مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

العدالة الإنتقالية ممرّ إجباري للعبور من الديكتاتورية إلى الديمقراطية

في مقر هيئة الحقيقة والكرامة بالعاصمة التونسية، تم يوم 27 أفريل 2017 إبرام اتفاقية تحكيم ومصالحة بين محمد الناصر الطرابلسي، شقيق زوجة الرئيس السابق زين العابدين بن علي، بصفته مرتكب انتهاك فساد مالي والسيد عبد الرزاق بن عزيزة بصفته متضررا بحضور خالد الكريشي (في وسط الصورة) عضو الهيئة ورئيس لجنة التحكيم والمصالحة فيها. Instance Vérité Dignité

يشكل مسار العدالة الانتقالية إحدى الثمار الكبرى للثورات الديمقراطية التي عرفتها عدة بلدان في العالم خلال العقدين الأخيرين. وفي مدينة منوبة القريبة من العاصمة التونسية، اختارت كلية الآداب والفنون والإنسانيات مؤخرا تسليط الضوء على اثنتين من التجارب الإنتقالية لإبراز نقاط القوة والإخفاقات على السواء، كي تضع المسار التونسي في سياقه التاريخي، وهاتين التجربتين هما المغربية والبولندية، بالإضافة للتجربة التونسية. كان ذلك في إطار سيمنار الدكتوراه برئاسة البروفسور حبيب قزدغلي تحت عنوان "العدالة الإنتقالية بين كتابة التاريخ والتوظيف السياسي".

تتسم كل مسارات العدالة الإنتقالية بكونها تأتي في أعقاب قطيعة بين عهدين، وتشكل آلية للإعتراف بالجرائم والإنتهاكات التي ارتُكبت في العهد السابق، ومن ثم إفساح المجال أمام الضحايا للكشف عمَا نالهم من عذاب جسدي أو معنوي ومن امتهان لكرامتهم ورد الإعتبار لهم باسم المجتمع بأسره.

تجربة نموذجية

شكلت تجربة جنوب إفريقيا المُنتقلة من نظام الميز العنصري إلى نظام المساواة بين البيض والسود، أهم تجربة لم يشُبها سوى قليل من التشوُهات. وقد بات هذا المسار جزءا من التاريخ منذ اللحظة التي سلم فيها رئيس هيئة العدالة والانصاف تقرير الهيئة المؤلف من مجلدين، إلى الرئيس ثابو مبيكي في مارس 2003. وبذلك طُويت آخر ملفات العدالة والإنصاف في بلد نيلسون مانديلا. وقد اتخذت الحكومة سلسلة من الاجراءات تنفيذا للتوصيات التي تضمنها تقرير الهيئة.

أتت التجربة المغربية مختلفة عن الجنوب إفريقية، إذ أعقبت رحيل الملك الحسن الثاني الذي اتسم حكمه (1961-1999) بانتهاكات واسعة لحقوق الانسان ومحاكمات رأي وتصفيات سياسية. وحاول نجله الملك محمد السادس طي صفحة الماضي بتشكيل الهيئة الوطنية للإنصاف والمصالحة، التي انطلقت في العمل في 2003 برئاسة الناشط السابق والسجين السياسي الراحل إدريس بن زكري، لتُغطي الفترة من 1956 (استقلال المغرب) إلى 1999 (رحيل الحسن الثاني). قبل ذلك تم الإفراج في أواخر عهد الحسن الثاني عن المساجين السياسيين من السجون السرية وإقفال عدد من تلك المعتقلات. 

إثر ذلك، تم تشكيل “هيأة التحكيم المستقلة” في أغسطس 1999، أي بعد شهرين من رحيل الحسن الثاني، والتي أكملت عملها في أواخر 2003، مُتخذة قرارات تقضي بالتعويض لعدد من ضحايا القمع والانتهاكات وأسرهم. وبعد أشهر قليلة تم تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة المؤلفة من 16 عضوا جميعهم من النشطاء السياسيين والحقوقيين المعروفين بدفاعهم عن حقوق الانسان. واتسمت التجربة المغربية بأن سقفها ظل دون تجربة جنوب إفريقيا لأن النظام لم يتغير وإنما رحل ملك وجاء ملك ثان في إطار المنظومة نفسها.

نموذج لا يخلو من الهنات

على الرغم من ان مسار العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا غدا أنموذجا يُحتذى به في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا وغيرها، ظهرت على سطحه عديد الهنات، فعرض التقرير تأخر أكثر من مرة، كما أن إجراءات الإنصاف والتعويض للضحايا التي كان مطلوبا من الحكومة أن تُنجزها تأخرت أيضا واستغرقت وقتا أطول مما كان مقررا. فقد تأسست اللجنة في أواخر 1995 وأعطتها رئاسة القس ديسموند توتو زخما قويا جعل كافة أبناء شعب جنوب إفريقيا، بل وكثير من المراقبين عبر العالم يُتابعون جلسات الإستماع. وكان مُقررا أن تنتهي اللجنة من عملها في غضون سنتين، غير أن خطاها كانت مُتعثرة فقدمت تقريرا أوليا في 1998، ثم حلت نفسها بنفسها.

عراقيل ذاتية وموضوعية 

في السياق، قالت حورية السلامي الناشطة المغربية وعضو مجلس حقوق الانسان بالأمم المتحدة إن ادريس بن زكري عمل على توسيع مظلة الضحايا الذين استمعت إليهم الهيئة إلى أوسع دائرة ممكنة. ونبهت إلى أنها اصطدمت مع ذلك بعراقيل ذاتية وموضوعية، منها غياب قانون يضمن النفاذ إلى الوثائق (تم سنُهُ لاحقا) وتعدد الروايات للحدث الواحد، وخاصة في الفترة التي تزامنت مع انقسام حزب الإستقلال في 1958 وولادة الاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية. وأضافت السلامي أن الحسم في تلك الصراعات ليس من دور هيئة الإنصاف والمصالحة وإنما هو مهمة منوطة بالمؤرخين، مُشيرة إلى أن الهيئة ليست سلطة قضائية ولا هي هيئة تحكيم تاريخية. وشددت على أن الغاية منها هي إظهار الحقائق ورد الإعتبار للضحايا.

اختلفت التجربة البولندية عن مساري الإنصاف والمصالحة في جنوب إفريقيا والمغرب. وقال باتريك بلاسكوت Patrick Pleskot إن هيئة الذاكرة الوطنية البولندية هي مؤسسة عمومية أنشئت بمقتضى قانون، وترمي للكشف عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت على أيدي النازيين والشيوعيين بين عامي 1944 و1990 (تاريخ انهيار المنظومة الشيوعية). ومن أجل ضمان استقلالية الهيئة، فإن رئيسها يُنتخب مباشرة من البرلمان لولاية تستمرُ خمس سنوات. وأضيف قسمان جديدان في نطاق الهيئة سنة 2016 وهما مكتب التربية الوطنية ومكتب التوثيق، ويرتدي كلاهما أهمية كبرى. فالأول سيساعد في إدخال مادة تخصُ تعريف الأجيال الجديدة بويلات القمع الذي عاناه البولنديون في ظل الأنظمة الإستبدادية السابقة، أما الثاني فيتعلق بتجميع الوثائق الموزعة بين مديرية الشرطة السابقة والشرطة النازية. وفي هذا الصدد، أوضح بلاسكوت أن بولندا تحتفظ بحوالي تسعين كيلومترا من الوثائق، وقد باتت كلها مُرقمنة، مما يجعل من الهيأة مؤسسة علمية وتربوية هامة جدا.

نزر قليل

استقبلت الهيئة البولندية حتى الآن عشرات الآلاف من الشكاوى ولم تتمكن من التثبت سوى من 56 ألف ملف حتى بداية السنة الحالية، وهذا نزر قليل بحسب بلاسكوت، لأن لدى الهيأة 550 ألف ملف. واستطاعت الهيئة تحديد أسماء 21 ألف شخص بين سياسيين ورجال شرطة يُشتبه في ارتكابهم لانتهاكات. أضاف بلاسكوت أن الهيئة تُحقق الآن في 900 جريمة حرب وانتهاك لحقوق الانسان إلى حدود عام 1990، تاريخ حل جهاز البوليس السياسي، كما عزا الصعوبات التي تواجهها الهيئة إلى كون اليمين القومي هو الماسك بزمام الحكم في بولندا، وهو ينسب نفسه إلى نقابة “تضامن” التي كانت مُحرك الثورة التي أطاحت بالحكم الشيوعي، “لكن مناضلي “تضامن” الحقيقيين باتوا اليوم مُهمّشين” بحسب ما يقول بلاسكوت. 

بلاسكوت يُقرّ أيضا بأن الهيئة توجد في وضع صعب وحرج حاليا لأن لدى كل حزب تصوُر خاص لمهمتها، ولأن إجراء تحريات دقيقة لم يعد مُمكنا في ظل الجدل المتصاعد حول حرية النفاذ إلى الوثائق التاريخية، خاصة أن بعض الوثائق صُنفت في خانة السرية! وأن بعض السياسيين لا يُخفون رغبتهم في حرق الوثائق، حتى أن أحدهم توعّـد علنا بإنهاء الهيئة. وفي هذا السياق، أكد أن المدعي العام لدى الهيئة مرتبط بوزير العدل أكثر من ارتباطه برئيس الهيئة.

في المحصلة، يوضح بلاسكوت أن النقاش حول الإرثين النازي والشيوعي تحول إلى جدل صاخب وحاقد وعنيف في البلد مما يدل على ضعف الثقافة الديمقراطية لدى البولنديين، إذ كان ذلك الحوار بحاجة لمن يُؤطرُهُ، بالاضافة لما يتخلله من خلط بين الحقيقة التاريخية والحقيقة السياسية.

تقاطع والتقاء

شدد الدكتور حبيب القزدغلي، عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات على أهمية التأريخ للذاكرة، وقال في مفتتح السيمنار: “إن الخزائن مليئة بالوثائق (المتعلقة بالعدالة الانتقالية)، لكن الهدف هو إيجاد نقاط تقاطع والتقاء وليس ظهور نقاط تباعد ومصادر افتراق جديدة” بين التونسيين.

مقارنة

في مداخلته، عقد جيروم هورتو Jérôme Heurteaux الأستاذ في جامعة باريس دوفين، مقارنة بين مساري العدالة الإنتقالية في كل من تونس وبولندا، ليستخلص أن هيئة الذاكرة الوطنية البولندية لم تظهر إلا في وقت متأخر أي بعد مرور عشر سنوات بأكملها على الثورة الديمقراطية، بينما المسار التونسي مختلف، إذ انطلق بعد مضي سنوات قليلة على الثورة. ورأى أن بلدان أوروبا الوسطى والشرقية بعد انهيار الشيوعية لم تكن لديها خبرة بالعدالة الإنتقالية، ولذلك كانت محاكمات المسؤولين السابقين على غرار الجنرال ياروزلسكي قليلة ولم تصدر عنها أحكام بالسجن. وحث على جلوس جميع الأطراف حول مائدة مستديرة وتحديدا المعتدلون في الفريقين، خاصة أن اليمين القومي المتشدد يسعى للتخلص من المحاسبة، حتى أن رئيس الوزراء البولندي الجديد صرح بأنه “لا بد من وضع حد للجدل حول التاريخ” في إشارة للعدالة الإنتقالية، مع أن الحكومات التي أتت بعد انهيار جدار برلين تسوس شعوبها في أوروبا الشرقية بالتاريخ.

في تونس، تُواجه العدالة الإنتقالية مشاكل وتحديات تختلف عن الحالتين المغربية والبولندية، ففي المغرب لم يتغيّر النظام، بينما أطاحت الثورة في تونس بحزب الرئيس السابق. وفي بولندا رحل النظام الشيوعي لكن لم تحصل متابعات قضائية وتأخرت العدالة الإنتقالية عشرة أعوام. أما في تونس فانتخب المجلس الوطني التأسيسي هيئة الحقيقة والكرامة في عام 2013 وتقرر أن يُغطي عملها الإنتهاكات التي حصلت خلال الفترة الممتدة من 1955 (تاريخ الحصول على الحكم الذاتي) إلى 2013 (تاريخ تشكيل الهيئة). ويتمتع أعضاؤها بالحصانة طيلة عملهم فيها. 

الإعلامية نورة البورصالي (وهي عضو مستقيل من الهيأة) انتقدت ظروف اختيار أعضاء الهيئة، مُعتبرة أن اللجنة التي تولت فرز الترشيحات اعتمدت معايير حزبية. وحذرت من تسييس عملها مُشيرة إلى أن استقالة ستة أعضاء من أصل 15 عضوا، جعلت توافر النصاب مستحيلا في الوقت الراهن لأن القانون يشترط حضور ثلثي أعضاء الهيئة على أقل تقدير لكي تكون الإجتماعات والقرارات شرعية. وقالت: “إن الأعضاء المتبقين غيّروا القانون فجعلوا النصاب هو ثلثي الحاضرين”.

وبعد أن ذكرت بأن مجلس النواب التونسي لم ينتخب حتى الآن بدائل عن الأعضاء المُستقيلين، أشارت البورصالي إلى أن العدالة الإنتقالية في تونس كانت مسارا مُتفاوضا عليه بين الأطراف المعنية. وفي سياق متصل، تطرقت إلى شهادات ضحايا الإستبداد التي بثها التلفزيون العمومي، فلاحظت أن الوقت المُخصّص للشهادات العلنية كان موزعا بالقسطاس في التجربة المغربية (20 دقيقة لكل شخص) على عكس الوقت المتاح للضحايا في تونس، الذي اختلف من شخص إلى آخر. كما اعتبرت أن “بعض الشهادات كانت مُوجّهة من طرف رئيسة الهيئة سهام بن سدرين التي كانت تُلقي الأسئلة على الشهود، بينما كان عليها أن تبقى مُحايدة” بحسب البورصالي.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية