مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“لو مُحيَت الجذور سوف تختفي جميع الشعوب معها”

يؤكد ماهر كيال أن تجربته الشخصية في سويسرا أثبتت له مجددا أن "الموسيقى لغة عالمية، يسهل التواصل الثقافي من خلالها". Jacques Périer

في أمسية رائقة، اكتظَّت قاعة معهد الثقافات العربية والمتوسطية في المكتبة العربية "الزيتونة" في جنيف بحضورٍ تفاوتت أعمارهم كما تباينت أصولهم، يَجمَعهم شَغَف التِرحال إلى عالم الموسيقى العربية، والتعرُّف على أصولها وجذورها المتوغلة في أعماق تاريخ الشرق الأوسط.

وبعد لَمْحة تاريخية تناولت أصول هذه الموسيقى التقليدية المُدَرَّسة عِلمياً وفق إعتبارات هيكلية ونظرية مُتقدمة، وتقاليد موسيقة مكتوبة، إستَمَع الحضور إلى تَمهيدٌ لآلات الموسيقى العربية التقليدية، وأنظمتها النغمية، وأبحَر بين أنواع المقامات الموسيقة. واختُتِمَت المحاضرة التي قدمها ماهر كيال – ليس الموسيقي كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ- ولكن الأستاذ في المعهد التقني الفدرالي العالي، والمُختَص في هندسة الألكترونيات، بتقاسيم على العود، رافقتها حركات إيقاعية، لتنقل الحضور إلى أجواء الشرق وسحره. swissinfo.ch التقت المُحاضر والأستاذ ماهر كيال فكان هذا الحوار.

swissinfo.ch: أنت أستاذ في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان، ومُختص في الهندسة الكهربائية وهندسة الألكترونيات. مالذي جعلك تهتم بالموسيقى العربية؟

ماهر كيال: صحيح أن تخصُصي هو في المجالات التقنية، ولكن الأهم من ذلك هو أنَّ جذوري عربية. لقد تركت لبنان بعمر السبعة عشر عاماً، وكان الإتصال بالوطن الأم خلال فترة الحروب التي عاشتها المنطقة صعباً جداً. ومع مرور الوقت، دفعتني رغبتي الشخصية في العودة إلى الجذور إلى التعرف على الثقافة التي أصبحتُ بعيداً عنها. فحاولت التعرف، ليس على الموسيقى العربية فَحَسْب، ولكن على عدة مجالات ُمرتبطة بكافة مدخلات الثقافة العربية، كالشعر، والموسيقى، والخط العربي. وبرأيي، من الخطأ أن نتصوَّر بأن العِلم الصحيح بعيد عن العلوم الإنسانية، لأن العلماء في الماضي كانوا يجمعون بين الفلسفة، والكتابة، والشعر، والعلوم التقنية كذلك. لا أتصور وجود علوم بعيدة عن بعضها، من يهتم بالعلوم يجب أن يهتم بكافة أنواعها، ومنها الموسيقى.

ماهر كيال

ولد في طرابلس (لبنان) عام 1959، وهاجر إلى سويسرا في عام 1977. حصل على شهادة الماجستير والدكتوراه في الهندسة الكهربائية من المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان في عام 1983 و1989 على التوالي. وهو يعمل في مختبرات الإلكترونيات الخاصة بهذا المعهد منذ عام 1990، ويعمل اليوم كأستاذ ومدير لقسم “إدارة الطاقة والإستدامة”.

نشر العديد من البحوث العلمية، وشارك في تأليف ثلاثة كتب مُختصة بعلوم الألكترونيك. حَصَل لمرات عديدة على جائزة “أفضل ورقة علمية” عن البحوث التي شارك بها في العديد من المؤتمرات العلمية الدولية، فضلاً عن حصوله على الجائزة الإستثنائية من المجلة الدولية للألكترونيات.

مُنِحَ جائزة اسكوم السويسرية في عام 1990 لأفضل عمل في مجالات الإتصالات السلكية واللاسلكية، كما مُنِحَ جائزة مؤسسة “كريدي سويس” (الممنوحة سنوياً لشخص أو فريق تعليم في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان) لأفضل تدريس في عام 2009. وهو يحمل 14 براءة إختراع.

تتضمن مجالات إختصاصه إدارة القدرة والطاقة، تصميم الدوائر الألكترونية، واجهة أجهزة الإستشعار ومعالجة الإشارات، وأدوات تصميم الدوائر الألكترونية باستخدام الحاسوب.


swissinfo.ch: هل كانت لك مثل هذه الإهتمامات في لبنان أم أنها بدأت بعد مجيئك إلى سويسرا؟

ماهر كيال: هذا الإهتمام جاء في فترة مُتأخرة جداً، وبعد إنهائي لدراستي في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان وتعييني كأستاذ فيه، حيث بدأت أتساءل عن أصل الموسيقى العربية، وقمت بدراسة أصول الموسيقى قبل تعلُّمي لها.

swissinfo.ch: كيف دَرَسْتَ العزف على العود وأصول الموسيقى العربية؟

ماهر كيال: حاولت الدراسة مع معلمين من الدول العربية، وطلبت من أشخاص يعزفون على آلة العود هنا شرح طريقة العزف وتعليمي إياها، ولكني للأسف لم أكن مسروراً من طريقة التعليم لأني لم أتعلم. لم أستطع التعَمُّق في هذه الموسيقى لأعرف كيف كتبها السنباطي مثلاً، وكيف استطاع مؤلفو الموسيقى العربية الكبار توصيل هذه الألحان العظيمة التي نعرفها. من ثَمَّ، لجأت إلى الدراسة المُعَمَّقة الجامعة بين التقنية والمعرفة العلمية لأصول العزف، وتمايزاتها الثقافية، مُعتمداً على دراساتي الخاصة.

swissinfo.ch: أين تَمَّتْ هذه الدراسة ؟

ماهر كيال: من المهم أن أذكر هنا ان المعهد الموسيقي (الكونسرفاتوار) في لوزان كان قد فتح فرعاً لتعليم الموسيقى العربية للموسيقيين الغَربيين منذ ثلاثة أعوام. وكانت هناك أربع حصص للموسيقى، تتضمن تعليم العزف على العود، والغناء الشرقي، والموسيقى الشرقية، وفن التقاسيم. وكان هذا الفرع بإدارة عازفة العود التونسية يُسرى الذهبي، التي دَرَسْتُ معها. وللأسف الشديد، يواجه هذا الفرع اليوم إحتمال إغلاقه، ليس لِعَدَم وجود الطلبة المُهتمين، ولكن للإفتقار إلى إمكانيات تسويق هذه الموسيقى.

swissinfo.ch: ماذا كانت جنسيات الطلبة الدارسين في هذا القسم؟

ماهر كيال: أنا كنت من الطلبة العرب القلائل الذين درسوا العزف على العود. أمّا في درس الغناء، وتعلم الموسيقى الشرقية والتقاسيم، فقد كانت الغالبية من طلبة المعهد الوافدين من جميع أنحاء العالم لتعلم الموسيقى العربية. وكان جميلاً جداً أن أكتشف مدى غِنى ثقافتنا الموسيقية. وكان الطلاب الذين يعزفون على آلات أخرى يكتشفون مجالات التقاسيم في فن المقام، وتلك المقامات التي لا يعرفها غير الساكنين في الدول الشرقية، ويبدأون بالإبداع فيها، والوصول إلى مراحل التنافس معنا عند العزف سوية، وكأنهم خُلقوا في مناطقنا. حينها غَمَرَني فَخْر لم أشعر بمثله منذ وصولي إلى سويسرا، وتأكدت أن الموسيقى لغة عالمية، يسهل التواصل الثقافي من خلالها.

swissinfo.ch: كيف يتفاعل الجمهور السويسري مع ما تلقيه من محاضرات حول الموسيقى العربية والعزف على العود؟

ماهر كيال: الإهتمام كبير جداً، وأتلقى الكثير من الأسئلة بعد المحاضرة. 

swissinfo.ch: مَنْ هو الجمهور الذي يحضر هذه المحاضرات؟

ماهر كيال :أعتقد أنهم مزيج من الأشخاص. الجالية العربية تمثل الاقلية، بينما يشكل السويسريون والأوروبيون المقيمون في سويسرا العدد الأكبر. وأظن أن الموسيقيين يمثلون الغالبية بالنسبة للمؤرخين المُهتمين بالدراسات الشرقية.

swissinfo.ch: هل وُجِّهَت اليك الدعوة من معاهد موسيقية محلية لإلقاء محاضرات حول الموسيقى العربية؟

ماهر كيال: بعد المحاضرة ألتي ألقيتها في معهد الثقافات العربية والمتوسطيةرابط خارجي في جنيف، طُلِبَ مني إعادة المحاضرة في المعهد الموسيقي في جنيف. ولو توفرت إمكانية لإعادة هذه المحاضرات فسوف يسعدني إعادتها جداً. وهي دون أي مقابل مادي، لإن الهدف هو إظهار إهتمامنا بثقافتنا، وبِتَعَرّفنا على هذه الثقافة في أعماقها وأصولها وليس في قشورها. رأيتُ عدداً من عازفي العود، والمُتَحَدِّثين عن الموسيقى الشرقية، لكني لم أفهم هذه الموسيقى إلّا حينما قرأت عن تطورها، وعلاقاتها، وإتصالها بالفلسفة اليونانية والفكر الشرقي. وعندما إستوعبت العلاقات بين موسيقانا وكل حضارة حوض البحر الأبيض المتوسط التي تفاعلت مع بعضها البعض وصولاً بالموسيقى إلى فن المقام، وعلاقته بالمكان الذي يتواجد فيه، وما يعطيه من إحساس، بدأت أشعر بالفخر عند عزف هذه الموسيقى، وهو ما فتح لي أبواب العزف على آلة العود.

swissinfo.ch: هل ستحاول دَمج الكم الكبير من المعلومات التقنية التي تملكها في مجال هندسة الألكترونيات مع العزف على العود أو الموسيقى الشرقية؟

ماهر كيال: نعم، هناك مهندس كيمياء كان يعمل معي، وهو صانع عود معروف في سويسرا وأنا على إتصال معه. وقد صنعت أول قالب لصناعة العود عن طريق الكمبيوتر، يُظهر لي كل هيئة القالب دون أن تَمَسَه يد البشر من خلال الحسابات الإلكترونية. وهو قائم على الفكرة الأصلية لهيئة العود، وتلاقي الشكل الكروي الذي يُعطيه هذه الهيئة. والقالب موجود عندي، وقد صُنِع وفق قوانين رياضية صحيحة تعطيه هذا الشكل. وقد سمح لي علمي بتحويله من مجرد شيء على الكمبيوتر إلى الآلة ألتي تُخرِج القالب، وسوف أبدأ بصناعة العود وفق هذا القالب، المأخوذ من عود سوري من صنع آل النحات المعروفين جداً في هذه المجالات.

swissinfo.ch: لك العديد من المؤلفات العلمية في مجال هندسة الألكترونيات. هل تفكر في تأليف كتاب يتناول هذه المعلومات القيمة؟ أو في التعاون مع مؤرخ موسيقي سويسري أو معهد مختص بالموسيقى في سويسرا؟

ماهر كيال: من أهدافي كأستاذ، شَرْح كل ما تعلمته ودَرَسْته للآخرين، ليس للتلاميذ بل للطلاب، إذ هناك فرق كبير بين الإثنين، وهو ما عرفته عندما تعلمت الموسيقى. فالتلميذ في اللغة العربية هو المُجبر على الدراسة، أمّا الطالب فهو مَن يطلب [العلم]. ومن الصعب جداً في الغرب نَقل المعلومات في المجالات التي تتضمن ثقافة واسعة إذا لم يكن التلميذ طالباً. بالطبع أحب أن أنقل ما تعلمته، وما سوف أستمر في تعلمه حتى آخر يوم في حياتي بكل ما أوتيت من إمكانيات.

لقد رأيت بأم عيني التطور السريع للطلاب الدارسين للموسيقى الشرقية والمقامات في الغرب. وأفضَل ما يمكن عمله هنا في سويسرا، وهذا هدفي أيضاً، هو إقامة مركز – ليس للموسيقى، أو الخط، أو الشعر- ولكن للثقافة العربية، التي تمتلك كمّا هائلاً من مقومات التوسع. أتمنى أن أؤلف كتاباً، ولكن لِمَن؟ للشعوب العربية؟ للسويسريين؟ أم لنفسي؟ خطر لي التسجيل كطالب في جامعة السوربون، للقيام ببحث علمي حول الموسيقى وتطورها، ونَقْل عِلمي كشخص له معرفة بالفيزياء، لإدخال الموسيقى مع الفكر العربي. وأتصور أن كمية العِلم في بحثٍ كهذا ستكون عالية جداً.

swissinfo.ch: وَسَط ما يجري من أحداث مؤلمة في أرجاء الشرق الأوسط، ما الذي تبقى من المقامات السورية أو العراقية برأيك؟

ماهر كيال: بقي كل شيء، وأكثر من ذي قبل حتى. وفي كل مرة أوجه فيها هذا السؤال لنفسي، أكتشف أن تَعَلُّق مَنْ يبحثون عن قشة للتمسك بها يتوجه نحو المقامات، والشعر، والفن. قبل فترة، التقى الفنان مارسيل خليفة في طرابلس بعدد من الطلبة الصغار الذين يعزفون العود. وبعد العزف معه، حدَّثَهم عن الفن والثقافة. وطالما بقي مثل هذا، فالشرق باقٍ. هذا هو الشيء الوحيد الذي يسمح للإنسان – لا أن يبتعد عن التطور- ولكن أن يحتفظ بجذوره، التي لو مُحيَت، سوف تختفي جميع الشعوب معها. ونلاحظ في الفن، إندحار العديد من أساليب الغناء وبقاء الفن الأصيل. الكثير من الأغاني التي يسمعها الجيل الجديد تظهر ثم تختفي، ولكننا نستمع دائماً إلى أغاني ام كلثوم، وناظم الغزالي، التي يُعاد بثها، كما نلاحظ ارتفاع أعداد المعجبين في “اليوتوب”، وهذا يعني إستحالة إختفاء هذا الفن.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية