مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

اتفاق جنيف.. جدلية العنف والسياسة

Keystone

يتزايد الدعم الدولي لاتفاق جنيف بين بعض الشخصيات الإسرائيلية والفلسطينية لإحلال السلام بين الجانبين.

ورغم التأييد الدولي المُـعلن، فلا الدول العربية ولا الولايات المتحدة ولا حتى السلطة الفلسطينية أبدت رأيا صريحا بشأن هذه المبادرة الطموحة.

لا خلاف على أن كل الأطراف المعنية بعملية التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي مأزومة بدرجة أو بأخرى، وأن خيارات البعض في الجانبين وصلت إلى أفق مسدود تماما، وإذا ما استمرت على حالها، فسوف تصل حتما إلى كارثة.

وكما أن السلطة الفلسطينية تُـعاني من كثافة الضغوط وانسداد الأفق وغياب القدرة على الحركة، فإن قوى المقاومة ليست بأفضل حال.

الوضع الفلسطيني العام يُـعاني انقساما وتشرذما لم يسبق له مثيل. والكل بات موسوما بالإرهاب، والتعاطف الدولي انكمش إلى حد كبير، والقدرة على المناورة السياسية ضاعت وسط ركام الانقسام وعدم الاتفاق على برنامج حد أدنى للتحرير والاستقلال الممكن، والتسوية المقبولة مقابل تنازلات معقولة.

أزمة هيكلية لليسار الإسرائيلي

وفي الجانب الآخر، فإن قوى اليسار الإسرائيلي التي تميل نسبيا إلى التعامل السياسي مع الصراع مع الفلسطينيين تعيش حال تدهور وتفكك وغياب عن الساحة.

فنجمها الذي كان ساطعا لفترة طويلة، بات في حالة أفول وانزواء عميقة منذ ثلاثة أعوام، والفضل يرجع إلى انتهازية بعض رموزها السياسيين الكبار كشيمون بيريز، وإلى الذين ادعوا الانتماء إلى هذا المعسكر، كرئيس الوزراء الأسبق ايهود باراك، ولكنهم كانوا ومازالوا جزءا أساسيا من معسكر التطرف والابتذال السياسي الذي يقوده شارون بكل حنكة.

وهذا الأفول نتج عن عوامل هيكلية، حيث دب الضعف في آليات حركة الأحزاب اليسارية الكبرى، كالعمل وميرتس، واختفت سياستها المتميزة حين قبِـل حزب العمل المشاركة في حكومة سُـمِـيَـت “وحدة وطنية” قادها شارون قبل عامين وفقا لبرنامجه الخاص، ومن ثم لم تستطع أن تقدم البديل الجاذِب لتأييد الرأي العام للحزب، والذي وقع بدوره في براثن التطرف وأوهام الانتصار العسكري الكاسح على الإرادة الفلسطينية، الأمر الذي بدا عصيا وغير ممكن الحدوث، رغم الثمن الهائل الذي يدفعه الفلسطينيون كل لحظة.

وبين قوى اليسار المفتّـت مؤسسيا، بقي هناك أفراد يشعرون بخطورة التدهور الذي أصاب حزب العمل تحديدا، من أمثال يوسي بيلين، وأبراهام بورغ، وعامرام متسناع وغيرهم من الذين ظلوا على قناعة بأن الانخراط في عمل سياسي بالأساس، هو العاصم والحامي للدولة العبرية وهويتها اليهودية التي تشكل جوهر المشروع الصهيونى، وأن البديل الذي يقدمه شارون، حيث القوة العسكرية والوحشية النظامية ولا بديل عنهما، من شأنه أن يقود إلى انهيار حتمي للدولة العبرية مهما كان الادعاء بالانتصار في موقعة هنا أو ضربة هناك.

مخاض صعب

في ظل هذا الفضاء السياسي الملبد بالغيوم، ولدت وثيقة جنيف بعد مخاض صعب من المباحثات الماراثونية الأقرب إلى المفاوضات الرسمية بين طرفين يسعيان إلى تقديم بديل سياسي معقول ينهي دورة الدم والعنف التي يقودها شارون ووزير الدفاع شاؤول موفاز.

وهنا، لابد من التأكيد على ثلاثة ملاحظات أساسية. الأولى، أن الوثيقة لم تعلن رسميا بعد، وأن نشرها استهدف بالأساس قياس رد الفعل المنتظر من كل الأطراف، وتشكيل قوة ضغط سياسية ومعنوية على كل الادعاءات التي قام عليها التحرك “الشاروني” في الأعوام الثلاثة الماضية، خاصة فضح مقولتي عدم وجود شريك سلام فلسطيني، وأن القوة العسكرية ستجلب انتصارا ساحقا سيجلب الأمن والسلام للدولة العبرية.

الثانية، أن الطرفين اللذين قبلا المباحثات سرا، وإن لم يكونا مفوضين من قبل مؤسسات سياسية، فهما يشكلان تيارين موجودين على الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية، وأحدهما وهو الفلسطيني، يبدو مدعوما من قيادات كبرى في السلطة الفلسطينية.

هذان التياران في حال أزمة كما سبق القول، ويراهنان على أن العودة إلى السياسي من شأنها أن تحول الأزمة إلى انفراج ولو بتدرج، وأن تصدر الأزمة السياسية وتعمقها لدى الطرف الآخر، خاصة الليكود والأحزاب المتطرفة المتحالفة معه.

الثالثة، أن الجهد الذي تم التوصل إليه لم يكن ممكنا لولا الدعم الخارجي، ممثلا في رعاية سويسرية بدت للمراقبين مدعومة أوروبية وهدفها احتواء اوجه القصور والتراجع في السياسة الأمريكية في ظل إدارة بوش، وأيضا من قبل السياسة الأوروبية الجماعية، وتقديم بديل من أطراف الصراع أنفسهم، وليس من خارجهم.

مجمل هذه الملاحظات الثلاثة، أن ثمة رؤية سياسية لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تعتمد مبدأ التنازلات المتبادلة والتحرك السياسي، والاستفادة من خبرات التفاوض الرسمي في فترة الرئيس بيل كلينتن، وتدعمها قوى دولية أوروبية بالأساس تشعر بنوع من تأنيب الضمير إزاء العجز عن الوقوف أمام المخططات الوحشية لحكومة شارون التي يتعرض لها الفلسطينيون على مرأى ومسمع من العالم.

وربما جاز القول إن هذا التحرك الأوروبي الذي تمثله سويسرا، راعية الاتفاق، يستهدف عمليا تعرية سياسة حكومة شارون أمام المجتمع الإسرائيلي نفسه، ونزع الغطاء الأمريكي عنها.

خيار سياسي يقبل التأمّـل

في ظل هذا الفضاء السياسي العام، تبدو الوثيقة خيارا سياسيا، وهو إن لم يكن كاملا ومحققا كل الطموحات الفلسطينية المشروعة، فعلى الأقل يقبل التأمل وإمعان النظر فيما توصل إليه من مبادئ لأهم القضايا التي توصف بقضايا الحل النهائي، فيما يشير إلى أن الوثيقة جاهدت في التوصل إلى حل نهائي وليس مرحلي، واجتهدت أيضا في اعتماد مبدأ التنازلات المتبادلة وصولا إلى صفقة شاملة تقود من وجهة نظر المتوصلين إليها إلى نوع من الحل التاريخي الذي يحفظ يهودية الكيان العبري من جهة، إضافة إلى أمنه واستمراريته، ويقيم دولة فلسطينية على حدود عام 1967 بعد تعديلات حدودية طفيفة مقابل مبدأ دونم مقابل دونم، على أن يكون الاتفاق، إذا ما طبق، نهاية للصراع ويمنع أي من طرفيه من إدعاء مزيد من المطالبات مستقبلا.

تبدو النقطة الفاصلة في الاتفاق وكأنها مقايضة تاريخية بين أمرين. أولهما، قبول إسرائيل إقامة دولة فلسطينية مقابل تنازل الفلسطينيين عن حق العودة، ولكن دون أن يصرح بذلك صراحة، حيث تم الاستعاضة عنه بمخرج تحويله إلى حق السكن الدائم جنبا إلى جنب إقرار مبدأ التعويضات الفردية والجماعية.

ويأتي حق الاختيار في السكن ضمن أربعة خيارات، من بينها توجه أعداد محدودة لإسرائيل ذاتها، ضمن ما يُـعرف بسياسة لم شمل الأسر، وتظل مرهونة بالإجراءات الإسرائيلية نفسها، إضافة إلى عودة إلى الدولة الفلسطينية ذاتها والأراضي التي ستمنح لها عند تعديل الحدود، أو “حق السكن” في الأماكن التي يعيش فيها اللاجئون الفلسطينيون بالفعل أو إلى دولة أخرى تقبل “هجرتهم إليها”، مع إعطاء أولوية للاجئين الذين يعيشون في لبنان، وهي إشارة يراد بها أن يجد الاتفاق تأييدا لبنانيا، وربما سوريا أيضا.

ومفهوم أن حق السكن هنا يساوى الإقامة الدائمة، وتلك بدورها تثير مشكلة الجنسية، وهي ما لم يذكره الاتفاق. في حين أن الاتفاق يشير إلى أن مكانة اللاجئ تنتهي بانتقاله إلى مكان السكن الدائم، حسب قرار اللجنة الدولية. في الوقت ذاته، يؤكد على أن هذا الحل، في حال تطبيقه، سيقود إلى انتهاء المطالب المتبادلة مستقبلا.

لكن الملاحظ أن هذه الخيارات رُبطت جميعها بحق التعويض، الذي ستتولاه جهة دولية. فيما يعنى أن حل هذه المشكلة في صورتها النهائية، سيتطلب تضافر جهود دولية، وإقليمية، ومؤسسات مالية وخيرية عالمية وإنسانية.

والمشكلة الأبرز ستكون في تقدير التعويضات، وهو ما قصره الاتفاق على تعويض الأملاك بعد تقديم الوثائق إلى اللجنة الدولية التى سيكون عليها تقدير تلك التعويضات وفق طريقة حسابات خاصة يتفق عليها.

ولم يذكر الاتفاق أي شيء عن تعويض المعاناة في الهجرة إلى خارج الوطن طيلة أكثر من نصف قرن. بيد أن البند العاشر يشير إلى التعويض عن وضعية اللاجئ، حيث يقوم صندوق الوضع السياسى بالبت في حالة كل لاجئ، وتقود الصندوق لجنة دولية وأن تساهم إسرائيل في تمويله.

ومن كل هذه التفاصيل وغيرها، يتضح أن تأييد الدول العربية مسألة مهمة وشرط لا غنى عنه لإنجاح اتفاق كهذا، إذا ما تحول إلى وثيقة رسمية ملزمة لحكومتين، وليس لمجرد مجموعات من السياسيين والمثقفين والنشطين على الجانبين، وهو أمر سيظل عسيرا إلى أن تتضح الرؤية بشأن مدى القبول الأمريكي بذلك، والتحول إلى طرف داعم لكل بنوده. وهذه ليست مأمونة بشكل مناسب، لا سيما في عام الانتخابات الرئاسية المقبل.

الدولة الفلسطينية

جاء الاتفاق حول إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 مع بعض تعديلات حدودية وصفت بالطفيفة، وأن يكون القسم العربي الإسلامي من القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، فيما يبقى حائط المبكى تحت السيادة الإسرائيلية، وأن يكون هناك وضع خاص في البلدة القديمة يضمن حرية الانتقال والعبادة، ويمنع حمل السلاح تماما، وأن يعترف كل طرف بعاصمة الطرف الآخر، وأن تشكل فرقة دولية تضمن تطبيق هذا البند، على أن تقيم قوة دولية تضمن الأمن في الحرم، وأن يضمن ذلك ممثلون من المؤتمر الإسلامي، وأيضا، أمن الحدود للدولة الفلسطينية عند قيامها، وذلك تعويضا عن كونها منزوعة السلاح، على أن يتم ترسيم الحدود في موعد أقصاه 9 أشهر من سير مفعول الاتفاق.

ومن النقاط الهامة، أن تقبل إسرائيل تفكيك بعض المستوطنات أو إخلاءها، طالما أنها في أراضى الدولة الفلسطينية، وذلك وفق برنامج زمني يضعه الطرفان، على أن تخصم أثمانها من قيمة التعويضات التي ستسهم إسرائيل بدفعها.

وبعد التأمل في هذه البنود، نجد أنها تقبل بأمور لم تكن واردة في حسبان أي صهيوني من قبل، من بينها تقسيم القدس مقابل الأبدية تحت السيادة الإسرائيلية، والوجود الدولي مقابل رفض أي أدوار دولية جماعية، فضلا عن التأكيد على محورية القرارات الدولية 242 و338، ومبدأ تعديل الحدود المنصوص عليها في خط 4 يونيو لعام 1967، وذلك وفق صيغة دونم مقابل دونم، وبالتوافق والتراضي المتبادل.

غير أن ثمة نقطة مثيرة تتمثل في أن الدولة الفلسطينية ستكون بحاجة إلى تواصل أراضيها بين الضفة الغربية وغزة. ومن هنا، اتفق على إقامة ممر يصل بينهما على أن يكون تحت السيادة الإسرائيلية، ولكن بإدارة فلسطينية. فيما يعني أن عملية التواصل الفلسطيني ستكون تحت رحمة إسرائيل إلى الأبد، وإن كان الاتفاق يشير إلى أن تطبيقه سيعنى نهاية الصراع وإحلال السلام. فهل سيقبل متطرفو إسرائيل ذلك؟

د. حسن أبو طالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية