مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

كيف يمكن الإستفادة من العقول المغاربية المهاجرة حيثُما كانت؟

الشابة التونسية ريم مصدق حلّـت مؤخرا في جامعة برينستون الأمريكية العريقة لتعمل في مخبر الجيوفيزياء

فجَّـر فرانسيس غيلاس، الصحفي السابق والباحث الحالي في مركز الدراسات الدولية في برشلونة، مُـفاجأة كُـبرى بإعلانه أن النّـخبة المغاربية العاملة في الخارج تودِع 200 مليار دولارا في البنوك الأجنبية.

واقترح غيلاس توظيف 5% فقط من تلك الودائع الخاصة لبناء وِحدة المغرب العربي في أفُـق 2030. فهذه الأموال المتنقّـلة بين أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية والخليج، يُـمكن استخدامها، بحسب غيلاس، في تكريس التكامل الأفُـقي بيْـن ثلاثة بلدان هي: المغرب والجزائر وتونس.

وكان غيلاس، المنحدر من أصول جزائرية، يعرض في لقاء استضافته أخيرا المدرسة العليا للأعمال في العاصمة الجزائر، نتائِـج بحْـث جديد، شارك باحثون عرَب وأوروبيون في إعداده. وبغَـضِّ الطّـرف عن حقيقة الفُـرص الواقعية المُـتاحة لتحريك قِـطار التّـكامل المغاربي، فإن البحث كشَـف عن ثِـقل الوزن الاقتصادي المُـتزايد للنُّـخب المغاربية المُـنتشرة في العالم، وهي إما نُـخب ثقافية وعِـلمية أو رجال أعمال وأصحاب مشاريع ناجحة، وهذا يعني نهاية الصورة السّـابقة التي ارتسَـمت في الأذهان طيلة عقود عن المُـهاجرين المغاربيين، باعتبارهم بنّـائين أو عمّـالا في المصانع الألمانية والفرنسية أو المزارع الإيطالية.

تغيّـرت ملامح الهجرة بالكامل وانتهى عصر المُـهاجر الأمِّـي والفقير، لتُـوضع في مكانه صورة المهاجِـر المتفوِّق تعليميا والميْـسور ماديا والمؤهَّـل لتولِّـي مناصب قِـيادية في الاقتصاد كما في السياسة. ويكفي استعراض الحضور المغاربي في الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها بُـلدان غربية مهمّـة طيلة العقديْـن الأخيريْـن، وخاصة فرنسا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا، لكي يتجلّـى العدد المتزايِـد من المنتخَـبين المُـنحدرين من البلدان المغاربية من انتخابات إلى أخرى.

وشمِـلت الظاهرة كندا والولايات المتحدة أيضا، على رغْـم وصول المهاجرين المغاربيين إليها في مرحلة متأخِّـرة زمنيا قياسا على أوروبا. ولا أدلّ على ذلك من الصّـعود السريع لنجم العالم الجزائري إلياس زرهوني، الذي بات أعلى مسؤول أمريكي عن قطاع الصحّـة.

واعتبر عباس بن دالي، الذي أسّـس مكتب دراسات للتّـرويج التجاري في فرنسا “سوليس” (Solis) في تصريح لمجلة “جون أفريك”، أن النُّـخب المغاربية تلعَـب دوْرا مُـتناميا في تحريك عجَـلة الاقتصاد الفرنسي وتنشيط المُـبادلات التجارية بين أوروبا والمغرب العربي.

وقال بن دالي لـ swissinfo.ch إن المكتب الذي يُدِيره أعَـدّ دراسة في العام الماضي عن المُـهاجرين المُـنحدرين من إفريقيا وتركيا ومقاطعات ما وراء البحِـار الفرنسية. وأظهرت الدراسة أن عدد المغاربيين في فرنسا بلغ ثلاثة ملايين و264 ألفا، أي 58.9% من هؤلاء الأجانب.

وأشار إلى ظاهِـرة لافِـتة للنّـظر، وهي أن نسبة الشبّـان الذين تقِـلّ أعمارهم عن 40 سنة من بين هؤلاء المهاجرين المغاربيين، تصِـل إلى أكثر من 70%. وأكّـد أن هذه السِّـمة هي مِـيزة تتفوّق بها هذه المجموعة على مجموعات المُـهاجرين الأخرى المُـقيمة في فرنسا.

أكثر من ذلك، بيّـنت دراسة مَـيدانية قام بها فريق من مكتب “سوليس”، قُـبيْـل المباراة الحاسِـمة الشهيرة بين المُـنتخبيْـن الجزائري والمصري لكرة القدم في إطار تصفِـيات كأس العالم، أن الجاليتيْـن المغربية والتونسية في فرنسا، كانتا مُـؤازرتين للجزائريين بصورة جسّـدت وِحدةً مغاربيةً متِـينة.

بحثاً عن “اللّـجوء الأكاديمي”

لكن الأهَـم، أن تلك الجاليات التي تبدو متشبِّـثة بهُـويتها، قرّرت مُـغادرة مَـواطِـنها الأصلية، ربما على مضَـض، بحثا عن أوضاع تشعُـر في ظلِّـها بأنها بعيدة عن الضّـغوط. وتتكوّن الجالية المغاربية في أوروبا وكندا والولايات المتحدة من عقول مُـهاجرة ترَعْـرعت في مدارِس الوطن وتعلّـمت في جامعاته، ثم تركتْـه بحثاً عن نوْع من “اللّـجوء الأكاديمي”، وأحيانا اللّـجوء السياسي.

فالجزائري إلياس زرهوني، الذي كان يُخطِّـط للعودة إلى بلده بعد إنهاء دراساته العُـليا في الولايات المتحدة، اختار في نهاية المطاف البقاء في العالم الجديد، بعدما صُـدِم بحقيقة أوضاع الباحثين في وطنه الأصلي. ونجح زرهوني في تأسيس ما يُـسمّـى بالهيْـئة الجزائرية الأمريكية في يناير المنصرم، بمشاركة أكثر من 150 جزائريا من أعلى المُـستويات، ما اعتُـبِـر سابِـقة في العلاقات الأمريكية العربية، لأنها تهتمّ بمجالٍ جديد، هو تطوير الكفاءات الأكاديمية بين البلدين.

كما عبَّـر عن افتخاره بجزائريَـته عندما تحدّث عن نشاطٍ دائمٍ يقوم به في إطار جمعية الباحثين الجزائريين المُـقيمين في الولايات المتحدة، والذي يفُـوق عددهم 1200 باحث من ضِـمن 13 ألف جزائري مسجَّـلين في السفارة الجزائرية في أمريكا.

وقال زرهوني، الذي درس في ثانوية الأمير عبد القادر في الجزائر العاصمة وحصل منها على الثانوية العامة، لـ swissinfo.ch: “لم يكُـن في نيَّـتي الاستقرار هناك، بل خطّـطت لإنهاء دراستي ثم العوْدة إلى الجزائر”. وسألناه: لماذا لم تعُـد للاستقرار في بلدك؟ فأجاب “درَست تخصّـص طبِّ الأشعّـة وتفوّقت وانتقَـلت إلى مركزٍ للبحْـث في جامعة “جون هوبكنز”، التي تُـعدُّ رائدةَ الجامعات عالمِـيا في مجال الطبّ”.

واستطرد قائلا: “كان ذلك عام 1975، ونجحت لأنهم في أمريكا يمنَـحون التّـرقيات والمناصب بحسب الكفاءة، وليس بالنظر إلى أصولك أو دِينك. وركّـزت أبحاثي على السّـرطان، مع اعتمادي على جهاز السكانير، الذي كان حديثا نِـسبيا آنذاك، وهكذا أصبحت طبيبا في جامعة “هوبكنز” مختصّـا في جهاز السكانير. وفي عام 1978، كُـنت ما زِلت أعمَـل في مركز الأبحاث في جامعة “جون هوبكينز”، فحضرت إلى الجزائر وقِـيل لي حينها إن الشهادة التي حصلت عليها في الولايات المتحدة لا تُـساوي شيئا وأنها غيْـر مُـعتمدة في الجزائر، لأن دراستك لا تتوافَـق مع المِـنهاج المدرسي في الجزائر، بل عليك الخُـضوع للاختبارات الجزائرية، حتى يكون لك الحقّ للعمل هنا، فقُـلت لهم إنني موافِـق على اجتياز الاختبارات، لأنني لم أكُـن أطلب أي معاملة تفضيلية أو “مْزِيَّـة”.

وتابع رواية قصته قائلا: “في تلك الفترة، أصيب الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله بمرضه وكان بحاجة إلى إجراء كشف بالسكانير، وهو الجهاز الذي لم يكُـن متوافرا في الجزائر. وأجرت السلطات اتِّـصالات بالولايات المتحدة وألمانيا من أجل استقدام جهاز سكانير لإجراء الفحوص للرئيس، لكن الردّ كان سلبيا. وصادف أن وزير الصحة آنذاك كان يعرف طبيبا اختِـصاصيا في الأشعّـة، فسأله عن الطبيب القادِم من أمريكا، أي عنِّـي، وهل بإمكاني إحضار جهاز سكانير، وفِـعلا تمّ الاتصال بي وأجبْـت بأنهم إن أرادوا، فبإمكاني إحضاره خلال 24 ساعة، لكنهم لم يأخذوني على محمَـل الجدّ، رغْـم أنهم طلبوا مني المحاولة.

وأجريْـت مكالمة هاتفية مع زملائي بمركز الأبحاث في جامعة “هوبكينز”، وكنت حينها رئيسا لوحدة السكانير، وطلبت منهم إرسال جهاز سكانير لفحْـص الرئيس، فاستجابوا لطلبي وتمّ إرسال الجهاز عن طريق الطائرة. وصل الجهاز وقُـمت بنفسي بإجراء الفحوص للرئيس بومدين. وبعدها أتممْـت دراستي وأبحاثي في جامعة “جون هوبكينز”، وحان موعِـد عودتي إلى الجزائر، لكن لم تكُـن الظروف مناسبة، إذ لم تسمح لي بالاستفادة الكاملة ممّـا درسته ومواصلة أبحاثي”.

ولاقى زرهوني صُـعوبات من نوْع آخر في أمريكا، لأنه كان حديث الحصول على الجنسية الأمريكية، إذ قام مستشارو الرئيس السابق جورج بوش بترشيح ثلاثة أطبّـاء أمريكيين وكان هو الرابع، ولمّـا اطَّـلع بوش على القائمة، سأل عنه وكيف درس، فقيل له أن زرهوني درَس في الجزائر ثم واصل في أمريكا، فاختاره بوش وقال لمستشاريه “هذا الرجل بنَـى نفسه بنفسِـه واستطاع أن يحقِّـق كل هذا وهو في أمريكا، وبالتالي، فهو سيكون مديرا للمعهد”.

لكن الغريب، أن هذا العالِـم المتميِّـز لاقى تكريما في فرنسا والولايات المتحدة، ولم يُكَـرَّم في بلده. ولما سألته عن السّـبب، أجاب بتواضُـع العُـلماء “لكن هذه الأمور لا تهمّـني”. وعدتُ أسأله بوصفه عالما: ما الذي ينقُـص الجزائر حتى تصبِـح بلدا متقدِّما؟ فرد “لابد من التخلّـص من البيروقراطية وتحسين مكانة الباحِـث العِـلمي وتوفير كلّ السُّـبل لإتمام بحوثه وتشجيعه. فالعالَـم تقدّم ولابدّ من تقدّم الإمكانات، ولابدّ أيضا من وضع مخطّـطات لتطوير ذلك”. وسُئل زرهوني خلال زيارته الأخيرة لبلده بوصفه موفدا للرئيس أوباما: “إذا طُـلِـبَ منك أن تُـعِـدّ دراسة لبلدك حتى يتقدّم الطبّ والعِـلم فيه، هل توافق؟”، فأجاب: “بدون تردّد، وبعينيْـن مغمضتيْـن، إنه بلدي”.

لكن عندما سُئل: “هل عندك استِـعداد للعودة للجزائر والمُـكوث بها؟”، ردّ بلا مُـجاملة “هذه الفكرة دائما في رأسي. صحيح أن كل الإمكانات متوفِّـرة في أمريكا لتطوير العِـلم، رغم البيروقراطية الموجودة عندنا، دَعْـني أوجِّـه لهم نداءً لفتْـح الأبواب أمام البحث العِـلمي، بعيدا عن الحسابات، افتحوا العلاقات وِفقا لمخطّـطٍ وطني”.

وانطلاقا من هذه الوشيجة القوية، التي ما زالت تشدّه إلى أصوله، بادر في مطلع العام الجاري بتأسيس جمعية أطلَـق عليها اسم “الهيئة الجزائرية الأمريكية” بمشاركة أكثر من 150 جزائري من أعلى المُـستويات. واعتُـبِـرت الهيئة سابقة في العلاقات الأمريكية العربية تهتَـم بتطوير الكفاءات والقُـدرات بين البلديْـن. وأفاد زرهوني أن جمعية الباحثين الجزائريين المُـقيمين في الولايات المتحدة تضُـم 1200 باحث، وأن ثُـلث الجزائريين المسجَّـلين في السفارة الجزائرية في أمريكا وعددهم 13 ألفا، هُـم من حمَـلَـة الشهادات الجامعية.

وأضاف، أن ألفَـيْ جزائري يُعِـدّون رسائل دكتوراه، فيما يُدرِّس ألفا آخرين في الجامعات. وإلى جانب كندا والولايات المتحدة، هاجر آلاف العُـلماء والأطباء والمهندسين والفنانين الجزائريين إلى أوروبا في تسعينات القرن الماضي.

المغرب وتونس

ومن المغرب وتونس، يتحوّل أيضا آلاف الباحثين الشباب وطلاّب الهندسة والعلوم، الذين تفتَـح لهم الجامعات الأوروبية والأمريكية أذرُعها، ليُـتابعوا دراساتهم العليا في جامعاتها ومراكز أبحاثها، غير أن قلّـةً منهم تعود إلى الوطن. وفي حين تمتنِـع البُـلدان المُـستقبلة عن منْـح تأشيرات الدخول للعمّـال وتتحرّى كثيرا مع السياح لقطْـع الطريق أمام الهجرة غير الشرعية، نلاحِـظ أنها تمنح أفراد النّـخبة حوافِـز للهجرة، لكونهم يُعتبَـرون كوادر جاهِـزة للعمل والإنتاج، من دون أن تكون أنفَـقت على تكوينهم أو تعليمهم فِـلسا واحدا. وقد يعود بعضهم إلى بلده أو منطقته، لكن بصفته مندوبا لشركة متعدِّدة الجنسيات أو مؤسسة غربية تسعى للاستفادة من معرفته بخصائِـص المنطقة العربية.

فالفرنسي توفيق السوداني، وهو تونسي الأصل، يعمل مستشارا في التجارة بين أوروبا والمنطقة المغاربية لدى مجموعة “دكسيف” الدولية Dexcif International، وكذلك فعل مواطِـنه علي بن حمودة، الذي يُـدير مؤسسة خاصة في مجال الطيران في فرنسا واتّـجه بن حمودة لإنشاء شركة في تونس التي وُلِـد فيها أبواه، تابعة للشركة الفرنسية الأم.

وتنسحب الظاهرة نفسها على العلماء والخبراء الجزائريين في أوروبا. ففي فرنسا شكّـل عدد من وجُـوه النُّـخبة المُـنحدِرة من أصول جزائرية “حلَـقة المقاولين والصناعيين الجزائريين في فرنسا”
Le Cercle des entrepreneurs et des industriels algériens de France (Ceinaf)

وقال رئيس اللوبي شريف حاجي في اتصال هاتفي مع swissinfo.ch: “إن الحلَـقة التي تأسّـست في عام 2001 وتمّـت هيْـكلتها في عام 2005، استطاعت في عدد قليل من السّـنوات أن تنتشِـر في التّـراب الفرنسي وكذلك في الجزائر، وتُـنشِـئ جسورا لنقْـل التكنولوجيا. واستدلّ على هذا الدّور، بمساهمتها في إقامة “مدينة الصيانة الصناعية والتكوين المهني” في الجزائر، بالإضافة لإيجاد ذراع تمويلية تُـساعد رجال الأعمال الشباب على إقامة مشاريعهم.

والظاهر أن البلدان المغاربية يئِـست من استعادة عقولها المهاجرة وباتت تبحث عن وشائِـج لجعلهم مُـرتبطين بمَـواطنهم الأصلية. وكان هذا الخِـيار هو الفِـكرة المِـحورية التي انتهت إليها النّـدوة الدولية الثانية عن الهجرة والتنمية، التي أقامتها أخيرا منظمة العمل الدولية بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية التونسية في مدينة حمامات، بمشاركة خبراء أوروبيين وعرب، والتي حازت هجرة الأدمِـغة عبْـر البحر المتوسط على قِـسم مُـهمّ من أعمالها. وتتمثّـل الفكرة الرئيسية في محاولة العمل في المستقبل على الاستفادة من العقول المُـغتربة في مبادرات ومشاريع محدّدة، من دون مطالبة تلك العقول بالعوْدة.

وقُـدِّمت إلى النّـدوة ثلاث دراسات خصوصية عن الجزائر وتونس والمغرب، بالإضافة لدراسة تأليفية. ونبّـه المنسِّـق العام لمشروع “المهاجِـر المغاربي” (Migrant-Maghreb) صائب موسات Saïb Musette من أن المهاجِـر المغاربي، لم يعد ذلك الشخص الذي يسعى في مطلع كل شهر لإرسال مبلغ من المال إلى أسْـرته، مؤكِّـدا أن حركة الهجرة المغاربية أبصَـرت تغييرا جوهَـريا في نسَـقها وبِـنيتها. ورأى أن ذلك التغيير شمل أيضا موقِـفها من بلدها الأصلي ومن بلد الاستقبال، مُقترحا التفكير في صِـيغ تأخذ في الاعتبار أن العقول المهاجرة لا تخطّـط للعودة، لأنها لا ترغب فيها أصلا. ومن الصِـيغ التي رأى أنها واقعية الاستثمار في مشاريع في بلدانها الأمّ أو إقامة شراكة بين المؤسسات التي تُـديرها ومؤسسات مُـماثلة في البلدان التي تنحدِر منها.

غير أن بيتر شاتزر Peter Schatzer، مدير مكتب المنظمة الدولية للهِـجرة في روما، الذي يغطّـي 15 بلدا مُـطلا على حوْض المتوسط، قال لـ swissinfo.ch: “إن على بلدان الضفّـة الشمالية للمتوسط أن تموِّل مشاريع تنموية في بلدان الضفة الجنوبية من أجْـل الرّفع من مستوى الحياة والمرافق على نحو يشُـدّ السكان إلى مناطِـقهم ويُشجِّـع المهاجرين على العوْدة للعيْـش في بِـيئة اجتماعية لائقة”.

سراب العوْدة

لكن حُـلم العوْدة هذا يبدو سرابا إذا ما تفحَّـصنا مُـستوى الاندماج المتقدّم الذي باتت عليه العقول المهاجِـرة من الضفة الجنوبية، والذي لا يخُـص العرب فقط، وإنما الأتراك أيضا. ولوحِـظ في التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته الأخيرة إلى فرنسا، أنه حذّر المهاجرين الأتراك من الذَّوبان في المُـجتمعات التي استقبَـلتهم، مع تأكيد قناعته بضرورة الاندماج، ما يعني أنه يؤيِّـد الانسجام مع المجتمع الذي احتضنهم كي لا يعيشوا في “معازل”، لكنه يرفُـض الاستيعاب الذي يمحُـو هُـويتهم، كما قال. ولا شيء يضمَـن إبعاد شبَـح الانصهار وصُـولا إلى انقِـطاع الصِّـلات تدريجيا مع البلد الأصلي، في الجيل الثاني أو الثالث.

فما الذي يؤكِّـد أن الشابة التونسية ريم مصدق، التي حلّـت مؤخرا في جامعة برينستون العريقة في الولايات المتحدة، لتعمل في مخبر الجيوفيزياء “Geophysical Fluid Dynamics Laboratory”، بعدما نالت شهادات متميِّـزة في فرنسا، منها الدكتوراه في الفيزياء “الأوقيانوسية” وعِـلم المَـناخ، سيكون في وُسعِـها يوما العوْدة إلى بلدها والاستقرار فيه؟ وهل ستجِـد التجهيزات المُـتاحة والمناخ الأكاديمي المتوافر في الولايات المتحدة، إذا ما عادت إلى بلدها؟ قالت ريم، إنها سعيدة بوجودها في تلك الجامعة، وهي بين أساتذة مرموقين مُحاطَـة بعدَدٍ من حامِـلي جائزة نوبل، ولذا، فلن يكون بلدها سوى ذكرى جميلة مرتبِـطة بجلستها على حافة الميناء “البونيقي” في قرطاج لتتأمّـل البحر أو صور أقرانها في معهد ميتوال فيل، الذي درست فيه المرحلة الثانوية…

والأرجُـح، أن مسار ريم لن يختلِـف عن المغربية سهام أربيب، مديرة الاتصال في مجموعة CFCI Paris الفرنسية ومؤسسة مكتب الاستشارات APIM consulting في بروكسل، التي دخلت غِـمار الحياة العملية في فرنسا بعد التخرّج، إلا أنها لم تنسَ بلدها، فشاركت في تأسيس نادي Compétence synergie & initiatives المعروف اختصارا بأحرفه الأولى CSI، والذي باشر مساعدة الحاملين للجنسية المُـزدَوجة المغربية – الفرنسية على تطوير كفاءاتهم وحثِّـهم على الاستثمار في مشاريع في المغرب.

وهناك جمعيتان على الأقل في فرنسا تشكِّـلان جِـسْـرا للأكاديميين والخرِّيجين المغاربة عموما، كي لا تنقطِـع صِـلتهم ببلدهم، الأولى هي Maroc entrepreneurs وتتعهّـد بإعداد خُـطط استثمارية في المغرب للخرِّيجين الجُـدد، أما الثانية، فهي جمعية خُـبراء المعلوماتية المغاربة في فرنسا، المعروفة باسم Aimaf، وتضُـم هذه الجمعية 640 خبيرا ومهندِسا مغربيا في الإعلامية، غادروا وطنهم في مطلَـع الألفية، واستطاع جميعهم أن يُـقيم مشروعه الخاص حاليا في المنطقة “الباريسية” أو بريطانيا أو في المغرب، انطلاقا من مقرٍّ مركزي في فرنسا.

بهذا المعنى، تبدو عوْدة الأدْمغة المغتربة حُـلما بعيد المنال، لكن القطيعة ليست قَـدرا محتوما، إذ هناك معابِـر وجسور كثيرة تسمح بالاستفادة جُـزئيا من خِـبرة الطيور المهاجرة.

تونس – رشيد خشانة – swissinfo.ch

كانت بلدان المغرب العربي الثلاثة (الجزائر وتونس والمغرب) ما هو معروف بمستعمرات أو تحت الحماية الفرنسية منذ نهاية القرن التاسع عشر والى منتصف القرن العشرين، مما حدا بفرنسا إلى استقبال حوالي 80% من القوى العاملة لهذه البلدان، خدمة لحروبها ولنمو اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي الوقت الحاضر يستقر بفرنسا وحدها قرابة خمسة ملايين مهاجر مغاربي، بالإضافة إلى الدول الأخرى: بلجيكا، ألمانيا، اسبانيا، هولندا، بريطانيا والدول الإسكندنافية. أما النوع الثاني من الهجرة الدولية، والمعروف بهجرة الكفاءات والخبرات أو ما اصطلح على تسميته بهجرة الأدمغة أو هجرة العقول، فان منطقة المغرب العربي تُـعاني من هجرة العقول واليد العاملة المتخصِّـصة، الشيء الكثير، تكفي الإشارة إلى أن أحد مراكز الأبحاث الفرنسية يستقطب بمفرده أكثر من 1600 إطار مغاربي، من بينهم 700 مغربي و500 جزائري و 450 تونسي.

للتدليل على خطورة الظاهرة التي تتفاقم من عام لآخر، تقول الأرقام أن تكوين إطار مختص يكلف المغرب ما يعادل 160 ألف درهم مغربي، لذلك تحولت معضلة تأهيل الجامعات المغربية لإطارات تستفيد منها الولايات المتحدة وكندا والبلدان الأوروبية إلى مشكلة مزمنة جرّاء تزايد هجرة الخبراء والاختصاصيين المغاربة في مختلف القطاعات وخاصة قطاع الاتصالات. ففي إحدى الحالات، استقطبت شركة أجنبية بمفردها في عام 1999، أكثر من 600 خبير من خيرة الاختصاصيين المغاربة في مجال تكنولوجيا الاتصالات، كما أظهرت دراسة أجريت في نفس العام أن 7،88% من الطلبة الدارسين في الخارج لا يرغبون في العودة بالمرة إلى المغرب لعدة أسباب من بينها: نقص الشفافية في النظام الاجتماعي والاقتصادي، وعدم توفر فرص عمل ملائمة لمستوى التكوين، وضعف الأجور الخ… ويعتبر المغرب من أكثر البلدان النامية تأثرا بهجرة اليد العاملة المتخصصة في مجال تكنولوجيا الاتصالات، بحيث يهاجر للخارج ما بين 50 و70% من خريجي المدارس العليا للمهندسين، وفي نفس الوقت، يحتاج المغرب كباقي البلدان النامية التي تعاني من هجرة الأدمغة، إلى تعويض النقص بكفاءات أجنبية تُدفع أجورها بالعملة الصعبة.

(…) يهاجر حوالي 100000 من أرباب المهن وعلى رأسهم العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء كل عام من ثمانية أقطار عربية هي لبنان، سوريا، العراق، الأردن، مصر، تونس، المغرب والجزائر. آما أن 70% من العلماء الذين يسافرون للدول الغربية للتخصص لا يعودون إلى بلدانهم، منهم حوالي 54% من الطلاب.

منذ عام 1977 ولحد الآن، هاجر أكثر من 750000 عالم عربي للولايات المتحدة الأمريكية.

تجتذب أربع دول غربية غنية هي: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا نحو 75% من العقول العربية المهاجرة.

يشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا نحو 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها. (…)

(المصدر: مركز الدراسات والأبحاث حول حركات الهجرة المغاربية – وجدة / المغرب)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية