مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

المعنى الحقيقي لـ “الرّوح الفنّية”

Portrait
Thomas Kern/swissinfo.ch

سونداي تتر، فنّان كرديّ هاجر من بلده سوريا بعد اندلاع الحرب هناك، ويعيش منذ 2015 في مدينة شبيتس السويسرية بالقرب من العاصمة برن. ولا زال يمارس فنّه الذي نتعرف هنا على أشكاله وألوانه المختلفة.

كانت البداية في بلدة عامودا الواقعة في أقصى شمال شرق سوريا في محافظة الحسكة الحدودية مع تركيا. هناك بدأ الفنّان البالغ من العمر الآن 44 عاماً ممارسة الرسم بقلم الرصاص، ومن ثمّ الألوان الزيتية ورسم الكاريكاتير. إلّا أنّ هذا النوع من الفنّ تطلب معدات وأدوات وألوان لم تكن في متناول يده دائما، “أدوات التلوين في سوريا غالية الثمن ولم أستطع شراءها”، فكان لا بدّ له من الارتجال. 

لجأ تتر إلى الجرائد وبقايا علب السجائر وقشور البزر والرمل والتراب والطين والأحجار والكرتون وكل شيء يتميّز بالألوان التي يحتاج إليها الفنان من أجل الوصول إلى لوحاته الفنية. علماً بأنّه لم يدخل إلى مدرسة ولا إلى معهد عالي أو كلية فنون جميلة، بل أخرج لوحاته من مخيلته واستلهم مقدرته الفنية بتعليم ذاتي وبجهد شخصي. فلم يكن اتباع الطرق البديلة للوصول إلى تشكيل الرسوم وتجسيد اللوحات محض صدفة، حيث أنّ الفنّ لديه كان في أساسه مزيج من الاجتهاد والموهبة.

كان تتر يفضل العزلة وقضاء معظم وقته في غرفته الصغيرة، يرسم وينحت ويبتكر وسائل تدرّ عليه بعض المال. كما أنّه كان ولا زال مولع بالموسيقى ويتقن عزف العديد من الآلات الموسيقية، كالطنبور والقانون والعود والهرمونكا وغيرها، ويؤلف الألحان بنفسه ويتقن تلحين الكثير من الأغاني الشعبية وغير الشعبية، بغض النظر عن كلماتها، “لا أعرف كلمات أي أغنية، ولكنّي أستطيع التّعرف على الكثير منها مباشرة من خلال ألحانها”.

استمر الابتكار الإجباري للتغلب على العقبة المادية في مجال الموسيقى والألحان أيضاً، حيث كان على الفنان الشاب تصميم وصناعة آلاته الموسيقية بنفسه، فركّبها كلوحاته من بقايا الأشياء عديمة النفع لسواه، وأخرج منها منتجا يصدح بالموسيقى الحقيقية. فصنع الطنبور على سبيل المثال بداية من علب السمنة الفارغة ومن الأسلاك المعدنية لمكابح الدراجة كأوتار له، وبعدها من ألاف أعواد البوظة، التي “جمعها له أخوه وأخته مقابل مبلغ بسيط من المال”، وهكذا توصل إلى آلة كافية لإشباع رغبته بالتّمتع بعزف ما يحلو له من الأغاني. توصل تتر في نهاية المطاف إلى اختراع شيء يعوض عن الطنبور وآخر عن آلة القانون بنفس الطريقة، وبعض الآلات الموسيقية الأخرى كالناي.

فرقة موسيقية بعضو واحد

من أجل ممارسة هواية العزف على آلاته المختلفة، العود والطنبور والقانون والهارمونيكا، بحث تتر عن مجموعة من الأصدقاء في بلدته وشكّل معهم فرقة موسيقية تألفت من أربعة أشخاص، وبدأوا بإحياء الحفلات على نطاق ضيق جدّاً، “بشكل رئيسي في عيد النيروز، وأخرى خاصة”. لم يتطور الأمر أكثر من ذلك، فقد افترقوا بعد سنة فقط لأسباب مختلفة أهمها غياب المردود المادي والالتحاق بالخدمة العسكرية، كان جميعهم فنانين وموسيقيين، منهم من يعيش الآن مثله في بلدان أوروبية. كانت الفرقة قد أصدرت ألبوماً موسيقياً (CD)، ولكنه لم يلق نجاحاً كبيراً ولم يكن له مردود مادي يذكر.

يقول تتر: “الهدف هو ممارسة الفن، فكيف له أنّ يعوض عن خسارة الفرقة الموسيقية؟”. هنا يتدخل العقل المخترع من جديد، فقد فكّر في دمج الآلات الموسيقية في آلة واحدة يحملها بين يديه ويعزف لوحده خمسة آلات موسيقية مع بعض، ونجح في ذلك. وبدأ بالتدريب على هذه الطريقة الخاصة به، ولا يزال يطور تلك الآلة المركبة إلى اليوم.

الفنّ هنا، هل من متذزّق أو مشتري؟

وصل سونداي تتر بهذا الجهد والإبداع الفنّي والابتكار التقني والحرفية اليدوية إلى هدفه في انتاج اللوحات والمجسمات ورسوم الكاريكاتير والألحان بأشكالها المختلفة، ولم يبق الآن سوى أن يصل هذا الفنّ إلى متذوقيه وجمهوره. المهمة التي استمت بالصعوبة الكبيرة في سوريا، فالأمر يتعلق من جديد بالمقدرة المالية على افتتاح المعارض والترويج من خلال الدعاية. هذا كله لم يكن ممكناً بالنسبة لتتر.

الطرق البديلة من جديد، لجأ الفنان من أجل الوصول إلى الجمهور، إلى المراكز الثقافية المنتشرة في المدن السورية، وأولها في بلدته عامودا ومن ثم القاميشلي، ونجح في عرض أعماله فيها أبع مرات، وانتقل إلى العاصمة دمشق، الوجهة المحببة لكلّ فنّان، لكثرة وتنوع متذوقي الفن هناك، فعرض عليهم انتاجه الفني ولوحاته وأعماله النحتية، ورغبته في عرضها هناك.  لكنّ الردّ جاء من معظم تلك المراكز في دمشق بالرفض، فقط بعض المراكز الثقافية الأجنبية قبلت أعماله وعرضتها في معرض مشترك مع فنانين أخرين، في المركز الثقافي الروسي، وفي المركز الثقافي الفرنسي الذي استقبل الفنان في أمسية موسيقية خاصة، ” في 2004 حاولت القيام بأمسية كتلك في المراكز الثقافية العربية،  كأبو رمانة، استقبلوني ووعدوني، ولم يوفوا بالوعد”. المركز الاسباني استقبل تتر وقدم هناك أمسية للموسيقى العربية والكردية والتركية، هكذا استقبلت بعض المراكز الأجنبية في دمشق الفنان السوري وقدمت له الفرصة لعرض فنّه على الجمهور.

الفنّ كلاجئ

لا يزال الفنان المخترع يستخدم آلاته المبتكرة متعددة الألحان إلى اليوم. جاء بها معه إلى سويسرا، حيث يعيش منذ 2015 كلاجئ. ولكنه أدخل عليها التعديلات اللازمة “لكي يدخل اللحن الغربي عليها”. لم يكن ذلك التعديل هو الوحيد في حياته، لكي تتناسب مع الحياة السويسرية، بل لحق بها الكثير، وللأسف لمّا يلحق بهذه التغييرات تغييرٌ مهم جدّاً وهو تعلّم اللغة الألمانية، ما يعتبر العقبة الأولى أمام جميع الوافدين إلى سويسرا الناطقة بالألمانية، حيث يعيش الآن، وكذلك بالنسبة له الذي يسعى إلى الوصول إلى الجمهور هنا.

في سويسرا، يعاني تتر بالإضافة إلى مشكلة اللغة، التي تحول دون وصوله إلى عرض أعماله على الأفراد والمؤسسات، من المشكلة المادية لترويج فنّه، كلاجئ يحصل على ما يغطي احتياجاته الضرورية، ولكن كفنان لا يمكنه تأمين المواد الأولية التي يحتاجها، ولكنه يجتهد في حلّ تلك المشكلة بالبحث عن طرق بديلة، كعادته. ما يظهر وجه شبه واضح بين حياته كفنان في بلده الأصلي سوريا وفي سويسرا البلد الذي لجأ إليه، حيث كانت المراكز الثقافية الوحيدة التي استضافته وعرضت بعض أعماله، هنا في سويسرا أيضاً كانت مراكز اللجوء، حيث تمت دعوة الجمهور إلى تلك المعارض المنظمة في مراكز اللجوء في مزيج من التعريف بنشاطات تلك المراكز وعرض فنّي لأحد المواهب هناك. 

ولكن الفرق الأكبر الذي تحدّث عنه تتر وركز عليه كان “التقدير الكبير للفنّ من قبل الجمهور السويسري” مقارنة بذلك الذي تعرّف عليه في سوريا، “هنا تشعر من نظرات الناس إلى عملك الفني وإليك بالتقدير والاحترام الكبير الذي يكنّونه لك ولأعمالك، فهم يقدمون لك الشكر المباشر بابتساماتهم العريضة ونظرتاهم الممتنّة”، نظرات الامتنان والتقدير كانت أكثر من نظرة إلى تتر كلاجئ مجتهد، وكفنان مبتكر، وان اقتصر عرض أعماله على المساحات التي توفرها مراكز اللجوء.

العزلة كحالة طبيعية

فضّل سونداي تيتر العزلة في غرفته الصغيرة في بلدته عامودا على أيّ شيء آخر، يقول: “هناك شعرت بالراحة النفسية الكاملة “، حيث ألوانه ومعدّات النحت وآلاته الموسيقية ذات الصناعة اليدوية والمواد الأولية البدائية، وكذلك في سويسرا، حيث بدأت العزلة الإجبارية في مراكز اللجوء وانتهت بالعزلة الاجتماعية بسبب حاجز اللغة، وكذلك العزلة الفنية الناتجة عن اختياره، فلم يتغيّر شيء بالنسبة لشخصه كفنان ولإنتاجه الفني. حتى يمكننا القول بأنّ سونداي تتر قد عاد إلى حالته الطبيعية “العزلة”.

 عزلة يرغب الفنان بكسرها ويستعد لذلك من خلال استمراره في تعلم اللغة الألمانية ومتابعة الدورات القليلة المتاحة له والتي تقدمها له الإدارية المسؤولة عنه كلاجئ. وكذلك من خلال ممارسة مهنة الديكور ولكن بدون مقابل من أجل الاستفادة من الوقت والمقدرة الفنية المطلوبة في هذه المهنة وزيادة الخبرة، بهدف قطع كل تلك العقبات التي تقف في طريقه والانطلاق كفنان مسؤول وكسب بعض الشهرة في بلد إقامته الجديد. 

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية