مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

معهد جديد في جنيف لتأطير النشاطات الثقافية العربية والمتوسطية

بعد مرور 35 عاما على تأسيسه للمكتبة العربية "الزيتونة"، يعتزم آلان بيطار الإستمرار في خدمة الثقافات العربية والمتوسطية في جنيف وسويسرا من خلال المعهد الجديد. swissinfo.ch

تستعد جنيف لاحتضان "معهد الثقافات العربية والمتوسطية" بمبادرة من آلان بيطار، مؤسس المكتبة العربية "الزيتونة". ومن المتوقع أن يُسهم المعهد في تأطير وتنويع النشاطات الثقافية التي دأبت المكتبة العربية على تنظيمها منذ أعوام. ويأمل القائمون على المعهد - الذي حصل بعدُ على دعم أطراف سويسرية - في تحرك الجهات الرسمية العربية للإسهام في تعزيز تواجد الثقافة العربية في مدينة جنيف.

بعد نحو أربعة عقود من العمل والإجتهاد لإبقاء شعلة الثقافة العربية حاضرة في مدينة كالفان (مُصلح ديني ولاهوتي فرنسي عاش في القرن السادس عشر في جنيف)، يشرع اليوم السيد آلان بيطار، مؤسس المكتبة العربية في إنجاز مشروع “معهد الثقافات العربية والمتوسطية” في جنيف لمواصلة المسيرة.

المسيرة انطلقت قبل أكثر من 35 عاما، خصّصها الرجل لخدمة الثقافة العربية من خلال “الزيتونة”، التي ظلت لفترة طويلة المكتبة العربية الوحيدة في المدينة الواقعة أقصى غرب سويسرا، ومرت بمراحل مختلفة للتأقلم مع شتى التطورات التكنولوجية التي وإن أثرت سلبا من الناحية التجارية، فإنها لم تُنقص من أهميتها سواء بالنسبة للمغترب العربي الذي لا زال يجد فيها ما يربطه بوطنه الأم ولغته وثقافته الأصلية، أو بالنسبة للمواطن السويسري الذي كثيرا ما يلتجئ إليها بحثا عن معلومة أو جواب أو كتاب يُساعده على معرفة المزيد عن هذا العالم العربي البعيد والقريب في نفس الوقت.

تأطير رسمي لنشاطات قائمة

في سياق تأقلم “الزيتونة” مع التطورات التي شهدها ميدان النشر، وعلى إثر ظهور الفضائيات العربية في التسعينات وتراجع الإقبال على اقتناء الأفلام، وبعد تفشي ظاهرة تحميل الموسيقى بدل شراء الأسطوانات، تحولت القاعة السفلية للمكتبة العربية شيئا فشيئا إلى رواق فني احتضن عروض العديد من الفنانين التشكيليين العرب وغير العرب، كما نظمت فيها عشرات المُحاضرات والندوات بمناسبة صدور كتاب جديد، أو لفتح المجال لخبراء وشخصيات عربية وسويسرية ومن شتى الجنسيات لتحليل وشرح تطورات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تشهدها المنطقة العربية.

هذه النشاطات شملت، كما يستذكر آلان بيطار، “توجيه الدعوة  للشيخ إمام، ومرسيل خليفة، واستضافة نزار قباني بمناسبة معرض الكتاب لعام 1986، ومن بعده كلا من أدونيس، وسعاد الصباح، وإلياس خوري. كما تم بمشاركة مع مدينة جنيف تنظيم ملتقى دولي حول ” جنيف ومنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط” حضر فيها 15 كاتبا من المنطقة  المتوسطية نذكر منهم واسيني الأعرج، ومحمد برادة، وحسن داوود. كما سهرنا، بالإشتراك مع متحف عادات الشعوب بجنيف على تنظيم  ملتقى عن (ملكة سبأ في الأديان السماوية)”.

في بعض الأحيان، تجاوزت أصداء بعض النشاطات الثقافية التي سهرت مكتبة الزيتونة على تنظيمها مدينة جنيف وحدود سويسرا أو الجالية العربية المقيمة، ووصلت إلى كامل العالم العربي. وفي هذا الإطار يمكن ذكر الطبعة العربية لصحيفة “لوموند الدبلوماسي” التي كانت تصدر في جنيف قبل أن ترتحل إلى تونس. 

من مواليد عام 1953، وصل إلى جنيف في عام 1960 ولم يتجاوز السادسة من العمر، وينحدر من عائلة لها أجداد سوريين ولبنانيين هاجرت إلى مصر في عام 1890 فرارا من الإضطرابات الدينية في بلاد الشام.

من مصر، هاجر أجداده إلى السودان برفقة الجيش الإنجليزي – المصري، حيث استقروا هناك.

إقامة آلان بيطار بسويسرا كانت بسبب رغبة والده في منحه تعليما أحسن، بعيدا عن التقلبات التي تعرفها المنطقة العربية، حيث أودعه في مدرسة داخلية في “شاطو دي” بالقرب من مدينة مونترو ولم يتجاوز عمره السادسة.

عندما بلغ الثانية عشرة من العمر، التحقت به بقية العائلة في جنيف، حيث تابع دراسته الثانوية في معهد “فلوريمون” الكاثوليكي.

أدى به انخراطه في النشاط السياسي منذ المراهقة إلى المشاركة في مظاهرة ضد تعيين المطران “مامي”، رئيسا للكنيسة الكاثوليكية في جنيف، ما دفع إدارة المعهد الديني إلى فصله عن الدراسة.

هذا الفصل من الدراسة كان السبب في الحيلولة دون حصوله على الجنسية السويسرية للمرة الأولى، ومنعه بالتالي من الإلتحاق باللجنة الدولية للصليب الأحمر التي كان يعتزم العمل فيها.

في عام 1975، التحق بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا بضواحي بيروت، وتردد عدة مرات على المنطقة العربية قبل أن يعود إلى جنيف لمزاولة الدراسة من جديد في معهد جنيف للدراسات الدولية.

مهّد نشاطه في بيع بعض المنتجات الفنية التقليدية الفلسطينية لتأسيس “مكتبة الزيتونة” في عام 1979 كأهم مكتبة عربية في جنيف، تحولت بعد فترة وجيزة إلى مركز إشعاع للثقافة العربية في المدينة، بل فاق صيته حدود جنيف ليصبح مزارا لا بد منه لكل ضيف عربي يحل على جنيف يبحث عن كل الكتب المحظورة في العالم العربي، وهذا لمدة 30 سنة.

تعزز نشاط مكتبة الزيتونة بتجربة إصدار النسخة العربية من جريدة “لوموند ديبلوماتيك” التي استمرت لحوالي عشرة أعوام قبل أن تتوقف بسبب الرقابة والحظر في البلدان العربية.

يُمكن القول أن أهم التزام سياسي انخرط فيه آلان بيطار تمثل في الإسهام في تأسيس حركة “المانيفيست” أو “الإعلان”، وهي حركة جمعت سويسريين وعربا ويهودا بهدف بلورة تصور لكيفية الدخول في حوار بناء حول مشكلة الشرق الأوسط.

رغم رفض السلطات منحه الجنسية السويسرية في ثلاث مناسبات، كرمته مدينة جنيف في عام 2006 بمنحه “ميدالية جنيف التي تعترف بالجميل”، عرفانا للخدمات التي قدمها بوصفه همزة وصل بين العالم العربي وجنيف.

في يناير 2014، أقدم صحبة عدد من الشخصيات السياسية والثقافية وعدد من الأصدقاء على تأسيس “معهد الثقافات العربية والمتوسطية في جنيف”.

 من “معهد افتراضي” إلى “معهد واقعي”

فكرة تأسيس معهد ثقافي ظهرت للمرة الأولى في سياق تنظيم نشاطات عربية ضمن فعاليات المعرض الوطني السويسري في عام 2001، لكنه كان بمثابة معهد “افتراضي”، حيث أضيفت إلى نشاطات المكتبة العربية الزيتونة نشاطات أخرى شملت “مُدرِّسة لغة عربية، وناشر باللغة العربية، وصاحب وكالة أسفار عربي، ومُدرسة رقص عربي، وعازف موسيقى عربي”، كما يقول آلان بيطار.

في الأثناء، يمكن القول أن ما أوضح الصورة الحقيقية لمجموع النشاطات الثقافية ذات العلاقة بالعالم العربي في جنيف شروع المكتبة العربية في إصدار “الأجندة الثقافية” بشكل دوري، حيث يشير آلان بيطار إلى أن “أهمية الأجندة الثقافية تكمُن في أنها استطاعت في عام 2011 جمع أكثر من 280 نشاط ثقافي في جنيف له علاقة بشكل من الأشكال بالعالم العربي”.

ومع أن هذه الأنشطة أطرتها منظمات وجمعيات مختلفة تعمل كل منها على انفراد بعيدا عن البقية، يرى آلان بيطار أن “جمع تلك النشاطات، والتعريف بها، قد يُمهّد الطريق أمام تبادل وتعاون أكثر بين مختلف كل هذه المنظمات والجمعيات.. ولِم لا، تحقيق حلم ظل يراودني وهو خلق مجال يسمح بعكس صورة العالم العربي الذي نطمح إليه، أي عالم عربي منفتح، يسمح بتبادل الأفكار بدون إقصاء أو تهميش لا إيديولوجي أو ديني. أي ما يُشبه معهد العالم العربي الذي تحتضنه العاصمة الفرنسية باريس”، مثلما يقول.

إطار رسمي “تمليه الظروف”

في سياق متصل، يبدو أن اللجوء الى إيجاد إطار رسمي يعمل على الترويج للنشاطات الثقافية في جنيف وتنظيمها تحت لافتة “معهد الثقافات العربية والمتوسطية” أمر أملته الظروف المترتبة عن تراجع النشاطات التجارية للمكتبة العربية بشكلها التقليدي، وعدم القدرة على تحمل نفقات تلك النشاطات الجانبية التي كانت مُمكنة في السابق.

في هذا الصدد، يعترف آلان بيطار بأن “قسم الموسيقى بالمكتبة الذي كان يحتوي على أكثر من 4500 عنوان في فترة من الفترات لم يعد يُسوّق أكثر من أربع أسطوانات في الشهر بسبب اللجوء إلى التحميل عبر الإنترنت. ونفس الشيء يمكن قوله عن الكتاب ولو أنه لا يمكن أن نقول بأن الناس لم يعودوا يقرأون كثيرا بل يقرأون بشكل مُغاير عن ذي قبل”.      

وبمساعدة بعض الأصدقاء وبعض الشخصيات المحلية، استطاع آلان بيطار أن يؤسس “معهد الثقافات العربية والمتوسطية في جنيف” الذي سيتولى الإشراف على إدارته، فيما يتقلد يتولى باتريس مونيي، وزير الثقافة الأسبق في جنيف رئاسته. ومن المقرر أن يتم افتتاح المعهد رسميا يوم 14 يناير 2014 بحضور شخصيات من جنيف وبرن، إضافة الى رجال الثقافة والفن وممثلي الجمعيات الثقافية ومحبي الثقافات العربية والمتوسطية.

الساهرون على تأسيس هذا المعهد يطمحون إلى الإرتقاء بهذه النشاطات ومزيد تطويرها في المستقبل “إذا ما توفر تمويل ملائم وعلى المدى الطويل”، كما يقول آلان بيطار. ومن بين هذه الطموحات “الشروع ابتداء من دورة العام 2014 لمعرض الكتاب الدولي في جنيف في تنظيم جناح دائم خاص بالكتاب العربي، على غرار جناح الكتاب الإفريقي”، الذي انطلق قبل عشرة أعوام.

من جهة أخرى، يرى بيطار في تنظيم متحف “لاريانا” هذا العام معرضا خاصا بآثار الخزف في العالم الإسلامي فرصة قد تتيح للمعهد الجديد إمكانية الإسهام في تنظيم يوم احتفالي في حديقة المتحف تمتزج فيها العروض الموسيقية والفنية مع أجنحة للأكلات الشعبية من عدة أنحاء من العالم الإسلامي. أما على مستوى تطوير النشاطات القائمة، يتجه التفكير إلى “تنظيم  مقهى ثقافي يسمح بتبادل المعرفة اللغوية بين من يرغب في تعلم اللغتين العربية والفرنسية”.

ومع أن العروض والندوات والسهرات الفنية مُوجّهة بالدرجة الأولى للقاطنين في مدينة جنيف وضواحيها، إلا أن آلان بيطار لا يستبعد إمكانية تنظيم المعهد الجديد لنشاطات في مدن سويسرية أخرى بهدف “نقل التجربة التي مرت بها المكتبة العربية كعامل اندماج وتعايش وتبادل ثقافي”، بل لا يُخفي رغبته في أن يُصبح المعهد يوما ما “جسرا يسمح بتعزيز العلاقات بين المؤسسات البحثية السويسرية ومنطقة المتوسط”.

التزام سويسري في انتظار المساهمة العربية

بما أن “المال قوام الأعمال”، فإن حجم هذه النشاطات التي سيرعاها معهد الثقافات العربية والمتوسطية في جنيف، يبقى متوقفا على حجم الدعم الذي سيتحصل عليه. وفي هذا السياق، يقول آلان بيطار: “تعهدت سلطات مدينة وكانتون جنيف بتقديم دعم للمعهد إضافة إلى تعهدات من مؤسسات أخرى خاصة”.

ولدى سؤاله عن الدعم الذي قدمته (أو قد تقدمه) الجهات الرسمية وغير الرسمية العربية لمشروع من هذا القبيل، أكد آلان بيطار أنه “من الطبيعي أن يتحصل هذا المعهد، الذي سيكون بمثابة أداة للترويج للثقافة العربية والمتوسطية بمختلف تشعباتها في جنيف وسويسرا، على دعم المؤسسات الرسمية وغير الرسمية العربية”، وأضاف أنه “بالنسبة للجمهور العربي، علينا نحن أن نشجعه على الإهتمام بما نقوم به من نشاطات مثلما فعلنا بتأسيس جمعية تدريس اللغة العربية لأبناء الجالية العربية الذين يُزاولون دراستهم بالمدارس العمومية في جنيف، وهو ما يتم منذ العام الماضي في مقر المكتبة بدعم من إدارة التعليم بالكانتون”.

وعما ينتظره من الجهات الرسمية العربية المتواجدة في جنيف او برن أي البعثات والسفارات العربية وملحقيها الثقافيين، أجاب آلان بيطار بعد أخذ نفس عميق “نحن متواجدون منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما ولم نر ولو مرة واحدة مُلحقا ثقافيا  يهتم بنشاطاتنا، هذا هو الواقع، ولكن قد يتيح لنا تأسيس المعهد بشكل رسمي إمكانية الحلم أو تكوين الأمل في أن نشهد علاقات متطورة في المستقبل مع هؤلاء الملحقين الثقافيين ومع هذه السفارات والبعثات العربية بنفس مستوى العلاقات التي تربطنا بالمؤسسات السويسرية”.

عمليا، سيشرع معهد الثقافات العربية والمتوسطية انطلاقا من هذا العام في “تعزيز العلاقات مع نادي الكتاب العربي بمنظمة الأمم المتحدة، الذي يقوم بنشاط كبير لصالح الثقافة العربية داخل المنظمة، والذي قد يتمكن من الخروج إلى المجتمع في جنيف من خلال المعهد”، كما يقول آلان بيطار. ومن المنتظر أيضا أن يتحرك الساهرون على المعهد بنفس الأسلوب تُجاه باقي الثقافات المتوسطية، ومحاولة الإستفادة من المعارض الكبرى التي تقام على المستوى الأوروبي لإقناعها بالقدوم إلى جنيف.    

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية