مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مسار العدالة الإنتقالية في تونس مثارٌ لتجاذبات حادة

امرأة وأربعة رجال يجلسون على مقاعد القضاة في محكمة تونسية
منذ صيف 2011، انطلقت المحاكم المدنية والعسكرية في تونس في مقاضاة الرئيس السابق بن علي وعدد من أقاربه والعديد من الوزراء والمسؤولين السابقين لكن مسار العدالة الإنتقالية لا زال بطيئا ومتعثرا حتى اليوم. Keystone

تحت عنوان "العدالة الإنتقالية: تونس في مفترق الطرق"، استعرضت ندوة أقامتها مؤسسة "إيروندال" (تعني الخُطاف أو السنونو) السويسرية بالتعاون مع جامعة "فارفيك"رابط خارجي البريطانية في مقر المكتبة الوطنية بالعاصمة التونسية، مسار العدالة الإنتقالية في تونس منذ الثورة التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011 إلى اليوم. 

خلال الندوة التي استمرت على مدى يومي 27 و28 يونيو 2018، انقسم المتحدثون فيها بين فريق ركز على المعوقات التي قال إن “هيئة الحقيقة والكرامةرابط خارجي” جابهتها لإحباط رسالتها، وذكر أن آخرها مشروع قانون المصالحة الذي عُرض على مجلس نواب الشعبرابط خارجي من أجل إنهاء مسار العدالة الإنتقالية. أما الفريق الثاني فانتقد المسار مُعتبرا أنه كان “انتقائيا”، مشيرا إلى الصورة السلبية في مرآة الإعلام للصراعات التي أبصرتها “هيئة الحقيقة والكرامة” بين رئيستها الصحفية السابقة سهام بن سدرين وحقوقيين آخرين فضلوا مغادرة الهيئة أو  فُصلوا منها.

صراعات جديدة

مع ذلك، اعتبر كثير من المتحدثين في الندوة أن مسار العدالة الانتقالية كان مثارا لصراعات حادة جديدة بدل أن يكون إطارا لاحتواء الضغائن ودفن الثأر القديم بين أعداء الأمس. وتوقف الباحث والأكاديمي التونسي العربي شويخة عند التغطية الإعلامية لمسار العدالة الإنتقالية، فكشف عن انزلاقات كثيرة تُخالف قواعد العمل المهني، ومنها التضليل الإعلامي والخلط بين المعلومة والرأي والتركيز على التفاصيل وعلى الأخبار المُثيرة، من دون تسليط الضوء على الضحايا والانتهاكات الجسيمة التي تعرضوا لها.

رجل يتوسط امرأتين خلال ندوة في تونس
يوم 27 يونيو 2018، شارك مهدي بن غربية، (وسط الصورة) الوزير لدى رئيس الحكومة التونسية المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان في افتتاح أشغال المنتدى الذي نظمته مؤسسة “إيروندال” في العاصمة التونسية، وتُرى على يمينه السيدة ساندرا فونتان، مديرة المشاريع في المؤسسة التي تتخذ من مدينة لوزان مقرا لها. pm.gov.tn

في السياق، قالت الاعلامية ألفة بن حسين لـ swissinfo.ch: “إن كثيرا من الكتابات الصحفية عن العدالة الإنتقالية لم تُعط الفرصة لوجهة النظر المقابلة، وهو ما يُعتبر توجيها للرأي العام”. كما أشارت إلى أن تلك الكتابات “لم تستند على تحقيقات ولا على حوارات صحفية عن ظواهر مثل التعذيب والفساد، عدا بعض المحاولات القليلة التي قامت بها بعض المواقع، ومنها “نواةرابط خارجي” و”انكفاضةرابط خارجي“. من جهته، عزا شويخة هذه الظاهرة إلى أن مسار العدالة الإنتقالية في تونس “أبصر النور في سياق استقطاب حاد في عام 2013 بين “الترويكا” الحاكمة حينها بقيادة حركة “النهضة”وخصومها من اليساريين والليبراليين، وظلت تجرّ هذا الإستقطاب خلفها إلى اليوم”.

“أخبار العدالة”

استطاعت وكالة “إيروندال نيوز” التي كانت تتخذ من مدينة أروشا التنزانية مقرا لها أن تغطي أعمال المحكمة الجنائية الدولية حول رواندا منذ 1997 وكذلك أعمال القضاء الجنائي الدولي منذ 2010.

تتبع إيروندال نيوز “مؤسسة إيروندالرابط خارجي” وهي جمعية غير حكومية يُوجد مقرها في مدينة لوزان بسويسرا وتتألف من إعلاميين مهنيين ومختصين في العمل الانساني. وهي تدعم منذ 1995 وسائل إعلام مستقلة في مناطق الحروب والأزمات، أو في بلدان مرت بمثل هذه الآفات.

في 17 يونيو 2015، قرر القائمون على “إيروندال نيوز” بعد عشرين عاما من تغطية القضايا المتعلقة بالعدالة الجنائية الدولية، تسليم المشعل إلى مؤسسة Justiceinfo.netرابط خارجي التب تعني “أخبار العدالة”، وهي منصة إعلامية متعددة الوسائط تُغطي المسائل المتصلة بالعدالة في البلدان التي تعيش أوضاعا انتقالية. وتملك المؤسسة حاليا شبكة مؤلفة من ثلاثين مراسلا عبر العالم.

واستدلَ ثامر مكي المشرف على موقع “نواة” الالكتروني بحالة مالك قناة “الحوار التونسيرابط خارجي” التليفزيونية سامي الفهري، الذي سُجن بعد الثورة بناء على اتهامه بالضلوع مع بلحسن الطرابلسي صهر بن علي، في الإستحواذ على إيرادات التليفزيون العمومي من الاعلانات، بواسطة شركتهما الخاصة “كاكتوس برود” (Cactus Prod). وتم إطلاق الفهري من السجن، فيما لا زالت الشرطة الدولية (إنتربول) تتعقبُ الطرابلسي للقبض عليه، إلى جانب تورُط ستة مسؤولين سابقين في القضية بينهم عبد الوهاب عبد الله وزير إعلام بن علي. 

مع ذلك رأى بعض المتحدثين في الندوة أن تونس استطاعت تفادي مصائر تدميرية مثل التي عرفتها ليبيا المجاورة وسوريا واليمن. غير أن الباحثة مريم الصالحي من جامعة ماربورغرابط خارجي الألمانية قللت من حجم المعارضة للمسار، مؤكدة أن الإعتراضات التي ظهرت في تونس لم تكن ضد العدالة الانتقالية في ذاتها وإنما كان أصحابها يسعون إلى توجيهها في الإتجاه الذي يُناسبهم. 

وكان البرلمان التونسي رفض في شهر مارس 2018 التمديد لـ”هيئة الحقيقة والكرامة” حتى أواخر العام الجاري، في جلسة صاخبة طعن كثيرون في قانونية نتائجها وظهر فيها شرخ كبير بين حزبي “نداء تونس”، الذي أسسه رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي في يونيو 2012، وحليفته في الحكم حركة “النهضة” التي أيدت مُخرجات الهيئة ودعمت رئيستها ضد الحملات التي تعرضت لها.

على الصحفي اليوم أن يُحدّد موقعه في مجتمع مُنقسم على نفسه، لكي يقوم بوظيفته، وهي تبصير الناس بحقوقهم وواجباتهم
ساندرا فونتان، مديرة المشاريع في مؤسسة “إيروندال” 

دعم المسارات الإنتقالية

مع جميع تلك السلبيات التي رافقت المسار، سعت عدة بلدان ديمقراطية لتقديم الدعم المادي والمعنوي لمسار العدالة الإنتقالية التونسي بأشكال مختلفة. وقالت ساندرا فونتان، مديرة المشاريع في مؤسسة “إيروندال” لـ swissinfo.ch: “إن سويسرا تشجع المسارات الإنتقالية في البلدان التي تعرف مثل هذه التحولات، وتدعم بشكل خاص الحق في إعلام مُحايد ومتوازن، عن طريق التشجيع على الحوار بين جميع التونسيين، ذلك الحوار الذي تلعب فيه وسائل الإعلام دورا محوريا”. وأضافت أن دور الاعلاميين في هذا المسار “ليس أقل أهمية من المحامين والقضاة”، مُشيرة إلى أن “هناك إعلاميين صمتوا على الإنتهاكات ولم يكشفوا النقاب عنها في الإبان، ومن هنا جاء ما نُلاحظه أحيانا من تصفية حسابات”، على حد قولها.

فونتان أوضحت أيضا أن”على الصحفي اليوم أن يُحدّد موقعه في مجتمع مُنقسم على نفسه، لكي يقوم بوظيفته، وهي تبصير الناس بحقوقهم وواجباتهم عبر الحصص الاذاعية والكتابات الصحفية والبرامج التليفزيونية التي يُنتجها، وكذلك عن طريق جمع الشهادات حول الإنتهاكات التي تعرض لها الضحايا، مما يُشكل إعادة بناء للذاكرة الجماعية انطلاقا من التجارب الفردية”. ومن شأن هذا العمل، بحسب ساندرا فونتان، أن “يُمهّد لمنح تعويضات لأولئك الضحايا والدفع نحو اندماج مجتمعي ونفوس مُطهَرة من الأحقاد”.

في هذا الصدد، قال بيار هازان، رئيس تحرير موقع “أخبار العدالةرابط خارجي” لـ swissinfo.ch: “إن التقارير والتحاليل التي ينشرها الموقع تتوجه إلى ثلاث فئات من الجمهور المُهتم بالعدالة الإنتقالية: الأولى تتمثل في جمهور بلدان الشمال الذي يُبدي اهتمامه بمتابعة هذه المسائل، والفئة الثانية هي القراء والمتابعون من داخل البلدان المعنيّة، أما الفئة الثالثة فتشمل أصنافا مختلفة من بينها الاعلاميون والمنظمات غير الحكومية والمحامون والسلطات الدينية، وهم يشكلون جسرا لنقل التقارير إلى جمهور أوسع”. وأوضح هازان أن الموقع متعاقد مع عدة وسائل إعلام في دول أفريقية وكذلك مع صحف دولية لمعاودة نشر المواد والتقارير التي ينتجها محرروه.

يُشكل مسار العدالة الانتقالية إحدى الثمار الكبرى للثورات الديمقراطية التي عرفتها عدة بلدان في العالم خلال العقدين الأخيرين. وتتسم هذه المسارات بكونها أتت في أعقاب قطيعة بين عهدين، وهي تُعتبر آلية للاعتراف بالجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت في العهد السابق، ومن ثم إفساح المجال أمام الضحايا للكشف عمَ نالهم من عذاب جسدي أو معنوي ومن امتهان لكرامتهم، انتهاء برد الاعتبار لهم باسم المجتمع بأسره، مثلما حدث ذلك في المغرب وأفريقيا الجنوبية والبلدان الشيوعية السابقة في أوروبا والعديد من دول أمريكا اللاتينية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية