مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“لولا المجالس البلدية لكان الوضع في ليبيا مأساويا جـدا”

صورة التقطت يوم 21 ديسمبر 2015 في ضاحية قمرت قرب العاصمة التونسية وتجمع بين مارتن كوبلر، مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا (في الوسط) وممثلين عن البلديات والمجالس البلدية في معظم مناطق ليبيا بعد توقيع 24 رئيس بلدية على اتفاق يقضي بدعم حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج والإتفاق السياسي الليبي الذي رعته الأمم المتحدة عبر مفاوضات جرت على مدى أسابيع في مدينة الصخيرات المغربية. swissinfo.ch

لم يكن اعتباطيا أن الأمم المتحدة حرصت أول ما حرصت، بعد التوصل إلى اتفاق تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، في شهر ديسمبر 2015، على جمع رؤساء بلديات رئيسية في ليبيا وطلبت منهم التوقيع على الإتفاق، فالحافز على ذلك هو تأمين حاضنة شعبية للوفاق. ويعلمُ موفد الأمم المتحدة مارتن كوبلر الذي جاب أنحاء ليبيا لدى تسلمه مهامه، أن المجالس البلدية المنتخبة هي الهيئات الوحيدة التي لم تسحبها النزاعات إلى مهاوي التموقعات القبلية والإصطفافات السياسية والأيديولوجية، فظلت لصيقة، بدرجات متفاوتة، بهموم الناس اليومية.

ويمكن القول أن الوضع الإستثنائي الذي تعيشه ليبيا منذ قرابة سنتين، بدون حكومة مركزية، أنشأ بدوره مواقف استثنائية لم نألفها من البلديات في الظروف العادية، منها أن يُصبح المجلس البلدي مسؤولا عن أمن السياسيين بل ويُؤمّـن أحيانا اجتماعات على درجة كبيرة من الأهمية.

فعندما قرر البرلمان الليبي (المعترف به دوليا) عقد جلسة في مدينة طبرق لمناقشة الإتفاق السياسي الخاص بتشكيل حكومة التوافق برعاية الأمم المتحدة، والتصويت عليه كان المجلس البلدي للمدينة هو الذي تعهّد، مع أعيانها، بتوفير الأجواء الأمنية اللازمة لعقد الجلسة. وهناك أمثلة أخرى منها ما حدث في مدينة أجدابيا أواسط شهر ديسمبر الماضي عندما تصاعد التوتر بين أنصار اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذين توعدوا بدخول المدينة بعنوان مكافحة الارهاب، والكتائب المحسوبة على ما يُعرف بـ “داعش” داخلها، إذ سعى المجلس البلدي والمجلس المحلي بالمدينة إلى تهدئة الأوضاع واستعانوا بالزعامات القبلية لطمأنة الأهالي، الذين أغلقوا محلاتهم التجارية وغادر بعضهم البيوت خشية اندلاع مواجهات.

المجلس الرئاسي في ليبيا يعلن تشكيل حكومة وحدة مُعدّلة

الصخيرات (المغرب) (رويترز) – أعلن المجلس الرئاسي في ليبيا في ساعة متأخرة من مساء الأحد 14 فبراير 2016 تشكيلا معدلا لحكومة وحدة بموجب خطة تدعمها الأمم المتحدة بهدف إنهاء الصراع في البلاد.

وقال فتحي المجبري وهو أحد أعضاء المجلس الرئاسي في بيان تلفزيوني إن قائمة بأسماء 13 وزيرا وخمسة وزراء دولة أُرسلت إلى البرلمان الليبي المعترف به دوليا (مقره طبرق) للموافقة عليها.

ولكن في علامة على استمرار الخلافات بشأن كيفية الجمع بين الجماعات اللييبة المتناحرة رفض عضوان في المجلس الرئاسي المؤلف من تسعة أعضاء للمرة الثانية التوقيع على الحكومة المقترحة وذلك حسبما أظهرت وثيقة نُشرت على صفحة المجلس الرئاسي على موقع فيسبوك.

وتهدف خطة الأمم المتحدة التي شُكلت بموجبها حكومة الوحدة إلى الجمع بين الجماعات المتحاربة في ليبيا والمساعدة في التصدي لخطر متزايد من جانب تنظيم “الدولة الإسلامية”، ولكن منذ توقيعها في المغرب في ديسمبر 2015 يعترض عليها متشددون من الجانبين وواجهت تأجيلات متكررة.

وقال المجبري إنه يدعو الليبيين الذين عانوا من القتال وأعضاء البرلمان إلى دعم حكومة الوفاق الوطني التي ستوفر الإطار العملي لمحاربة الإرهاب.

وانزلقت ليبيا في الصراع بسرعة بعد الانتفاضة التي أطاحت بمعمر القذافي قبل خمس سنوات. ومنذ عام 2014 لديها حكومتان متنافستان احداهما مقرها في طرابلس والأخرى في الشرق وكلاهما تدعمها تحالفات فضفاضة من كتائب مسلحة وثوار سابقين.

واستغل تنظيم “الدولة الإسلامية” فراغا أمنيا كي يصبح له تواجد في ليبيا مسيطرا على مدينة سرت ومهددا بتوسيع رقعة نفوذه إنطلاقا من هناك. وحثت الحكومات الغربية الجماعات الليبية على تأييد حكومة الوحدة حتى تستطيع بدء التصدي لهذا التهديد والدعوة إلى الدعم الدولي حينما تكون هناك حاجة لذلك.

وكان مجلس النواب الليبي المعترف به دوليا قد رفض تشكيلا مبدئيا مقترحا في شهر يناير الماضي وسط شكاوى من أن عدد الوزراء المعينين والذي بلغ 32 وزيرا أكبر مما يجب. وكانت هناك خلافات أيضا بشأن توزيع المناصب والسيطرة على القوات المسلحة الليبية في المستقبل.

وقال فايز السراج رئيس الوزراء المكلف والذي يرأس أيضا المجلس الرئاسي للصحفيين يوم الأحد 14 فبراير إن أحدث تعيينات أخذت في الاعتبار الخبرة والكفاءة والتوزيع الجغرافي والطيف السياسي ومكونات المجتمع الليبي.

واختلفت أسماء كثيرة من الواردة في قائمة يوم الأحد عن قائمة الشهر الماضي على الرغم من أن المرشح لمنصب وزير الدفاع وهو مهدي البرغثي لم يتغير.

وسارع مارتن كوبلر مبعوث الأمم المتحدة الخاص لليبيا إلى تهنئة المجلس على إعلان حكومة جديدة. وقال على تويتر إن “الرحلة إلى السلام ووحدة الشعب الليبي بدأت أخيرا”.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 15 فبراير 2016) 

بداية يوم جديد؟

كره الليبيون السياسة والسياسيين وضاقوا ذرعا بالميليشيات فتظاهروا أكثر من مرة للمطالبة بإخراجها من المدن ودفعوا الشهداء ضريبة لممارسة حقهم في التعبير والتظاهر إذاك. إلا أنهم لم يشتكوا من المجالس البلدية، بل على العكس التفوا حولها وساعدوها، عدا المجالس التي اختطفتها الجماعات المسلحة. ويوم اجتمع عُمداء (رؤساء) 24 بلدية ليبية في ضاحية قمرت شمال العاصمة التونسية (يوم 21 ديسمبر 2015) كان واضحا أن أيادي غير مُرتعشة تمتد لاحتضان وليد يحتاج إلى حضن دافئ يضُمّهُ. لذلك التفت كوبلر إلى الصحفيين الذين احتشدوا حول المائدة التي أبصرت توقيع العمداء على ذاك الإتفاق التاريخي ليقول لهم “هذه علامة إيجابية… إنها بداية يوم جديد في ليبيا”.

في السياق، حث كوبلر البلديات في المنطقة الشرقية على اقتفاء خطى مثيلاتها في الغرب الليبي. وقبل كوبلر كان سلفه برناردينو ليون حريصا أيضا على إشراك البلديات في مسارات الحوار والمصالحة، وآخرها في شهر سبتمبر 2015 حين اجتمع مع ممثلي البلديات والمجتمع المدني، الذين شددوا على ضرورة الإسراع بحل سياسي “نظرا لانتشار الفوضى السياسية وتمدد “داعش” وتدهور الوضع الإقتصادي و(تفاقم) الأزمة الإنسانية” مثلما جاء في البيان الصادر عقب الإجتماع حينها.

ماذا صنعت المجالس البلدية حتى تستأهل كل هذا الإهتمام والثناء من الموفدين الدوليين؟ عندما اشتعلت شرارة الصراع بين “فجر ليبيا” المسنودة من “المؤتمر الوطني العام” (برلمان مُنحل) ومركزها العاصمة طرابلس، وحركة “الكرامة” المدعومة من البرلمان المُعترف به دوليا ومقره في طبرق (شرق)، نأت مُعظم المجالس البلدية (وعددها حوالي 90 مجلس مُنتخب) بنفسها عن الإنخراط في ذاك الصراع الأهلي ومضت في تنفيذ المهام المنوطة بها. ولو لم تفعل ذلك لانهار البلد وانزلق إلى الصوملة، فالدولة غائبة والحكومة حكومتان والسلطة التشريعية مشطورة والإدارة مشلولة، والميليشيات تصول وتنفذ شهوات أمراء الحرب. لكن بفضل وجود المجالس البلدية ظل الماء الشروب يصل إلى البيوت والتيار الكهربائي مُتوافرا والشوارع نظيفة إلى حد كبير.

دولة في غياب الدولة

أكثر من ذلك أكد يوسف أبديري عمدة بلدية غريان (غرب) جوابا على سؤال لـ swissinfo.ch أن البلدية “صارت تعمل في جميع المجالات، بما فيها تلك التي كان ينبغي أن تتولاها الأجهزة المركزية في العاصمة”، والتي تضطلعُ بها حاليا البلديات. ومضى شارحا “في الأزمة الحالية بات المواطن يُسائل البلدية عن بعض الأمور التي لا مسؤولية للبلديات عنها مثل تأخر الكتب المدرسية أو تأخر التطعيم اللقاحي” للأطفال.

محمد العربي إبراهيم الطاهر عميد بلدية الشرقية أضاف أن البلدية “تتدخل في جميع المجالات بحكم طبيعة الوضع الراهن، فنحن كبلدية مُستحدثة تُعتبر غالبية المجالات التي نعمل فيها ليست من دائرة عملنا الأصلي، لكننا نتدخل فيها”. وأضاف “منذ قرابة سنة والبلديات هي التي تقوم بجميع الخدمات نتيجة التخبط الحاصل في الدولة”. أما حسن القدافي، عمدة بلدية الشويرف فأيد ما ذكره زميلاه مشيرا إلى أن البلدية تتدخل في المجالات التي تمس المواطن بشكل مباشر وغير مباشر. وأوضح لـ swissinfo.ch  أنها تتدخل على سبيل المثال في الجوازات والأمن والاتصالات والإنترنت والكهرباء ودعم القضاء، وقال: “إن البلديات عوّضت الدولة بكل قوة في المناطق التي غابت عنها، فلولا المجالس البلدية لكان الوضع في ليبيا مأساويا جدا بالنظر لعدم وجود دولة وبسبب الإنقسام الذي حدث”.

وفي خطوة لافتة، عقدت مدن وقبائل عدة بالغرب الليبي اتفاقات مصالحة لتجاوز الخلافات والمواجهات المسلّحة ودعم شرعية الدولة وبسط نفوذ مؤسساتها، وفي مقدمتها الجيش الليبي والقوات المساندة له في المناطق الواقعة غرب العاصمة طرابلس. وفي هذا الإطار وقعت مدينتا الزنتان والرجبان المواليتان للشرعية اتفاق مصالحة مع مدن صبراتة والعجيلات وصرمان، يقضي بوقف إطلاق النار وحقن الدماء. ونص الإتفاق الذي تم توقيعه في مدينة صبراتة الساحلية القريبة من الحدود التونسية على “وقف إطلاق النار ووضع حد للحملات الإعلامية المغرضة التي تحرّض على الكراهية والإقتتال”.

موازنات غير كافية

في سياق متصل، سألت swissinfo.ch توفيق عبد الدائم عمدة بلدية الجفرة عن مجالات العمل الرئيسية التي يتدخل فيها المجلس البلدي، فرد بأنها “تشمل كافة المُختنقات من المشاكل المتعلقة بالمياه والصرف الصحي إلى الحدائق العامة الخ…”. وأضاف “نحن نتدخل في قطاعات ليست من أنظارنا مثل المحروقات والكهرباء وبعض القطاعات الأخرى”. لكن عبد الدائم اعتبر تلك التدخلات محدودة “لأن الموازنات غير كافية فهي لا يمكن أن تُغطي كل المجالات”. أما مفتاح الطاهر حمادي عمدة زليتن فأكد لـ swissinfo.ch أن البلديات استطاعت أن تسد الفراغ الذي تركه غياب الدولة “إلى أقصى مدى وبكل جدارة”. ولاحظ حمادي أن “هناك تداخلا بين اختصاصات البلديات وبعض الوزارات، ولكن البلديات من مسؤوليتها متابعة الوضع التعليمي والصحي والخدمي في جميع النواحي وتحسين وتطوير الخدمات العامة”. ورأى أن البلديات “استطاعت أن تحل محل الحكومة في كثير من المجالات وأثبتت جدارتها رغم شحّ الإمكانات”.

بدوره، رأى محمد العربي ابراهيم الطاهر عميد بلدية الشرقية أن البلدية “استطاعت سد الفراغ بنسبة حوالي 70 في المائة في ظل غياب الدولة وعدم وجود المُوازنات اللازمة”، فيما أشار يوسف أبديري إلى وجود عراقيل موضوعية تحول دون قيام البلديات بجميع الوظائف نيابة عن الدولة، وهي عوائق تشريعية من بينها مثلا مسألة تحصيل الضرائب. ومع ذلك أكد أبديري، عميد بلدية غريان أن “البلديات حلت مُعظم المشاكل وأهمها السلم الأهلي والإجتماعي وعوضت المواطن عن دور الدولة المركزية فلم يحدث انهيار أو سطو مسلح على المؤسسات الحكومية والبنوك وغيرها من أجهزة الدولة”.

تركيبة المجالس البلدية

بحسب البند 52/2012 من قانون المجالس البلدية الليبي، تتكون مجالس بلدية مؤلفة من تسعة أعضاء في المدن التي يتجاوز عدد سكانها 250 ألف ساكن، وسبعة أعضاء فقط في المدن الأصغر عددا، من بينهم وجوبا ممثل من الثوار السابقين الذين فقدوا أحد أطرافهم، إضافة إلى مقعد للمرأة. وقد جاء قانون المجالس البلدية للتخفيف من حدة الحكم المركزي الذي عانت منه البلاد على مدى عقود.  

تجاوب محدود

سألت swissinfo.ch العمداء أيضا عن مدى تجاوب المواطنين مع المجالس البلدية، فقدّر توفيق عبد الدايم عميد بلدية الجفرة نسبة التجاوب “بما بين 50 و60 في المائة”، مُشيرا إلى أن غياب الدولة شجّع المواطن على التقاعس والإحجام عن التطوع. وقال يوسف أبديري، عمدة بلدية غريان: “إن المواطن كان متجاوبا ومشاركا بنسبة جيدة في عمل البلدية، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني والجهات الأمنية، بالرغم من ضعف الإمكانات”، مؤكدا أن “قلة الثقة في الحكومة أثرت سلبا في عمل البلدية”.

وجوابا على سؤال أخير بشأن تأثير الصراعات السياسية التي تشهدها مختلف مناطق ليبيا في عمل المجالس البلدية، قال عمدة بلدية غريان: “ليست هناك مشاكل كبيرة ولكن هناك عدم فهم للمهام والإختصاصات، وهذا يؤثر بدوره في العمل داخل البلدية”. أما عميد بلدية الشرقية فاعتبر أن ذلك التأثير كان “كبيرا جدا” من دون الدخول في التفاصيل. ومن جهته، أجاب عمدة زليتن قائلا: “إذا كنت تقصد التأثير على الصراع بين البلديات فنعم، أما اذا كنت تقصد أعضاء المجلس البلدي فليست هناك تأثيرات سلبية”، بينما نفى عميدا بلديتي الجفرة والشويرف وجود أي صراعات في المجلسين البلديين.

قُصارى القول أنه في ظل دخول البرلمانين المتنافسين في صراع مُدمر على مدى قرابة سنتين، برزت المجالس البلدية في ليبيا بوصفها حاضنة لتجربة ديمقراطية، تحت مظلة الحكم المحلي، لم يشهدها المجتمع الليبي منذ استحواذ معمر القذافي على الحكم في خريف 1969 بل وحتى قبل ذلك في العهد الملكي.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية