مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“سويسرا.. من أكبر البلدان الصغيرة الزاخرة بالكنوز”

swissinfo.ch

أصبح الصحفي السينغالي الحاجي غورغي وادي ندوي مراسلا في جنيف، بحكم الصدفة، لكن قضاءه لأكثر من 13 عاما في قصر الأممالمتحدة، حوّله إلى الصوت المعبّر عن مشاغل واهتمامات القارة السمراء في أوساط المنظمات الدولية.في المقابل، سمحت له خلفيته الثقافية وتكوينه الأكاديمي والسياسي والديني، بتشكيل نظرة منتقدة، لكنها موضوعية للمجتمع السويسري الذي احتضنه، ولنظام الأمم المتحدة الذي أصبح وسطه المهني.

الحاجي غورغي وادي ندوي، هذا الشخص المرح، ذي القامة الرفيعة والملامح الإفريقية المتميزة، لا يمكن أن يمرّ في مكان ما دون أن يثير الإنتباه، إما بحيوية حركاته أو بالإبتسامة التي لا تفارق مُحيّاه أو بلباسه الإفريقي المميّز، الذي لا يتردد في ارتدائه أحيانا داخل قصر الأمم المتحدة في جنيف.

عموما، يُعرف غورغي في المدينة المطلة على بحيرة ليمان، وفي أوساط جنيف الدولية بالخصوص، بأنه من الصحفيين الأفارقة القلائل فيها وأنه أول مراسل دائم من السينغال يستقر في قصر الأمم المتحدة لتغطية الأحداث الدولية لفائدة عدد من وسائل الإعلام السينغالية والإفريقية، قبل أن يؤسس موقعه الإعلامي “القارة الأولى” (Continent Premier)، الذي يتحدث عن إفريقيا ولإفريقيا، انطلاقا من سويسرا.

ومن خلال توليه القيام هذه المهمة الإعلامية، وجد نفسه في قلب البوتقة التي تُطبخ فيها السياسة الدولية في جنيف، ولاحظ في بعض الأحيان، شِبه غياب للإهتمام بمشاكل وأولويات القارة السمراء، وهو ما حوّله إلى صوت ما فتئ يذكّـر بعدم نسيان تطلعات بني قارته في هذه المحافل.

تحقيق حلم الصبا   

هذا الشاب الذي تردد بين دراسة القانون أو الصحافة، التي استهوته منذ المعهد الثانوي، وزاولها بشكل متقطع وهو طالب جامعي، اختار في نهاية المطاف شعبة التاريخ المعاصر لكي يُعدّ أطروحة حول “حرب التحرير الجزائرية ومساهمة الدول الإفريقية فيها”، تمكّن من إنجازها بعد عمل دؤوب في جامعتي جنيف وباريس.

ومع أن هذا البحث سمح له بـ “التحول إلى خبير في قضايا المغرب والمشرق العربيين وباكتشاف مزيد من تفاصيل التاريخ الإفريقي والسينغالي”، إلا أنه سرعان ما عاد إلى عشقه الأول، أي الصحافة، بفضل صدفة كانت السبب أيضا في استقراره في جنيف.

المناسبة كانت عام 2000، حينما اقترنت استعدادات مدينة جنيف للإحتفال بالمرور إلى قرن جديد باستضافة الفنان السينغالي ذي الشهرة العالمية يوسو ندور  Youssou N’dourلتنشيط حفل كبير بالمناسبة.

هنا يتذكر غورغي  أن “المقال الذي كتبتُه لحساب أول جريدة خاصة في السينغال” سود كوتيديان Sud Quotidien  “نال إعجاب الجمهور كحدث تم في جنيف، وبحضور شخصية فنية سينغالية ذات شهرة عالمية، وهذا ما دفع رئيس التحرير ليطلب مني الإستمرار كمراسل للصحيفة في جنيف. وما كان مجرد عرض مؤقت، ترسّخ أكثر بتغطية القمة الاجتماعية، التي انعقدت في المقر الأوروبي للأمم المتحدة عام 2000 بحضور الأمين العام السابق كوفي عنان وعدد من كبار الشخصيات..”.

عمل المراسل، الذي بدأ بحكم الصدفة وبشكل مؤقت، استمر لأكثر من 13 سنة في هذه المدينة ذات الإشعاع الدولي، بعد أن تحول إلى مراسل دائم لإحدى أكبر الصحف في السينغال “لوسولاي دي سينيغالLe Soleil du Sénégal”، ثم صحيفة “الفجر”ُ Wal Fadjri  ، وصولا إلى إطلاق وسيلته الخاصة على الإنترنت في عام 2004.

ما سهّل عليه هذه المهمة، الأجواء التي وفّرتها له جنيف الدولية وسويسرا عموما من لقاءات دولية كبرى حول العراق وحول صراع الشرق الأوسط وملتقى دافوس الإقتصادي العالمي، حيث تمكن من “معايشة أحداث العالم بشكل مباشر، وليس الإكتفاء ببعض برقيات وكالات الأنباء، والإلتقاء في هذا البلد بقادة العالم ومسؤوليه بكل بساطة، وبعيدا عن التعقيدات التي نعرفها في معاملاتنا مع المسؤولين في بلداننا الإفريقية”، مثلما يقول.

إفريقي حتى النخاع

الحاجي غورغي وادي ندوي، المنحدر من عائلة مسلمة تُوصف بأنها من الأشراف، ترعرع في وسط “سمح لي – رغم تشبّثه بالجانب الديني – برؤية الأشياء بمنطق غير منطق القضاء والقدر، بل منطق المثقف المتفتح، وهو ما ينص عليه القرآن نفسه”.

في المقابل، دفعه تواجده وسط هذا التنوع الهائل لممثلي دول الكرة الأرضية إلى تفتح نظرته على العالم وعلى مشاكله، ولكن دون نسيان مطالب واهتمامات القارة الإفريقية، بل أصبح أنشط من يتحدث عن اهتمامات القارة السمراء في الأوساط الإعلامية في جنيف وسويسرا، ويقول: “أكثر من 60% من نشاطات الأمم المتحدة، موجهة نحو بلدان القارة الإفريقية. لكن الخطاب المعتمد لدى الحديث عنها، فهو إما للتطرق إلى تفشي الأمراض أو الحاجة إلى المساعدة أو الإغاثة، وهذا ليس بالخطاب الذي من شأنه أن يساعد أهلها على الخروج من تخلفهم ومشاكلهم. يُضاف إلى ذلك أن ما تنقله وكالات الأنباء انطلاقا من جنيف، هو مُوجّه لجمهورها الغربي بالدرجة الأولى، لذلك لا يمكن معاتبتها على إغفال اهتمامات القارة. ومن هنا، فإن تواجدنا كأفارقة قد يسدّ من هذا النقص ويُسهم في إضفاء مزيد من الإهتمام بقضايانا الإفريقية”.

في إحدى النقاشات التي أقيمت على هامش معرض الكتاب بجنيف، حول عدم اهتمام وسائل الإعلام السويسرية بالقضايا الافريقية بالشكل المطلوب، استفزّه أحد الإعلاميين السويسريين بالقول: “إننا نشتغل لجمهورنا السويسري، وما عليكم إلا إنشاء وسائلكم التي تهتم بتطلّعات جمهوركم الإفريقي”.. من هذا الإستفزاز، تولدت فكرة تأسيس وسيلة إعلامية تتحدث عن القارة الافريقية وموجهة للأفارقة انطلاقا من جنيف، وبمشاركة طلبة وأساتذة أفارقه وصحفيين سويسريين، وتُذكّر الجميع بأن “إفريقيا هي مهد الإنسانية”. وعلى إثر ذلك انطلقت جريدة “كونتينون بروميي”  Continent premier الألكترونية في عام 2004، التي يديرها ويشغل منصب رئيس تحريرها، غورغي بنفسه.

واليوم، يبدو غورغي مقتنعا بأن “الخطأ الكبير يكمُن في عدم تواجد عدد كاف من الصحفيين الأفارقة في جنيف ونيويورك وبروكسل، لأن تحسين الصورة المعطاة عن إفريقيا، لا يمكن أن يتم بدون مشاركة الأفارقة أنفسهم”.

بلد حقوق الإنسان… والأموال المهربة!

لا تختلف الفكرة المُسبقة التي قدم بها الحاجي غورغي وادي ندوي إلى الكنفدرالية، عما كان سائدا لدى عموم الأفارقة عنها في تسعينات القرن الماضي (ولا زالت لدى بعضهم). فسويسرا هي “البلد المبالغ في النظافة وفي الغنى وفي استقامة مواطنيه، والبلد الذي يمكن فيه مزاولة الدراسة في العلاقات الدولية وإمكانية التدرج في مناصب الأمم المتحدة، وبلد حقوق الإنسان… ولكنني اكتشفت في وقت متأخر أيضا، أنه بلد يحتضن الأموال المهرّبة من قبل قادة البلدان الإفريقية”. ومع إقراره بأن سويسرا كانت دوما “متعاطفة” مع القارة السمراء، وأنها كانت تقدّم في علاقاتها مع بلدان القارة “جانب المساعدات الإنسانية”، إلا أنه ينتقدها “لمواصلة النظر للعلاقات من هذه الزاوية، في الوقت الذي يُراهن فيه الصينيون مثلا على العلاقات الإقتصادية” معها.

الصحفي الافريقي يخشى أيضا من أن “يؤدي ظهور التيارات اليمينية المتطرفة إلى تشويه تلك الصورة المثالية العالقة في أذهان الأفارقة عن سويسرا، وبالخصوص استغلال بعض التيارات السياسية وبعض وسائل الإعلام لحوادث يتورط فيها أفارقة يتاجرون في المخدرات أو طالبو لجوء أفارقة، من أجل تعميم الخطر وتضخيم الخوف”.

تعرُّضُ الحاجي غورغي لبعض المضايقات المباشرة أو غير المباشرة كإفريقي، جعله يتجنّد أكثر لمحاربة ظاهرة التمييز بسبب لون البشرة، وفي مقال نشره في جريدة “لاتريبون دو جنيف” كشف أنه “بفضل تعاطف الصحفيين السويسريين وردود فعل من قبل بعض البرلمانيين السويسريين، الذين سبق لهم التعامل معي كصحفي، وبحكم ذكاء المسؤولين في هذا البلد، تمخضَت مساهمة بيداغوجية مهمة، تمثلت في دعوتي للمشاركة في تكوين شرطة كانتون جنيف في مجال التعامل مع المواطنين الأفارقة، وكذلك في ميدان تكوين الصحفيين السويسريين في سويسرا الناطقة بالفرنسية وكيفية تعاطيهم مع الواقع الإفريقي المُعقّد”.

من أحدث مقترحات غورغي “دعوة” وجّهها إلى “المجتمع السويسري بمختلف مكوناته إلى نقاش عام حول ظاهرة استهلاك المخدرات في البلاد”، وفي انتظار تحديد موعد لإجرائه، يعتقد الرجل أن “تنظيم نقاش من هذا القبيل قد يُبدّد الكثير من الأفكار الخاطئة ويُسكت العديد من الأصوات المتهمة للآخر، بدون فتح حوار معه”.

انحراف عن المبادئ… يجب تصحيحه

مزاولته لعمله في قصر الأمم المتحدة، بكل ما يكتنزه هذا المبنى من إرث تاريخي منذ إنشاء عُصبة الأمم في عشرينات القرن الماضي، سمح له بمعاينة الإنزلاق الذي شهدته مسيرة حقوق الإنسان منذ تأسيس “اللجنة” وصولا إلى “المجلس” الحالي، متسائلا كيف أنه “لم يعد يحرك ساكنا لاغتصابات تتم في الكونغو، ولا ينبس ببنت شفة عندما تحصل انقلابات هنا أو هناك. وكيف يمكن السكوت عن العنصرية أو الإرهاب في بلدان معينة؟”.

غورغي توصل إلى خلاصة مفادها أن الحصيلة “مريرة”، بل يرى أن “كل العمل الجيد الذي تم في مجال حقوق الإنسان حتى منتصف العشرية الماضية، أي بعد حرب العراق، ينزلق اليوم بعيدا عن كونية حقوق الإنسان ويسير في اتجاه مراعاة مصالح جيو – استراتيجية، يصعب على أي فهم إنساني تقبُّلها”.

هذا لا يعني أن غورغي فقد أيّ أمل في هذا النظام وفي إصلاحه، ويستشهد على ذلك بقول “صديقه” عالم الإجتماع السويسري جون زيغلر الذي يُردّد أن “منظمة الأمم المتحدة، هي الدرع الواقي الأخير قبل الفوضى الشاملة”. مع ذلك، يبرّر الصحافي السينغالي انتقاده اللاذع للمنظمة الأممية ولعملها في كل اللقاءات الصحفية، بـ “الحرص على التمسك بمبادئ الأمم المتحدة”، إذ أن “استمراريتها أمر ضروري بالنسبة للإنسانية، ولكن فقط إذا ما استمرت في التمسك بالمبادئ التي وُجدت من أجلها”، مثلما يقول.

وماذا عن سويسرا التي مكّنته من “تفتّح نظرته على العالم” وساعدته على أن “يُصبح أكثر تسامحا”؟ يرى غورغي أنها ذلك البلد الذي يوصف عادة بالصغير، إلا أنه في الحقيقة “من أكبر البلدان الصغيرة الزاخرة بالكنوز، وفي مقدمتها الذكاء… والبلد المرتكز على متانة المؤسسات، وحيث الحوار مُمكن بين مختلف المكونات، الأمر الذي يجعل منه مثالا يُقتدى به في مختلف أنحاء العالم”. أما هذه الإنجازات، فيتعيّن على السويسريين، “الإفتخار بإظهارها بدون خجل أمام العالم، بدل البقاء دوما في موقف دفاعي”، مثلما يقول.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية