مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مصارف محلية تواجه اشتراطات إدارة الجباية الأمريكية

Reuters

يخضع مصرفان على الأقل من بنوك الكانتونات السويسرية لمراقبة واشنطن، بعد أن شجعا عددا من عملائهما على التهرب من مصلحة الضرائب الأمريكية.

وقد تعالت أصوات كثيرة في سويسرا مُطالبة برفع الضمانات التي تقدمها الدولة لهذه المؤسسات الواقعة تحت إشراف الكانتونات.

في شهر يناير 2013، لخصت صحيفة (NZZ) طموحات بنك كانتون زيورخ، الذي يعد أكبر مصارف الكانتونات في سويسرا، في عبارة واحدة عندما كتبت: “إنه يجلب رؤوس أموال جديدة لتوسيع نشاطاته، ويُقيم نظاما مصرفيا خاصا لصالح كبار الأغنياء، ويقدم علاوات مالية لصالح الإطارات، ومِنحَ جودة بالنسبة للبقية، أي أن بنك دويلة زيورخ يحاول القيام بكل ما يعمل على تحويله لبنك كبير بمعنى الكلمة”.

لكن محتوى مقال الصحيفة – التي تصدر بالألمانية في زيورخ – يبدو اليوم غير مطابق لما تتناوله الأخبار، إذ أن مصرفي كانتوني بازل وزيورخ هما من ضمن حوالي عشرة مصارف مستهدفة رسميا من قبل وزارة العدل الأمريكية، بتهمة مساعدة زبائن أمريكيين على تهريب ملايين الدولارات من نظام الضرائب الأمريكي. وما يزيد الطين بلة، كون بعض هذه التصرفات وقعت بعد فضيحة مصرف “يو بي إس” في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2009. ويدور حديث منذ عدة أشهر عن إمكانية سقوط بعض هذه المصارف في قبضة العدالة الأمريكية في الغد القريب.

في ردّ مكتوب وجهه إلى swissinfo.ch، نفى مصرف كانتون بازل أن يكون قد قدّم أي دعم للتهرب الضريبي، موضحا بأنه بدأ يرفض زبائن جدد مقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية شهر مارس 2009. أما فيما يتعلق بالعملاء الأمريكيين القدامى التابعين لمصرف “يو بي إس” الذين حاولوا التوجه لمصرف كانتون بازل، فإنهم “في معظمهم زبائن يرغبون في إيداع أموالهم المعلنة [لمصالح الضرائب] في بنك يقدم لهم الضمانات المرجوة (ضمانات الدولة)”، حسب توضيحات مصرف بازل.

تعتبر البنوك الأربعة والعشرين التابعة للكانتونات السويسرية مصارف مستقلة، ولكن ذات طابع حكومي، لأن مالكيها، إما كليا أو بغالبية الأسهم، هم الكانتونات. وباستثناء مصرف كانتون جورا، الذي أسس في عام 1978 في تزامن مع قيام الكانتون الجديد في الجورا، فإن باقي مصارف الكانتونات رأت النور، إما في شكلها الحالي أو في شكل أسلافها، في غضون القرن التاسع عشر.  

وقد كانت مهمتها الرئيسية هي ضمان الدعم والدفاع عن الإقتصاد المحلي، وذلك بتقديم قروض بأسعار فائدة منخفضة، وبتنظيم سوق الرهون العقارية، وتعزيز الإدخار، وذلك بتقديم عروض استثمار آمنة وتعزيز المبادلات المالية بإصدار الأوراق المالية.

وبحصيلة إجمالية مقدرة بحوالي 400 مليار فرنك سويسري، تمثل بنوك الكانتونات حاليا حوالي 30% من السوق المصرفية السويسرية. ولكن هذه المؤسسات تعرف تباينا فيما بينها: فحصيلة نشاطات مصرف كانتون زيورخ يفوق بـ 75 مرة حصيلة مصرف كانتون أوري. في الأثناء، يظل كانتوني أبنزيل رودس الخارجية، وسولوتورن الوحيدين اللذين لا يتوفران على مصارف تابعة للكانتون.

“من بقايا الماضي”

باستثناء مصرفي كانتوني جنيف وفو (اللذان لهما ضمانات جزئية)، ومصرف كانتون برن (الذي ليست لديه أية ضمانات من الكانتون)، والذين تعين إعادة رسملتهم بمليارات الفرنكات بأموال دافعي الضرائب عقب الأزمة العقارية التي شهدتها بداية تسعينات القرن الماضي، تستفيد كافة بنوك الكانتونات السويسرية من ضمانات غير محدودة من قبل الدولة. هذا يعني أن المستثمر مطمئن للحصول على تعويض لأمواله المودعة بنسبة 100% في حال إفلاس البنك.

وهناك العديد من الخبراء الذين ينتقدون عدم جدوى هذه الضمانات اليوم، إذ يعتبر المحامي كارلو لومبارديني من جنيف “بأن ذلك من رواسب الماضي، ولا مكان له اليوم في التصورات المعاصرة لبنك له نشاطات على المستوى العالمي”. وكان هانس غايغر، الأستاذ بجامعة زيورخ، قد صرح في عام 2011 لصحيفة لوتون (التي تصدر بالفرنسية) في جنيف أن “هذه الضمانات تخلق مشاكل في طريق توسيع نشاطات بنوك الكانتونات في الخارج، لأن تقديم خدمات لعملاء في الخارج لا يدخل في إطار الخدمة العمومية”. ويرى لومبارديني بأن ذلك قد يكون خطيرا في نهاية المطاف: “بما أن الكانتون يُعتبر، بصفته مُساهما، فاعلا صلبا وقادرا على السّداد، فقد يكون مصرف الكانتون أكثر استعدادا للإنخراط في مغامرات غير محسوبة”

مصرفا كانتوني زيورخ وبازل ليسا البنكين الوحيدين اللذين أغراهما توسيع النشاطات في الخارج. فمصرف دويلة جنيف، على سبيل المثال، له فروع في دبي وهونغ كونغ. وشرحت متحدثة باسم البنك في حديث لـ swissinfo.ch بأن الأمر يتعلق في الواقع بمرافقة العملاء من جنيف الراغبين في القيام باستثمارات في الخارج، مُضيفة “لسنا محط تحقيقات مصلحة الضرائب الأمريكية، وليست هناك أية أسباب لكي نخضع لها في المستقبل نظرا لنوعية عملائنا”. ولكنها أوضحت في المقابل أنه “لا يمكن لأي مصرف سويسري، باستثناء البنوك الإقليمية الصغيرة، أن يستبعد تماما فرضية من هذا القبيل”.

كارلو لومبارديني، محامي من جنيف

بما أن الكانتون يُعتبر، بصفته مُساهما، فاعلا صلبا وقادرا على السّداد، فقد يكون مصرف الكانتون أكثر استعدادا للإنخراط في مغامرات غير محسوبة.

“التفاف على المنافسة”

في حديث لصحيفة لوتون، وضع البروفسور مارتين يانسن من زيورخ، من جهته، كافة البنوك السويسرية في نفس الخانة بقوله: “سواء تعلق الأمر بكبار المصرفيين في البلد، أو بالمصالح المالية للبريد “بوست فينانس”، أو بمصارف الكانتونات، فإن المشكلة تبقى هي نفسها في أساسها. فهذه البنوك لا تدفع أية علاوات للدولة مقابل الدعم الذي تقدمه الدولة (…)، أما بالنسبة لبنوك الدويلات فيجب تصور انسحاب تدريجي للدولة”. وهذا الانسحاب للدولة، دائما حسب تصور البروفسور، قد يقود  في نهاية المطاف إلى عملية اندماج بحيث لا يتبقى في نهاية المطاف سوى مصرفين أو ثلاثة تابعة للكانتونات في سويسرا.

وقد صعَّد عدد من السياسيين من نبرة أصواتهم مقابل تصرفات بعض المصارف التابعة للكانتونات، منتقدين استمرار تقديم تلك الضمانات الحكومية. ووصف الممثل البرلماني دومينيك دو بومان، من الحزب الديمقراطي المسيحي (وسط اليمين)،  ذلك بـ “التحايل على المنافسة” في مداخلة له ضمن البرنامج الحواري المباشر “إينفرا روج” الذي تبثه الإذاعة والتلفزة السويسرية الناطقة بالفرنسية (RTS). وفي زيورخ، أصدر الحزب الراديكالي الليبرالي بيانا لا لبس فيه يقول: “إن الضمانات التي تقدمها الكانتونات بشكلها الحالي لا مستقبل لها”. وقد طالب سياسيون من بازل وزيورخ بالتحديد من صلاحيات تلك الضمانات لكي تشمل فقط الزبائن القاطنين في المنطقة، وأن تشمل فقط بعض النشاطات.

ولا زال بعض الخبراء، على غرار أوليفيي كروفوازيي، يؤمنون بجدوى بنوك الكانتونات، ويدعمون ضرورة تواجد جهة حكومية قادرة على تقديم القروض كملاذ أخير، إذ يقول: “أكيد أن ضمانات الدولة لا يجب أن تكون صالحة لتغيطية نشاطات معينة في الخارج، ولكن في نظام ديموقراطي لا مركزي، هناك ضرورة ملحة للاحتفاظ بوسيلة تمويل تحت اليد، والمتمثل في بنوك الكانتونات، لدعم وتمويل السياسات المحلية. وفي ظل ما يجب تسميته انهيار النظام المالي الدولي، أنا على قناعة بأننا سنعود إلى منطق البنوك المحلية (أو القريبة من المواطن) خلال السنوات القادمة”.

وقد قام مصرف كانتون سانت غالن بخطوة في هذا الاتجاه من خلال إعلانه أنه سيتخلى عن فرعه المتخصص في إدارة الثروات الخاصة في جنيف “هيبو سويس”، وذلك “للتركيز على نشاطاته في المناطق القريبة بسويسرا الشرقية وفي المانيا”. ولتبرير هذا الاختيار، أثار البنك مشكلة “التحولات العميقة” التي تعرفها سوق إدارة الثروات، و”تشديد الإجراءات”. وأضاف البنك “إن هذه التحولات تعمل على التخفيف من حدة المخاطر التي قد تعترض المؤسسة المالية”، مشيرا في نفس الوقت إلى أن ملف المشاكل الضريبية مع الولايات المتحدة الأمريكية لم يؤثر على قراراته.

التساؤل المطورح: كيف أن هذه المؤسسات البنكية التابعة للكانتونات السويسرية، والتي تم تأسيسها في القرن التاسع عشر للقيام بدور داعم للاقتصاد المحلي، تجد نفسها اليوم محط تحقيق من قبل مصلحة الضرائب الأمريكية، وقد تجد نفسها في أحسن الأحوال مهددة بغرامة مالية قوية، وفي أتعسها مهددة بالافلاس بكل بساطة؟

يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة نوشاتيل، أوليفيي كروفوازيي، إن القضاء على الكارتيلات في القطاع المالي في عام 1992، والذي عقب عملية التحرير التي عرفها القطاع المصرفي الأنجلو ساكسوني، كان بمثابة نقطة تحول أساسية. “فقد بدأت بعض البنوك الكبرى التابعة للكانتونات الإستثمار في الأسواق المالية الدولية، حيث استطاعت تحقيق أرباح هامة. وما بين عامي 1992 و2007، كان بالإمكان تحصيل فائدة مضاعفة تسع مرات من عملية مالية معروفة بأنها محفوفة بالمخاطر!”.

ويشير أوليفيي كروفوازي أيضا إلى أن دور الوسيط الذي يقع تقليديا على عاتق المصرفي، والمتمثل في تجميع المدخرات، وتقديم القروض في منطقة معينة، قد عرف تراجعا بالتزامن مع استيلاء المجموعات الدولية الكبرى على المؤسسات الاقتصادية المتوسطة والصغيرة. أما سوق الرهون العقارية التقليدية التي كانت تسمح للبنوك الجهوية بتحقيق ما بين 75 و90% من عائداتها، فقد أصبح تافها في نظر العديد من المصرفيين، إذ يقول استاذ القانون: “لقد أصبح العديد من موظفي مصارف الكانتونات في سويسرا منجرين نحو نشاطات أكثر ربحا وقادرة على تحقيق علاوات كبرى، مثل إدارة الثروات أو بنك الاستثمار”.

(ترجمه من الفرنسية وعالجه: محمد شريف)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية