مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“في المسرح ندعو إلى جمع الناس وليس إلى تفريقهم”

الممثل والمسرحي والكاتب التونسي عون البغدادي يرى أن القضية الكبرى التي تشغله اليوم هي مسألة التثاقف والتعايش المشترك في افق بناء مجتمع إنساني عادل. zvg

في هذا الحوار الذي أجرته معه swissinfo.ch على هامش العروض التي يشارك حاليا في تقديمها بسويسرا لمسرحيته التي كتب نصها وشارك في تمثيلها مع مبدعين سويسريين وتحمل عنوان "كم من بحار بيننا" يتطرّق المسرحي عُـون البغدادي إلى أبرز القضايا المطروحة حاليا مثل الإسلاموفوبيا والهجرة والإرهاب واللجوء والإندماج من منظور المبدع التونسي، والمنتمي إلى بلدان الجنوب، ولكن بأفق إنساني ورؤية نقدية عميقة. 


خاض البغدادي عون، وهو ممثل ومخرج مسرحي أصيل مدينة الحامة بالجنوب التونسي، تجارب عديدة في المسرح والسينما والتلفزيون واللإاعة… تمثيلا وإخراجا وإنتاجا وتنشيطا… هو صاحب تجربة فريدة وميدانية في استعمال المسرح كوسيلة إدماج للشباب من ذوي الصعوبات في الأحياء المهمّشة، علاوة على مساهمته في العديد من التجارب الفنية خارج تونس، حيث مثّل بلاده مؤخرا في مدينة غرونوبل الفرنسية في سياق شهر ثقافي يحتفي بالثورة التونسية من خلال عمله «حكاياتنا». ومن خلال مشاركته في إنتاج وتمثيل مسرحية “كم من بحار بيننا”، يكون البغدادي أوّل ممثل تونسي يُشارك في عمل إبداعي مع جهة فنية سويسرية.

 swissinfo.ch: تتطرّقون في عملكم الفني إلى مسألة التعايش المشترك، وهي قضية الساعة ومحل الإهتمام اليومي للساسة ولرجال الإعلام. فأين تكمن المشكلة حتى تتحوّل لموضوع لعمل فني؟ 

عون البغدادي: إنجاز عمل فني لا يقتضي بالضرورة وجود مشكلة. بل هو يأتي من باب الإهتمام بالمواضيع ذات العلاقة بحياة المجتمع، والمسرحي أو الكاتب، له تقديراته ورؤيته الخاصة حول الموضوعات المطروحة. فنرى اليوم الإهتمام بمسألة التثاقف، والحوار الثقافي، وفهم أسباب بعض الظواهر الإجتماعية مثل الهجرة السرية أو وجود بعض المركبات النفسية التي تتحوّل إلى صدمات ثقافية فيما بعد مثل العنصرية، وهي ناتجة في حقيقة الأمر عن تراكم أشياء غير واضحة فتصبح الصورة ضبابية. مثل هذه المواضيع نعالجها نحن لأنه ثبت اليوم أن المجتمعات تمر بصراعات، وأن كل ثقافة، وفقا لعلماء الأنثروبولوجيا لها خصوصياتها، وأن الأصل في الأشياء أن تتفاعل هذه الثقافات فيما بينها لا أن تتصارع كما هو الحال اليوم. وبالتالي هناك وراء كل صدام أو حوار أديان مستفيد، وهناك ربما من يزرع الفتنة وها نحن نرى ما يحدث في العراق وفي ليبيا وفي سوريا وفي أفغانستان وفي بورما، وفي كثير من مناطق العالم المتوترة، وحتى أوروبا لم تعد بمنأى عن ذلك، وأفضل مثال ما تشهده فرنسا. إذن مشكل الصراع الثقافي قد يؤدي بنا إلى دمار وحروب وتقاتل. شهد التاريخ حدوث حروب صليبية باسم الدين، وأخرى باسم التطهير العرقي، وأخرى قبلية. كل ذلك يدلّ على أن المسألة الثقافية لا بد أن تكون محور اهتمام، وأن نبحث عن الأسباب الحقيقية التي تخلق الفتنة بين المجتمعات الإنسانية. 

swissinfo.ch: ما الذي يُمكن أن تضيفه هذه المعالجة الفنية لمثل هذه القضايا الشائكة؟ 

عون البغدادي: نحن نتناول في هذه المسرحية الكثير من المواضيع مثل التثاقف بين حوضيْ البحر الأبيض المتوسط شمالا وجنوبا. ونركّز خاصة على تونس. فهذا البلد عاش فترات تأزّم ما قبل الثورة وكان معزولا ووحيدا، بل وشارك الشمال الأوروبي في دعم النظام المستبد الذي كان يجثم على صدور التونسيين التائقين للحرية لمدة طويلة. وقد وجد نظام ابن علي مساندة من اوروبا ومن الأنظمةالحاكمة تحديدا. بالتالي في المسرحية نحن نتحدث عن ثورة شعب وعن هجرة ابان الثورة التونسية، هجرة شباب يبحثون عن حياة أفضل وعن الحرية ونتحدّث ايضا عن نظرة الشمال الاوروبي إلى جنوب البحر الأبيض المتوسط، وتونس تحديدا. هذا ما تناوله الجزء الذي كتبه الكاتب السويسري رولان ميرك، اما الجزء الذي كتبته انا فيعالج قضية التثاقف مع أوروبا. المسرحية إذن تعالج الكثير من المواضيع منها الهجرة السرية، ومعاناة الشباب التونسي داخل تونس وفي اوروبا، والجهود التي يبذلها من أجل اندماجه في أوطانه الجديدة، والعراقيل التي يتعرّض إليها. كذلك نعالج الصورة المروّجة عن الشرق وعن العرب والمسلمين في المجتمعات الاوروبية. كما نعالج أيضا اوضاع المهاجرين العرب والمسلمين جراء الاحداث الارهابية التي تحدث في أوروبا، ولا يجب ان ننسى أن العرب هم اوّل من دفع ثمنا باهظا لهذه الهجمات الإرهابية.

swissinfo.ch: تضمن الجرد الذي قدمتوه في المسرحية للمشكلات التي يُواجهها المهاجرون، وللصورة المشوّهة التي يروّج لها الإعلام عنهم، مُؤاخذة للغرب، لكن لم أر نقدا أو دعوة في النص المسرحي للقيام بنقد ذاتي من طرف العرب والمسلمين لأنفسهم؟ 

عون البغدادي

 مسرحي تونسي

شارك في العديد من الأعمال الفنية بالتعاون مع مسرح مدينة تونس، ومسرح ميشتل، والمسرح الوطني التونسي.

قام بإخراج العديد من العمال المسرحية الخاصة بالصغار والكبار.

له تجربة ثرية في مجال العمل الإذاعي.

قام بادوار تمثيل في العملين السينمائيين “فاطمة” و”عندما تثير الرياح الرمال”.

عون البغدادي: في المسرحية نحن نتعرّض إلى الكثير من المسائل السلبية كالأسلوب الدموي التي ينتهجه بعض شباب العرب والمسلمين، ونتعرّض كذلك إلى نشأة هذا الشاب في بيئة تغذّي فيه العقد النفسية وتجعل منه شخصا يبحث عن الثروة، ويستعمل كل السبل لتحقيق حلمه في الوصول إلى أوروبا. ونتحدث أيضا عن الضعف الإعلامي الذي تعاني منه بلدان جنوب البحر الابيض المتوسط لكي تعطي صورة حقيقية عن الوضع الأوروبي الذي يُعاني هو الآخر من العديد من المشكلات. نتحدّث أيضا عن “أبو ترنزيت” الذي يستغلّ أموال المهاجرين مقابل تسهيل عبورهم إلى الموت أو إلى الشمال. وأشرنا أيضا إلى أنه ليس شخصية جنوبية فقط بل يخص أيضا بلدان الشمال، لأن هؤلاء ينسقون في ما بينهم في إطار عصابة عالمية كبيرة. وكما أن التهريب – بقدر ما يهم السلاح والبضائع والأعضاء – بات يهم أيضا تهريب البشر. نحن ننطلق من بيئتنا لكي نفهمها، وقد عالجت ذلك في اللوحات التي كتبتها، وبيّنت أن البيئة، بيئة الفقر، ونقص الثقافة، وبيئة السيطرة الأبوية في المجتمعات العربية التقليدية قد تجعل من الشاب يذهب بعيدا إما بإلقاء نفسه في البحر من أجل حلم تحقيق الثروة أو السعادة. وهذا ناتج عن تركيبات نفسية وعائلية اجتماعية. 

لكن هذه المسرحية تعالج أيضا القيم الإنسانية بصفة عامة. ولم نرد أن نحمّل الشمال المآسي التي يتعرّض لها المهاجرون، ولم نرد أن نحمّل الإعلام الغربي القوي الذي يمتلك النفوذ المسؤولية في تشويه صورة المسلمين في العالم، ولكننا انطلقنا أيضا من بؤر للتوتّر ومن نقص ثقافي في منطقتننا العربية الذي دعّم الكثير من النقاط السلبية. لكن في نهاية الأمر فإن هذه المسرحية تدعو إلى الإنسانية، يعني أنها تضع إصبعها على موطن الداء في الفكر الإنساني. نحن نعمل مسرح ونعمل فن وخطاباتنا تختلف عن خطابات السياسيين التي قد تتضمّن تحريضا وبثا للفتنة. نحن في المسرح ندعو إلى جمع الناس وليس إلى تفريقهم. 

swissinfo.ch:  من الملاحظ أن هناك تكامل للأدوار بين التيارات اليمينية المتشدّدة هنا وهناك على ضفتي البحر الأبيض المتوسط. برأيكم انتشار التيارات المتشددة هل هي ظاهرة معرفية وثقافية مجرّدة تتعلّق بأنماط الخطاب وتأويل النصوص، أم أن أبعادها أعمق من ذلك؟ 

عون البغدادي: أنا أعتقد أن اليمين يغذي اليمين، واليمين المتطرّف في أوروبا الذي يرفض الآخر، ويتحدّث مع الآخر على أنه أجنبي وليس له الحق في التواجد، وحلم هذا اليمين ببناء الإمبراطوريات القديمة، وهذه العنصرية التي تشحن خطاباتهم هي تغذي اليمين المتطرّف المتشدد في أماكن أخرى فهو يجد تعلّة لذلك، فاليمين يغذّي اليمين. وبالتالي كل تطرّف بالنسبة لنا هو يغذّي أزمات انسانية. نحن لسنا مع اليمين. ولقد قلنا ذلك صراحة في المسرحية. فقد نقدنا خطابات عائلة لوبان الفرنسية في عملنا، وليس ذلك لشخصها، بل لأنه خطاب عنصري يحرّض على الكراهية، ولا يؤمن بالتثاقف، ويقف عقبة أمامنا نحن كمسرحيين. أنا الآن أكلمك من نوشاتيل في مكتب مدير المسرح، وأحس نفسي كأنني في تونس، وكأن هذه الإدارة هي ملك لي. وهذا يدلّ على أن المسرحي منفتح على الآخر، وبالتالي هذا ما نريده، هو توطيد العلاقات بين الجميع وأن ندحض كل هذه الأفكار الفتاكة التي يوجد من يغذيها لمضاعفة أرباحه. وكلما وجدت نفسك أمام ظاهرة لابد من طرح سؤال من المستفيد؟ ومن الخاسر؟ وعندما نسأل من الرابح من خلف ستار هذه الحركات المتطرّفة المتشددة التي وصلت إلى حدّ الدموية المتوحّشة، نجد أن الرابح هو من يبيع السلاح، ومن يبحث عن المواقع الإستراتيجية، والرابح من يبحث عن الثروة! هذا هو الرابح في نهاية الأمر. 

swissinfo.ch:  صحيح أنكم تنقدون اليمين هنا وهناك. لكن كل البشرية اليوم مأخوذة في هذه الدوامة، ونجح المتطرّفون في فرض أجندتهم القائمة على الصراع على الجميع. برأيكم، كيف يُمكن للإنسانية أن تخرج من هذه الدوامة؟ 

عون البغدادي: أعتقد أنه على المسرحي أن يقوم بدوره وكذلك المربيّ والإعلامي والسياسي، الجميع عليه أن يقوم بدوره. كل مكوّنات المجتمعات تقوم بدورها لتدحض عنها كل آثار للدمويةّ. وكيف ندحض ذلك؟ يكون ذلك بتكريس العدالة، وبالحريات والفكر الديمقراطي ومراعاة حاجات الأنسان الأساسية، وأن نسمح لكل الشعوب بأن تعيش بحرية. أنا عندما أنظر لنظام دكتاتوري في ليبيا تدخلت قوى دولية أجنبية بالسلاح وبالمال لكي تسقطه، أتساءل ما الذي جعل هؤلاء يستفيقون متأخرين؟ هل هي المصالح التي نفذت أم أنه تغيّر استراتيجيات، أم أنها اعادة توزيع للأدوار؟ ولماذا يذهبون فقط إلى المناطق الغنية بالموارد؟ ماذا تعني الصومال مثلا لو لم تكن منطقة عبور محاذية للبحر الأحمر بالنسبة للسفن المعبأة بالنفط بدلا من أن يحملوه بالطائرات فيكلفهم غاليا؟ لكن الجميع ليسوا قادرين على فكّ هذه الطلاسم وهذه الإستراتيجيات التي ما يخفى منها أكثر مما يظهر. عملنا كمثقفين ومفكرين وفلاسفة كان دائما البحث عن القيم الإنسانية في حين أن الآخرين يبحثون عن الربح. أنظر الحلم الامريكي كيف أسس الولايات المتحدة. هذا البلد اكتشف بالصدفة، وذهب إليه الحالمون بالثروة، والباحثون عن الحرية والهاربون من المجاعة والإضطهاد العرقي، ولكن آنظر الآن إلى مصير هذا البلد. في نهاية المطاف، الخطابات البعيدة عن التشنّج والتي تبحث عن المسببات، وتعالجها هي الخطابات التي تدحض العنف. أما الخطابات التي تتحدّث باسم القومية المنغلقة، وباسم الجنس الأرقى والأبهى والأذكى هي خطابات ولّى زمانها ولا تجلب للإنسانية إلا الدمار.      

 swissinfo.ch: هذا العمل الإبداعي أنجزته بالإشتراك مع مبدعين من الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. ما هي أوجه الطرافة في هذه التجربة؟ وما هي الآفاق التي تفتحها لمبدع تونسي مثلكم؟ 

عون البغدادي: في إطار التعاون الفني مع الخارج، كانت لي تجارب سابقة. حيث كنت أحد مؤسسي معهد جيبوتي للفنون. ولمن لا يعلم، تقع جيبوتي على الحدود مع الصومال، وإريتريا، وأثيوبيا، والبحر الأحمر واليمن. ولقد أدركت ومن خلال البحث أهمية الموقع الاستراتيجي لهذا البلد. نسقت في إطار مجالي ولكن أكاديميا، غير أن العمل لم يتواصل لأسباب يطول شرحها. لديّ كذلك إسهامات وتعاون مع مدينة غرونوبل ومع بلدية كابوش، وقد قدمت عروضا فنية هناك. يعني على مستوى المثاقفة أنا منفتح على ذلك. أما عن الطرافة في هذه العمل هو أنه نحن من بدأناه، ونحن من أكملناه. لقد بدأ هذا العمل من خلال تجربة مع بيتر براشلر، عندما جاء هذا الأخير إلى تونس يبحث عني لأداء دور ممثل. واشتغلنا على هذا العمل ميدانيا، وزرت مراكز لطالبي اللجوء في زيورخ لكي أرى أحوال الشباب، ووجدت من بينهم تونسيين، وتحدثت معهم ووقفت على وضعياتهم الصعبة في هذه المراكز، كما كانت لي تجربة مع الشباب في حي التضامن (قرب العاصمة التونسية)، وهو شباب من ذوي الصعوبات، وأعرف هذه المواضيع جيّدا وحي التضامن هو أكبر حي سكني على المستوى الإفريقي. وأعرف الصعوبات والفقر،… يجعل هذه المواضيع الطريفة لم تستهلك كثيرا في المسرح. الجانب الآخر هو ان التبادل الثقافي بين سويسرا وتونس حديث، ويكفي أن أقول إنني أوّل ممثل يشتغل مسرحيا هنا. وأن نجد فريقا ينسق مع بعضه البعض: كاتبان، واحد من سويسرا والآخر من تونس، وممثل تونسي، وممثلان سويسريان، بالإضافة إلى مخرج سويسري. وكذلك مغنّي راب من سويسرا وآخر من تونس. ويكفي أن ننجح، وعلى الرغم من صغر حجم وإمكانات مسرح ميرالام، ولكن بالرغم من اننا اشتغلنا في البداية مجانا توصلنا إلى هذا الجمع، ذلك لأننا أحببنا هذا العمل الذي اشتغلنا عليه أربع سنوات. كما أن الطريف في هذا العمل مكوّناته الداخلية: هو مكوّن من لوحات مترابطة مع مواضيع مختلفة، يخاف منها المسرحي عادة، ولا يحبّذها. نحن انطلقنا من هذه المواضيع الصعبة لكي نعالجها، ونصدر موقفا منها.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية