مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

صُمود استثنائي لسويسرا في خضم العاصفة الإقتصادية

تمثل صناعة الساعات والأدوية قاطرة الصادرات السويسرية AFP

بينما تعصف موجة الركود الإقتصادي بالعديد من شركائها الأوروبيين، تقف سويسرا صامدة باقتدار أمام تداعيات الأزمة العالمية.

في الأثناء، تبدو التفسيرات التي تعزو هذا الإستثناء السويسري إلى ما تتمتع به الكنفدرالية من ازدهار ونمو وإلى تشريعاتها التي يُزعم أنها تعزز عمليات غسل الأموال والتهرب الضريبي تبدو قاصرة عن شرح الأسباب العميقة لهذه الوضعية الفريدة.

كما هو معلوم، يستقر معدل البطالة في سويسرا في حدود 2,7%، ما يعني أنــه أدنى من المتوسط المسجل في باقي البلدان الأوروبية والذي يناهز 10%. كما استمر الإقتصاد السويسري في النمو للثلاثي الثاني عشر على التوالي.

وفي شهر يوليو 2012، ارتفعت صادرات الساعات السويسرية بنسبة 15%، بينما قفزت فيها مبيعات السيارات بـ 12% خلال النصف الأول من العام، بل تعززت بازدياد الطلب على السيارات الفاخرة، في حين تراجع الإقبال عليها بمعدل 11% في دول الإتحاد الأوروبي.

وفي تصريحات لـ swissinfo.ch، قال أيمو برونيتي، أستاذ الاقتصاد في جامعة برن: “إن الاقتصاد السويسري، مبدئيا، هو في حالة جيدة إلى حد ما، فسويسرا صمدت أمام الأزمة وتمكنت من استرجاع قواها بوتيرة أسرع بكثير مقارنة مع بلدان أخرى”.

واستطرد قائلا: “لم تتأثر سويسرا بالفقاعة العقارية أو بأزمة الإئتمان، بل هي تجني فوائــد سياسات الاستقرار الاقتصادي التي اعتــمدتها قبل عشرة أعوام، ما أتاح لها أن تكون أفضل استعدادا (لمواجهة الأزمة المالية العالمية)”.

سياسات ذكية

في هذا السياق، يتساءل كثيرون كيف نجح بلد قاري صغير لا يمتلك موارد طبيعية تذكر ويمتد على جغرافية وعرة، في تحقيق هذه القدرة التنافسية، والتمتع بهذا المستوى الرفيع من الابتكار والازدهار، لينمو ويصبح أحد أكبر المراكز العالمية في مجالات الصيرفة وشحن البضائع والتجارة الدولية في السلع والمواد الأولية؟

الإجابة بسيطة جدا في نظر الخبراء وتتلخص في: السلام الدائم (منذ 1848)، والنمو الإقتصادي المطرد لشركائها الرئيسيين في مجال التصدير، والصناعات الناجحة المدعومة بــتشريعات ملائمة للأعمال التجارية، وهي عوامل ساعدت واحدة من أعرق الديمقراطيات في العالم على الإزدهار.

يُضاف إلى ذلك أن المواطنين السويسريين ملتزمون بالكد والإجتهاد، وبإتقان العمل وحب المقاولة، مثلما كتب توبياس شتراومان، المؤرخ الإقتصادي بجامعة زيورخ، عام 2010 في مقال ملفت نشرته كتابة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية تحت عنوان “لماذا تحولت سويسرا إلى بلد غنى”. 

  

من جهة أخرى، يحتل البلد موقعا مميزا في مجال التكوين والبحث العلمي حيث يُصنَّفُ المعهدان الفدراليان التقنيان العاليان في كل من زيورخ ولوزان دوريا ضمن الجامعات العشر الأوائل في أوروبا، كما يتواجد المركز الأوروبي للأبحاث النووية “سيرن” جزئيا على الأراضي السويسرية.

رغم كل ما سبق، قد يذهب البعض إلى أن نجاح سويسرا هو من “محاسن الصدف”، إلا أن واقع الأمور يشير إلى أنه ثمرة لسياسات ذكية أيضا. ففي عقد التسعينات، على سبيل المثال، اعتمدت الحكومة الفدرالية سياسات طلائعية لضمان استقرار اقتصادها، من أبرزها: سنّ مكبح للمديونية العمومية، واتخاذ تدابير صارمة لتحقيق التوازن في صناديق تأمين البطالة، وإقرار إصلاحات على مستوى السوق المحلية، وفرض قيود على الهجرة. 

المؤرخ شتراومان كتب أيضا أن السياسات الاقتصادية المتجهة بالأساس إلى ضمان الإستقرار، والمهارات البشرية الرفيعة تُعتبران من عناصر القوة التي صنعتها سويسرا بنفسها، مشيرا إلى أن نجاح البلاد الإقتصادي يُعزى إلى شيء من الحظ والقرارات الحكيمة كذلك.

سويسرا – التي تُعدّ اليوم من أغنى دول العالم بدخل يناهز 80000 دولار للفرد الواحد – كانت حتى القرن التاسع عشر بلادا يُعاني سكانها من الفقر والحرمان، لاسيما في مناطق جبال الألب، ما اضطر أبناءها إلى البحث عن العمل في الخارج كمرتزقة، ودفع أســرا عديدة للهجرة إلى روسيا وأستراليا والأمريكيتين. ومع أن البلد يتوفر على شبكة طرق عبور رئيسية تتوسط القارة الأوروبية وعلى مخزون هام من المياه، إلا أنه لم يشتهر قط في السابق بإنتاجات مميزة. وربما كان هذا النقص من باب “رب ضارة نافعة”.

في سياق متصل، تُعاني سويسرا على غرار معظم الدول المنتجة بكثرة للسلع من لعنة توفير الموارد؛ فهي غالبا ما تجد نفسها في سباق مستمر مع الزمن من أجل خلق المزيد من فرص العمل والصناعات الجديدة لتأمين استدامة الثروات التي تجنيها من مُجمل نشاطها الإقتصادي والتجاري. وفي العادة، يؤدي الإستغلال الذكي للموارد المتاحة إلى زيادة الثروة وارتفاع قيمة العملة الوطنية، وهو ما يتسبب عادة في تراجع قطاع الصناعات التحويلية نتيجة غلاء الأسعار عند التصدير.

مصير مشترك

في الواقع، يعود تركيز سويسرا على الصادرات إلى العصور الوسطى عندما تخصصت في إنتاج الألبان، مما مهد الطريق لظهور شركات تصنيع مسحوق الحليب والشوكولاتة. وفي وقت لاحق، ساعد الهوغونوتيون (وهم أتباع كنيسة فرنسا الإصلاحية البروتستانتية الذين طردوا من فرنسا في القرنين السادس عشر والسابع عشر)، على إنشاء صناعات الساعات والمنسوجات في أنحاء متفرقة من البلاد.

اليوم، تستقطب أوروبا أكثر من نصف صادرات سويسرا، وتعتبر ألمانيا أكبر شريك تجاري لها. وفيما تعتبر الكنفدرالية “جزيرة” من الناحية السياسية، يعتمد مصيرها الإقتصادي على جيرانها. فإذا ما تضعضع النمو أكثر في ألمانيا، “ستواجه الصناعات التصديرية السويسرية جملة من المصاعب”، وفقا لشتراومان. وهو ما يؤكده بوريس زورشر، كبير الإقتصاديين في “معهد أبحاث النمو الاقتصادي BAK” في بازل الذي صرح لـ swissinfo.ch أن “مصير سويسرا معتمد كثيرا على ما يحدث في أوروبا”.

في الوقت الحالي، لاتزال سويسرا صامدة لأن صناعات التصدير الهامة لديها، مثل الأدوية والساعات، تقاوم الأزمة نسبيا. وبينما  يستمر ارتفاع الصادرات الإجمالية، بدأ قطاع الصناعة الهندسية الذي يشمل آلاف الشركات المتخصصة الصغيرة والمتوسط الحجم يشعر بــلهيب الأزمة. فبينما ارتفع حجم المبيعات بنسبة 1,4% في النصف الأول من العام، انخفضت الطلبيات بنسبة 11%.

الإستقرار.. شعار سويسرا

لا يتوقع الخبراء حاليا حدوث انكماش اقتصادي آخر، إلا أن احتمالات انهيار العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) أو اندلاع أزمة مصرفية ستكون لها آثار مدمرة للغاية على سويسرا. ويحذر برونيتي قائلا: “لن يكون بمقدرة سويسرا الإفلات من تفكك منطقة اليورو، فالإتحاد الأوروبي هو أهم شريك تجاري لها، وذلك سيؤدي إلى الركود، وقد يتسبب انهيار من هذا القبيل في اندلاع أزمات منقطعة النظير في كافة أنحاء أوروبا”.

مهما يكن من أمر، فإن الإستقرار يظل العلامة المميزة لسويسرا. فبفضل السلم الاجتماعي الذي تنعم به، والحقوق التي يتمتع بها مواطنوها، لا تشهد الكثير من الإضرابات. ونتيجة لما تتحلى به سياساتها من حذر وانتقائية وانتظارية وترقب، لم تنضم سويسرا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولا للإتحاد الأوروبي، كما أنها لم تلتحق بالأمم المتحدة إلا قبل عشر سنوات فقط.

في العادة، تقترن صورة سويسرا في الأذهان بالنظافة، والنزاهة، والموثوقية، ولكن اسم البلاد تصدّر على مدى العقدين الماضيين عناوين الصحف من خلال أحداث سلبية مثل دورها أثناء الحرب العالمية الثانية (وخاصة فيما يتعلق بإعادة بعض اللاجئين اليهود إلى ألمانيا وودائع اليهود في مصارفها خلال الحقبة النازية..)، وانهيار شركتها الوطنية للخطوط الجوية “سويس إير”، وقوانينها المثيرة للجدل في مجال السرية المصرفية.

مع ذلك، أثبت التاريخ أن السويسريين قادرون على استخلاص العبر من أخطاء الماضي بل الخروج من الأزمات وهم أكثر قوة وخبرة. وفي مقاله المنشور عام 2010، كتب شتراومان: “هناك الكثير من الأدلة التي تثبت بأن الإقتصاد السويسري سيواصل نجاحه الباهر في المستقبل، فليس هنالك مؤشر على نهاية هذا الوضع”.

تقيم سويسرا علاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية. وتـدار هذه العلاقات من خلال مجموعة من الاتفاقيات الثنائية التي وقعها الجانبان على مدى السنوات.

في مرحلة أولى، وقعت سويسرا في عام 1972 اتفاقية للتبادل التجاري الحر، إلى جانب كل من النمسا، والسويد، والبرتغال وأيسلندا، اتفاقا للتبادل التجاري الحر مع الاتحاد الأوروبي. وأنشأت بموجب الاتفاق منطقة تجارة حرة للمنتجات الصناعية بين الطرفين. ويعد هذا الاتفاق أحد الركائز الأساسية للعلاقات التجارية بين برن وبروكسل.

في عام 1989، انضمت سويسرا إلى اتفاق آخر لفتح مناطق معينة من أسواق التأمين بين سويسرا والاتحاد الأوروبي. وفي عام 1999، أبرمت مع الاتحاد سبع اتفاقيات قطاعية لتنظيم تحرير السوق، بينما هدفت الحزمة الثانية من الاتفاقيات التسع التي أبرمتها مع بروكسل عام 2004 إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين الجانبين.

يعتبر الاتحاد الأوروبي بدول الأعضاء البالغ عددها 27، الشريك التجاري الرئيسي لسويسرا: زهاء 60% من الصادرات السويسرية تذهب إلى الاتحاد الأوروبي، وفقا لكتابة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية. وتشمل قائمة أهم الشركاء غير الأوروبيين لسويسرا الولايات المتحدة (10% من الصادرات السويسرية)، واليابان (3,6%)، والصين (3,1%)، وتركيا (1,2%).

حوالي 80% الواردات السويسرية تأتي من الاتحاد الأوروبي. سويسرا هي ثالث أكبر سوق لمنتجات الاتحاد الأوروبي وثالث أهم شريك تجاري له بعد الولايات المتحدة، والصين، متقدمة على بلدان روسيا، واليابان، والهند. تعبر الحدود بين سويسرا والاتحاد الأوروبي يوميا سلع بقيمة مليار فرنك سويسري، وفقا لرابطة الشركات السويسرية Economiesuisse.

وقعت سويسرا أيضا اتفاقيات ثنائية مع بلدان آسيوية مثل الهند، واليابان، لخفض اعتمادها على أوروبا.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية