحدات الإدارية قد يعزّز من البعد الاثني أو القومي او المذهبي، ويزيد من الشعور بالذاتية، فيضعف أكثر اللحمة الوطنية. لكن، في المقابل أيضا، إذا كانت هذه المجموعات تقول إنه ليس هناك ارضية مشتركة تجمعها مع بقية مكوّنات المجتمع، فغن الفدرالية تسمح لها أن تظل رغم هذا الشعور بالبقاء داخل وحدة إدارية مع بعضها البعض. وما يجب إدراكه كذلك أن وجود الطائفية والقبلية في إطار فدرالي هو شيء طبيعي.

الأمر الذي لا يقلّ أهمية هو الاستحضار دائما بأن بناء نظام فدرالي عملية طويلة ومستمرّة ولا يجب استعجال نتائجها حتى لا يتغلّب بسرعة الإحساس بالفشل على أسباب النجاح، التي وحدها تتراكم مع الوقت. وبالعودة إلى بدايات التجربة السويسرية في مجال الفدرالية، كانت الكانتونات في البداية تنظر إلى العاصمة الفدرالية كمجرد ناد للكانتونات، بمعنى ان الكانتونات تمتلك كل الصلاحيات وكل السلطات وكل الموارد، ولا تثق في بعضها البعض بالقدر الكافي، ولم تبد أي استعداد للتنازل عن سلطاتها للحكومة المركزية. ولكن مع مرور الزمن والتقدّم في تطبيق هذه التجربة واستمرارها لما يزيد عن 200 عام  (منذ 1848)كل يوم يمر تمتلك الحكومة المركزية في برن المزيد من الصلاحيات، بعد أن أصبح منسوب الثقة في صعود مضطرد، وزادت المصالح المشتركة، وزاد التماسك بين مكوّنات المجتمع. والملفت للنظر هو لماذا يشعر السويسري الذي يتكلّم اللغة الفرنسية أن السويسري الذي يتكلم اللغة الالمانية أقرب إليه من حيث الوجدان والمصالح والمستقبل المشترك من جيرانه الفرنسيين!. نجاح الفدرالية مشروط كذلك بالمدى الزمني المطلوب، والصبر على سلبياتها في مراحلها الاولى.

swissinfo.ch: تتناسى الأدبيات المؤيدة للنظام الفدرالي إخلال هذا النظام بمبدا تقاسم الأعباء بين أقاليم الدولة الواحدة. ألا يكون الوضع أسوأ في بلدان عربية الثروة الوحيدة فيها هي الثروة الطبيعية (النفط خاصة).ماذا لو احتكر إقليم دون غيره هذه الثروة؟

د. عمر عوض الله: من الطبيعي جدا ان تكون داخل البلد الواحد أقاليم تخزّن ثروات طبيعية، وأقاليم اخرى تفتقر إليها. ولكن العلم الفدرالي حل هذه المشكلة بطريقتيْن: من جهة اعتبر الثروات التي هي في باطن الأرض فدرالية يرجع حق التصرّف فيها إلى الحكومة الفدرالية، كما أنه من الطبيعي أن تحتاج الأقاليم إلى بعضها البعض: هذا يحتاج إلى مصادر الطاقة، والآخر يحتاج إلى منفذ على البحر، والآخر يحتاج إلى اليد العاملة. والبيئة في اقليم تتأثّر بالبيئة في الاقاليم الأخرى.

ثم لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن بلدانا طبقت النظام الفدرالي وهي لا تملك أي شيء من الثروات الطبيعية ودونك سويسرا، إذ لا يملك هذا البلد سوى الثروة البشرية، ومتى ما نجح النظام الفدرالي في توفير الاستقرار السياسي والأمن، أبدع المواطن في كل المجالات. والرصيد الذي راهنت عليه الفدرالية السويسرية هو الإنسان في حد ذاته.

د. عمر عوض الله جعيد

للأسف يُقدم السودان نموذجا سيئا جدا لطريقة تطبيق النظام الفدرالي

swissinfo.ch: إذا كان الأمر كما قلت، لماذا لم يمنع النظام الفدرالي نشوب نزاعات في أكثر من إقليم سوداني، كما لم يمنع انفصال جنوبه عن شماله؟

د. عمر عوض الله: للأسف السودان يقدّم نموذجيا سيئا جدا لطريقة تطبيق النظام الفدرالي. أوّلا، لأن تطبيق الفدرالية فيه لم يكن طوعيا في البداية، وجاء الإستقلال عن المستعمر ليستبعد هذا الخيار، وظل كل من ينادي به يوسم بالخائن، وخارج عن الصف الوطني، تماما كما يحدث الآن في أكثر من بلد عربي.

ثمّ حتى لمّا سلّم الجميع بهذا الخيار كان بسبب ضغوط معادلات الواقع والتوازنات، ولم يكن نتيجة اقتناع، وبالتالي لم ترافق التجربة الفدرالية في السودان إرادة سياسية وشعبية كافية، واعتمدت الاطراف المتنازعة أو المتحاورة كل التكتيكات السياسية الممكنة حتى لا يستوفي هذا الخيار كل دلالاته في الواقع السوداني، وظلت الممارسة تختلف جوهريا عما يُصاغ في الإتفاقيات، كما أنه لم يتم تمليك هذا الخيار للنخب ولا لعامة الشعب. ناهيك على أن الظروف الموضوعية التي ذكرناها سابقا لم تكن متوفّرة في التجربة السودانية مثل الثقة والإعتراف المتبادل، والدخول في الحوار من دون اجندات خفية، والمصالحة وتناسي مرارات الماضي.

swissinfo.ch: بلد عربي آخر، وهو العراق، ومنذ الغزو الأمريكي عام 1993، أصبحت وحدته على كفّ عفريت، بسبب الطائفية، والنزعات الإنفصالية والرغبة في الإستفراد بمصادر الطاقة. إلى أيْن يسير العراق برأيكم؟ وما هي الحلول التي لا تزال متاحة أمامه؟

د. عمر عوض الله: في العراق، ارتبط مطلب الفدرالية تاريخيا بالأكراد. وقبل الغزو وبسبب الحصار كانت منطقة الاكراد (أربيل وكردستان خاصة) عمليا خارج سلطة الدولة المركزية، وبالتالي تمتعت بدرجة كبيرة من الإستقلالية والاستقرار والثروات. أما الآن، فالواقع يشير على أن الأكراد يخشون من أنهم إذا بقوا داخل الوحدة العراقية سيفقدون ما لهم الآن من امتيازات، وبالتالي هم غير راغبين في الإستقرار داخل الوحدة العراقية رغم أن التجربة المتقدّمة بعد الغزو سمحت بأن أوّل رئيس للعراق كان من الأقلية الكردية. على الأكراد أن يعوا أن التعقيدات الإقليمية الموجودة حاليا في المنطقة لن تسمح بقيام دولة كردية مستقلة لأن وجود هذه الدولة من شأنه أن يهدد استقرار الدول المجاورة (تركيا، إيران، سوريا). وقد أعلنت الحكومة التركية أخيرا رفضها السماح لدويلة كردستان بتصدير النفط عبر أراضيها من دون ضوء اخضر من الحكومة المركزية في بغداد.

أما الامر الثاني، فلننظر إلى الإتحاد الاوروبي، وما له من امكانيات وسطوة اقتصادية وعسكرية وثقافية و…وكيف أدرك أن رفاهية رعاياه وقوة بلدانهم تكمن في الإعتصام بالوحدة. إذن دعونا في العالم العربي نتعلّم من تجارب الآخرين. وهل الدولة الكردية أقوى من فرنسا التي تنازلت طواعية عن عملتها، وعن ساستها الخارجية، وبعض تشريعاتها لصالح الإتحاد. في نظري تكمن مشكلة العراق في ضعف الحكومة المركزية، وإذا ما توفّر الإستقرار، سيكون من مصلحة الأقلية الكردية نفسها، وبقية الطوائف أن يكون هناك عراق قوي يحقق رفاهية كل المنتسبين إليه، لكن الإقتناع بهذا سيستغرق وقتا، ولا حل لمشكلة العراق إلا بإرساء نظام فدرالي حقيقي.

 لمواجهة الحاجة المتنامية لمتخصصين من ذوي الكفاءة في المجال الفدرالي، والولائي، والحكم المحلي في السودان خاصة بعد أن شهدت البلاد موجة من عمليات التغيير العميق في النظام السياسي الذي انتقلت بمقتضاه من حكم مركزي إلى حكم فدرالي قسمت فيه السلطة والثروة بين مستويات الحكم المختلفة، أنشئ مركز الفدرالية للبحوث والاستشارات في مايو 2008، ويوجد مقره الرئيسي في الخرطوم، العاصمة الفدرالية للسودان.

تأسس المعهد، ومن مؤسسيه الرئيسيين الدكتور عمر عوض الله جعيد، لتحقيق الأهداف الأساسية المتمثلة في الاسهام في تقوية النظام الفيدرالي في السودان (تقديم أبحاث واستشارات قيمة في المجالات الفدرالية، والتعددية الثقافية، وحقوق الانسان، والميثاق الدولي لحقوق الانسان، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة والعدالة الجنائية.)، والنهوض بقيم الوحدة الجاذبة في اطار التنوع (تقديم البحوث والتدريب في هذا المجال)، و المساعدة في تقوية وتدعيم المبادئ الأساسية للفدرالية، و خلق روابط بين الأبحاث ورسم السياسات، وذلك بتطوير المعرفة لصانعي القرار السياسي، والمشرعين، في القضايا المعقدة والمتشعبة، وتقديم خدمات الاستشارة والنصح للجهات والمؤسسات المعنية بالفدرالية كوزارة الشؤن الفدرالية، والمجلس التشريعي، والمجالس المحلية والولائية.

يرتبط المركز حاليا بالمراكز والجهات البحثية الآتية:

معهد الفدرالية جامعة فريبورغ، سويسرا.

منظمة المنتديات الفدرالية بكندا

 مؤسسة ايمانينا قلوبال بماليزيا.

معهد البحوث الإفريقية  بجامعة القاهرة.

المركز العربي للإستشارات والبحوث والتدريب، القاهرة.

كما تعاون المركز خلال مسيرته البحثية والتوجيهية مع العديد من الجهات الإعتبارية منها الوزارات والهيئات العامة، والولايات، والبنوك الحكومية والبنوك التجارية، فضلا عن الشركات العامة والخاصة، منها شركات التأمين.

أشرف المركز منذ تأسيسه على العديد من الدورات التدريبية في داخل السودان وخارجه حول موضوعات عدة من بينها العلاقات المالية بين الحكومة المركزية والحكومات الولائية، والسلام والديمقراطية وإدارة التنوع، ودور الإعلام في ترسيخ ثقافة السلام والمصالحة، ودور اللجان الشعبية في إطار الحكم المحلي، والتخطيط الإستراتيجي وإدارة المشروعات، والحكومة الإلكترونية ودور الحكم المحلي في تنمية المجتمعات المحلية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية