مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مصارف سويسرية متهمة بانتهاك قوانين التعامل مع أرصدة الطغاة المستبدين

كشفت عمليات تجميد ودائع مسؤولين عرب سابقين عقب اندلاع ثورات الربيع العربي إخلال أربعة مصارف سويسرية بالقواعد والقوانين المنظمة لإدارة أموال الشخصيات العامة المعتبرة. Keystone

بعد إجراء تحقيق دقيق، اتهمت السلطة الفدرالية لمراقبة الأسواق المالية (فينما) أربعة مصارف سويسرية بانتهاك القواعد المنظمة للتعامل مع الأموال المُودعة من قبل أشخاص يشتبه في سلامة مصادر أموالهم.

ووعدت سلطة الرقابة على الأسواق المالية باتخاذ الإجراءات اللازمة ضد هذه المصارف التي لم تف بالتزاماتها، ولم تتوقّ الحذر والعناية اللازميْن بالنسبة للأرصدة التي تعود ملكيتها إلى حكام دكتاتوريين.

وتقول سلطة الرقابة إنها أجرت “دراسة معمّقة” حول معاملات “20 مصرفا” بشأن أرصدة شخصيات سياسية معتبرة عقب اتخاذ الحكومة السويسرية قرارات بتجميد أرصدة بحوزة مسؤولين حكوميين سابقين في كل من مصر وليبيا وتونس خلال العام الحالي.

وكشفت وزارة الخارجية السويسرية بداية شهر مايو الماضي أن قرارا اتخذ بتجميد ما مجمله 830 مليون فرنك سويسري، في حين تناقلت وسائل الإعلام أن أرصدة ليبيا التي جمّدت على المستوى العالمي قد تكون وصلت إلى حدود 35 مليار دولار أمريكي.

وقد توصل تحقيق “فينما” إلى أن أربعة مصارف سويسرية تعاملت مع أرصدة تعود ملكيتها إلى 29 شخصية عامة معتبرة مشتبه فيها، لكن لم يتم تحديد هوية هذه الشخصيات بدقة إلا في 22 حالة، وأما في الحالات السبع المتبقية فإما أنه لم يتم التعرّف على أن أولئك الأشخاص سياسيون معتبرون وشخصيات عامة مسؤولة، أو أنه تم التعرّف عليهم، ولكنهم لم يُعاملوا بما يقتضيه ذلك الوضع.

وجاء في بيان فينما أنها “تعتبر بعض محددات الطريقة التي اعتمدتها أربعة بنوك في هذا النوع من الحالات غير مناسبة، وبدأت في إجراء تتبعات لهذه البنوك”. وتراقب السلطة المعنية المصارف التي تم تحديد أوجه قصور في معاملاتها، وتتمسك بتنفيذ تدابير جديدة، وتشديد الإجراءات المتبعة لمكافحة غسيل الأموال.

تحقيق دقيق

وفي إطار التحقيقات التي تجريها، تطالب السلطة الفدرالية لمراقبة الأسواق المالية، بعض البنوك بتسليمها مجموعة كبيرة من الوثائق بما في ذلك تقارير حول بعض الحسابات، ومراسلاتها مع أصحاب تلك الحسابات، والبيانات الكاملة حول المعاملات وحركة تلك الأرصدة ابتداءً من أوّل يوم في عام 2009.

وتوصّل التحقيق إلى وضع الإصبع على ثلاث مشكلات رئيسية على مستوى العمليات المعتمدة من طرف هذه المصارف في تحديد هوية عملائها من الشخصيات السياسية المعتبرة.   

في أحد هذه المصارف، تبيّن أن التعريف الداخلي المعتمد بشأن “الشخصية السياسية المعتبرة” كان ضيّقا ومختزلا جدا، في حين اكتفت ثلاثة مصارف أخرى بإجراء الحد الأدنى من البحث والتحقيق بشأن عملائها الجدد، في الوقت الذي كان فيه من الأولى إجراء المزيد من التثبت، خاصة وأن إمكانية القيام بذلك متوفرة، ومن ذلك شبكة الإنترنت. 

كما يتوقّف التقرير عند حالتيْن توجد مؤشرات جدية على وجود “تعمّد في عدم اعتبار بعض المعاملات بوصفها حالات خاصة بشخصيات سياسية معتبرة، أو معاملات شديدة الخطورة وتدعو للحذر، هذا على الرغم من معرفة تلك المصارف مُسبقا بالهوية الحقيقية لأولئك العملاء”.

   

وتقول سلطة المراقبة إنها لا تزال تجري تحقيقاتها بشأن هاتين الحالتيْن وذلك في مسعى منها لتعزيز الإجراءات الواجب اتباعها في مثل هذه الأوضاع. أما في حالات ثلاثة أخرى، فتبيّن أن تلك المصارف لم توثّق بما فيه الكفاية القرارات السنوية التي اتخذتها بشأن الحفاظ على معاملاتها مع الشخصيات السياسية المعتبرة. 

وخلصت السلطة الفدرالية لمراقبة الأسواق المالية إلى أن تلك المصارف تعلم جيّدا ما هو مطلوب منها بمقتضى القانون السويسري لمكافحة غسيل الأموال، وفي أغلب الأحيان تنفّذ هذا القانون بطريقة مرضية، وبالتالي فهي لا ترى حاجة لإدخال تعديلات على هذا القانون.

استنتاج “غير مفهوم”

من جهته، يرى مارك بيث أستاذ القانون الجنائي في جامعة بازل، ورئيس فريق العمل المعني بمحاربة الرشوة لدى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، والمسؤول بمعهد الإدارة في بازل أنه قد “لا يكون هناك أي مبرر” بالنسبة للبنوك التي تعمّدت التستّر على معاملاتها مع شخصيات سياسية معتبرة توجد شكوك حول مصدر أرصدتها.

  

وقال بيث في حديث إلى swissinfo.ch : “يتوقف تقرير (فينما) عند حالتيْن كانت المصارف فيهما على وعي بما كانت تفعله، وأنها ساعدت في التستّر على أرصدة معينة. وإذا كان هذا هو الحال، فإن هذا يعني انها ترتكب جريمة غسل الأموال، وسيكون عليها مواجهة تهم جنائية”.

وقال بيث إن التقرير يورد “معطيات متعددة الأوجه”. فمن جهة لم تعثر (فينما) إلا على أربعة مصارف ارتكبت انتهاكات واضحة لقواعد مكافحة غسيل الاموال، ومن ناحية أخرى، و”هذا مزعج جدا” تمكّن قادة مثل معمّر القذافي طيلة سنوات من إرسال أموال وإيداعها في جميع انحاء العالم.

وانطلاقا من الإستنتاجات السابقة، يؤكد بيث على ان المطلوب الآن “ليس مراجعة أو تعديل قانون غسيل الأموال، بل اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان تطبيقه والإلتزام به”. ثم يضيف هذا الخبير: “أعتقد أنه غريب نوعا ما أن تبدأ السلطة الفدرالية للرقابة تحقيقاتها الآن فقط. كان عليها أن تقوم بتحقيقات إستباقية، لا أن تكتفي بانتظار تفجّر الفضائح لكي تتحرّك وتبادر”.

ردود فعل متباينة

في سياق متصل، انتقد تحالف سويسري لمنظمات غير حكومية التقرير فور صدوره، معربا عن خيبة أمله مما ورد فيه، نظرا لأن سلطة المراقبة لم تكشف عن أي نوع من العلاقات مع الشخصيات السياسية المعتبرة التي انصب عليها تحقيقها، ولم تنشر أسماء المصارف التي تبيّن أنها انتهكت القواعد القانونية المتبعة في المجال. واستغرب تحالف المنظمات غير الحكومية الخلاصة التي توصّل إليها التقرير والمتمثلة في القول بأنه ليس هناك حاجة لتعديل قواعد مكافحة غسيل الأموال، ورأت أنه موقف “غير مفهوم”.

وجاء في بيان التحالف أيضا: “يسهب التقرير في ذكر أصول الأشخاص الذين اتخذت الحكومة الفدرالية قرارا بتجميد أصولهم فقط”، لكن المنظمات تقول إنها سوف تنتظر إذا ما كانت سلطة الرقابة ستقوم بنفس التحقيق بشان الشركات العاملة في الخارج، وإذا ما كانت تمتلك أصولا متستّرا عليها في حسابات لدى هذه المصارف”.

في المقابل، رأت جمعية المصارف السويسرية في بيان مدّت به swissinfo.ch أن تقرير “فينما” يثبت أن القواعد المتبعة في تعامل المصارف مع الشخصيات السياسية المعتبرة قد تم احترامها على نطاق واسع.

وأضافت جمعية المصارف: “نريد أن نلفت النظر إلى أن فينما اعتبرت الأحكام والقواعد النافذة بشأن التعامل مع الشخصيات السياسية المعتبرة كافية ولا تحتاج إلى تعديل. أما بالنسبة للحالات القليلة التي تم فيها انتهاك تلك القواعد، فإن المصارف المعنية سوف تتعاون بشكل وثيق مع السلطة الفدرالية للرقابة لتعزيز إجراءاتها المتبعة بهذا الشأن”.

منذ فترة طويلة، تواجه سويسرا ظاهرة الشخصيات السياسة المعتبرة، وما يثيره ذلك من جدل ونقاش.
 
ومثلما يقول جيمس ناسون: “تتحوّل هذه الظاهرة في بعض الأحيان إلى مشكلة حادة، ويكفي هنا تذكّر الدكتاتور النيجيري الراحل ساني أباشا، الذي استحوذ على ودائع البنك المركزي النيجيري، وخبأها في العديد من المصارف المنتشرة في العالم أجمع، وفي حسابات مصرفية لا تحمل إسمه الحقيقي.
 
ويضيف الناطق الرسمي باسم جمعية المصارف السويسرية: “لا يوجد دكتاتور واحد، يسرق الأموال العامة، ثم يفتح حسابات مصرفية في الخارج بإسمه الحقيقي. هؤلاء في العادة يستخدمون هويات وأسماء أقربائهم، ومحاميهم، أو وسطاء آخرين، وقد يلجأون إلى حد إستعمال أسماء حراسهم الشخصيين او خليلاتهم”.

“هناك تحد كبير يواجه المصارف التي عليها ان تميط اللثام عن هوياتهم الحقيقية”.
 
ليس من العيب في حد ذاته أن يكون إسم شخص ما على قائمة مشاهير الشخصيات…، لكن المشكلة تحدث عندما تبدأ هذه الشخصية في سرقة الأموال العامة، أو تتورط في ظواهر الفساد. “لو حدث أن بلدا ما فتح تحقيقا قضائيا ضد أي واحد من هذه الشخصيات العامة، يمكن لذلك البلد أن يطلب المساعدة القضائية من سويسرا، وبالإمكان أن تقوم هذه الأخيرة بتجميد الأرصدة التي هي موضع جدل. لكن أي طلب من هذا النوع لابد أن يكون مبررا ومدعوما بحجج. ولابد لهذا البلد ان يدلل لماذا يجب تجميد أرصدة هذا الشخص”.
 
وتعتمد البنوك على قواعد بيانات دقيقة جدا و”مفصّلة إلى حد بعيد“، توفّرها لها مؤسسات متخصصة.

“هذه المصارف لا تحتفظ ببيانات رؤساء الدول فقط، وزوجاتهم، وأطفالهم، ووزرائهم، ولكن أيضا موظفين سامين، وبمعنى آخر، عندما يتوجه شخص أجنبي إلى أحد المصارف السويسرية، يمكن للموظفين في هذه المصارف أن يضيفوا إسمه إلى إحدى قواعد البيانات تلك، والتأكد لاحقا ما إذا كان هذا الشخص يتولى وظيفة عامة سامية وهامة في بلده”، على حد قول الناطق الرسمي باسم جمعية المصارف السويسرية.

(نقله من الإنجليزية وعالجه عبد الحفيظ العبدلي)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية