مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

نحو استثمار ثقافي وسياحي للإكتشافات الأثرية في السودان

swissinfo.ch

ترغب السلطات السودانية في استثمار الاكتشافات الأثرية التي عثر عليها فريق التنقيب عن الآثار السويسري وباقي الفرق الأخرى من أجل تصحيح فهم تاريخ المنطقة، ومواصلة التنقيب للوقوف على حقيقة تطور الإنسانية انطلاقا من تلك الربوع.

كما تعمل الوزارات المعنية على توظيف تلك الاكتشافات من أجل جعل السودان يصبح وجهة سياحية لا تقل أهمية عن مصر او الأردن أو كينيا خصوصا وأنها تجمع بين مقومات سياحة الاستجمام والسياحة الثقافية وسياحة التعرف على الحياة البرية.

لم يتوقف كل المسؤولين الذين التقينا بهم في السودان عن التعبير عن الشكر للفريق السويسري الذي قام بأبحاث تنقيب أثرية في منطقة كرمة منذ أكثر من 40 سنة بقيادة البروفيسور السويسري شارل بوني. وهي الأعمال التي قادت الى اكتشاف تماثيل الفراعنة السود في منطقة دوكي جيل ومعطيات أثرية وحضارية قد ترغم المختصين على إعادة النظر في عدد من المفاهيم السائدة حول التاريخ الحضاري للمنطقة.

ويقول وزير الثقافة والشباب والرياضة السوداني محمد يوسف عبد الله “إننا كسودان وكوزارة ثقافة فخورين لرؤية أن هذه الأعمال الكبيرة التي قام بها البروفسور شارل بوني تصل الى اكتشافات كبيرة جدا تقدم خدمة كبيرة للسودان. ولكنها قدمت أيضا خدمة كبيرة لسويسرا التي أسهمت كدولة متقدمة ودولة علم وثقافة في كشف كنوز السودان خلال هذه الفترة”.

أما المهندس صلاح الدين حسن فرح مسؤول معتمدية البرقيق التي توجد بها مدينة كرمة فيذهب إلى أن الشغل الذي قام به شارل بوني “عمل على سد فراغ في تاريخ الحضارة النوبية بحيث أوضح بأن هناك حضارة نوبية صرفة، وأن هناك حضارة نوبية تمثل امتدادا لحضارة فرعونية. فالمنطقة كانت منطقة تداخل بحيث أثرت الحضارة النوبية في الجزء الجنوبي من مصر كما أثرت الحضارة الفرعونية في الجزء الشمالي من السودان”.

التنقيب عن أصل الإنسان في السودان

ويرى وزير الثقافة السوداني محمد يوسف عبد الله أن “هذه الحقائق التي تم اكتشافها هي اليوم ملك للشعب السوداني ولكنها ملك أيضا للمجتمع العالمي كإرث إنساني باعتبار المشاركة في وسائل المعرفة يزيد الدول قربا من بعضها وتزيد من تمتين العلاقات بينها كما تعمل على جعل بلد الاكتشاف (أي السودان) يستفيد اقتصاديا”.

ويضيف وزير الثقافة والشباب والرياضة، أن ما تم اكتشافه في منطقة “سنجة” يشجع على مواصلة التنقيب عن أصول الحضارة الإنسانية موضحا أن ما اكتشفه شارل بوني “هو امتداد لما تم اكتشافه في منطقة سنجة والذي يجعل من السودان موطنا لحياة بشرية تعود الى مليون سنة”.

ويؤكد الوزير محمد يوسف عبد الله أن “شارل بوني كشف جزءا أساسيا في سلسلة الفترات والحقب التاريخية بحيث اهتم بالفترة المتوسطة التي عرفت دخول المسيحية والرومان للمنطقة وهذا جزء هام من تاريخنا الذي نعتز به”.

لقد دفع عثور فريق شارل بوني على آثار حياة بشرية غابرة يعود تاريخها إلى ما بين 50 ألف و250 ألف سنة، وعلى أقدم قرية على مستوى القارة الإفريقية، واكتشافه لمؤشرات حول وجود حياة بشرية بالمنطقة يعود تاريخها إلى مليون سنة، السلطات السودانية المعنية إلى التركيز على ضرورة مواصلة التنقيب والبحث.

وبخصوص هذها الجانب، يقول وزير الثقافة والرياضة والشباب السوداني “هذا ما نرغب في التركيز عليه بإعطائنا تراخيص لعدة جهات علمية لتقوم بأبحاث عن هذه الحقبة التي تمتد لمليون سنة، ولتوضيح إلى أين اتجهت الحضارة التي كانت سائدة هل غربا أم شرقا أم جنوبا أو شمالا. هذه هي الجوانب التي ندرسها الآن ونتوقع إن شاء الله ان تكون فيه مفاجآت كثيرة وتُحل طلاسمُها لكي تبرز حقيقة وواقع السودان الأثري والتاريخي وفي النشاط البشري الإنساني بكافة جوانبه”.

التوظيف الثقافي.. وإعادة كتابة تاريخ السودان

إن الإكتشافات التي تم التوصل إليها وما وقع العثور عليه من آثار في السودان سيغير لا محالة فهم السودانيين لتاريخهم في صورة ما أتيحت جميع هذه المعلومات لعامة أفرادالشعب عبر الوسائل المختلفة.

وقد حرص فريق علماء الآثار السويسري على الترويج لنتائج الحفريات التي قام بها بدءا بالمحيط القريب من مناطق التنقيب. إذ أوضح شارل بوني أنه أعطى سكان المنطقة الأولوية للتعرف على الاكتشافات الأثرية التي يتم التوصل إليها أولا بأول، كما أقنع السلطات السودانية بالإبقاء على القطع الأثرية في عين المكان لكي يستفيد سكان المنطقة من جذبها السياحي الداخلي والخارجي من خلال إنشاء متحف مجمع حضارة كرمة.

كما ساهم عالم الآثار السويسري في تنشيط حملات للتوعية بأهمية هذه الاكتشافات عبر محاضرات قدمت في عدة مؤسسات تعليمية في دنقلا عاصمة المحافظة الشمالية والعاصمة السودانية الخرطوم.

ويشير وزير الثقافة السوداني محمد يوسف عبد الله إلى أن “هناك دراسة لكي تصبح هذه الاكتشافات الأثرية جزءا أساسيا من المنهج التربوي والتعليمي في السودان عملا بالقول من لا تاريخ ولا حضارة له لا مستقبل له”، وحسب الوزير دائما “يتم حاليا تصحيح وتنقيح المناهج العلمية كل سنتين، وتجدد فيها المعلومات”، كما كشف أن هناك حاليا “لجنة تنكب على إعادة كتابة تاريخ السودان من منطلقات الاكتشافات الأثرية المختلفة التي نتحصل عليها من منطقة لأخرى”.

بوادر نشاط سياحي

وزارة السياحة والحياة البرية السودانية تعقد بدورها آمالا كبرى على إسهام المناطق الأثرية في كرمة وغيرها من الجهات في تطوير القطاع السياحي في بلد يملك مقومات كبرى تشمل الصحاري والمياه إضافة الى التنوع العرقي والثراء الثقافي الناجم عن تعايش أكثر من 530 قبيلة جنبا إلى جنب على مساحات شاسعة جدا.

وتتمثل المشكلة الرئيسية التي لا زالت تقف عقبة بوجه السودان أمام تطوير القطاع السياحي في أن المناطق التي توجد بها آثار قديمة تفتقر في معظمها للبنى التحتية الأساسية من طرق وكهرباء وفنادق قادرة على استقبال السياح.

وهذا ما أوضحه لسويس إنفو وزير السياحة والحياة البرية المهندس جوزيف ملوال دونغ حيث يقول: “أغلب المواقع الأثرية توجد في مناطق صحراوية يصعب الوصول إليها، كما أن السودان يفتقر الى القدرات الفندقية وهذا حتى في العاصمة الخرطوم رغم التطور الذي عرفته الحركة الفندقية مؤخرا”.

وأوضح الوزير بأن الخطة الخماسية التي شرع في تنفيذها في عام 2007 “ركزت على البنى التحتية في الكثير من المواقع الأثرية ومواقع جذب السياحة ومنطقة كرمة واحدة من هذه المناطق”، كما تسهم وزارة السياحة في حماية هذه المواقع الأثرية بتوفير الشرطة السياحية.

وتقوم وزارة السياحة في السودان بالترويج حاليا لمناطق أصبحت تستهوي السياح مثل بورسودان وأركويت وسبلوكة والجبراوية أو منطقة المصورات ومنطقة النقعة. وفيما يؤكد وزير السياحة أن منطقة بورسودان بمنطقتها المرجانية “أصبحت تجلب سائحين من العديد من الدول”، يقول وكيل الوزارة علي محجوب عطا المنان “إن العام 2006 عرف توافد حوالي 2 مليون سائح على السودان”.

ويعدد وزير السياحة السوداني مزايا السياحة في بلد شاسع نظرا لما تتميز به من تنوع وتباين حيث “هناك مناطق البحر الأحمر بسواحلها المرجانية، ومنطقة جنجر شرقا بحديقتها الكبيرة للحيوانات البرية” كما أن “الحياة البرية في المناطق الجنوبية يمكن أن تكون بديلا عما هو معروف في كينيا خصوصا بعد الاضطرابات الأخيرة هناك”، على حد قوله.

الباب مفتوح للاستثمار

خلال فترة إعداد هذا التحقيق في السودان (يناير 2008)، سجل توافد عدة وفود عربية وأجنبية على الخرطوم بغرض البحث في إمكانية الاستثمار، اهتم أغلبها بالإستثمار في القطاع السياحي.

وزير السياحة جوزيف ملوال دونغ قال لسويس إنفو إنه استقبل وفدا قطريا مهتما ببناء مركب سياحي في العاصمة الخرطوم، لكنه أوضح بأنه شجع الوفد القطري على “الاهتمام بالاستثمار في مناطق سودانية خارج الخرطوم أيضا” منوها إلى أن السودان يحث على “الاستثمار في القدرات الفندقية وقدرات المطاعم وحتى في حدائق الحيوانات خصوصا وأن هناك مشاريع لتطوير ثلاثة حدائق للحيوانات في ضواحي الخرطوم”.

ويشدد وزير السياحة على أن “الساحل السوداني لمنطقة البحر الأحمر بشواطئه المرجانية من أطول السواحل في المنطقة. وقد شرعت السلطات المحلية في مسح سياحي بغرض عرض الإمكانيات المتاحة على المستثمرين”. كما يذهب وزير السياحة السوداني الى حد التلميح ” إلى أن منطقة بور سودان ستصبح وجهة بديلة جديدة لمن تعودوا على التوجه لمصر او الأردن او اليمن”.

أما معالي وزير الثقافة محمد يوسف عبد الله فأوضح بأنه “توجد هناك حاليا اتصالات مع شركات في الخليج وفي ألمانيا تم خلالها عرض كنوز السودان، وتقدمت خلالها هذه الشركات بأفكار مبدئية في كيفية تطوير هذه السياحة الثقافية. وتتمثال الفكرة الأساسية فيها في وضع بانوراما بشكل هندسي ومعماري يجسد تاريخ السودان حسب المراحل والحقب التاريخية بعدد من المباني والأنشطة وعلى شكل قرى ومنتجعات تعكس هذا الواقع بحيث عندما يدخل السائح الى المنتجع سيجد أن المنتجع يعكس واقعنا في فترة من الفترات”، وشدد وزير الثقافة على أن “هذا المشروع الذي سيعرض بشكل متكامل على مجلس الوزراء، سيكون من أكبر الأفكار الأساسية التي ستطبق في مجال السياحة الثقافية في السودان”.

وعما إذا كانت للسلطات السودانية رغبة في الاستفادة أيضا من الخبرة الكبيرة التي تتوفر لسويسرا في مجال السياحة سواء من حيث التكوين أو الترويج، يقول وزير الثقافة والشباب والرياضة يوسف محمد عبد الله المطلع على الواقع السويسري بحكم تقضيته لأكثر من أربع سنوات في بعثة جمهورية السودان لدى الأمم المتحدة في جنيف “إن التوقيع على اتفاقية حماية الاستثمار والتجارة بين السودان وسويسرا في العام 2002 سيعمل على إتاحة الفرصة أمام رجال المال والأعمال في البلدين لتطوير العمل المشترك في مختلف المجالات بما في ذلك المجال السياحي الذي تملك سويسرا فيه تجربة جيدة للغاية استثمرت فيها الطبيعة التي تملكها من ثلوج ومياه وجبال. كما عرفت كيف تستثمر التنوع العرقي الذي يميزها لتطوير السياحة الثقافية إضافة الى استفادتها من التطور الصناعي، كل هذه التجارب نود الاستفادة منها لتطوير السياحة في السودان وستكون المواقع الأثرية التي ساهمت سويسرا في الكشف عنها جزءا من هذا العمل الكبير”.

كانت فرصة إعداد هذا التحقيق الصحفي حول العمل الذي أنجزه فريق التنقيب السويسري عن الآثار في السودان بقيادة شارل بوني مناسبة للتعرف على تاريخ منطقة تعدّ مهد تطور الإنسانية، وتحولت اليوم – رغم ما تعانيه من مشاكل سياسية وتنموية – إلى واحدة من المناطق التي تستهوي البحاثة وعلماء الآثار بحيث يعمل حاليا في السودان أكثر من 100 بعثة أجنبية الى جانب بحاثة ومنقبين سودانيين.

ومما سهل مهمة الوقوف على معالم حقب غابرة تعود إلى فترة ما قبل التاريخ في وقت وجيز والتعرف على أهم النتائج التي كشفت عنها الأبحاث والحفريات المستمرة منذ 43 عاما، الاستقبال الذي خصنا به شارل بوني وفريقه العامل في منطقة كرمة، والوقت الكافي الذي منحوه لنا لوضعنا في الصورة بالنسبة لما تم اكتشافه من معالم في المنطقة وما هو قيد البحث والتنقيب.

ومما لا شك فيه أن البعد الإنساني الذي يتميز به شارل بوني في تعامله مع الآخرين – إضافة الى إسهامه في اكتشاف جانب من تاريخ السودان وبالأخص اكتشاف عنصر هام من تاريخ النوبة – هو الذي جعل أبناء المنطقة يتبنونه كواحد منهم يتحدث لغتهم ويفهم طباعهم وتقاليدهم ويحترمها.

ولا شك في أن الصديق السوداني الذي رافقني في هذه الرحلة الى كرمة قد لخص ما يدور في خاطر عامة الناس بالمنطقة ممن عاشروا شارل بوني أو سمعوا عنه في هذه الجملة: “إن من واجبنا إقامة تمثال لهذا الرجل لما قدمه للمنطقة من خدمات جليلة”.

كما أن إعداد هذا التحقيق الصحفي كان فرصة بالنسبة لي للتعرف على واقع فئة من مكونات الشعب السوداني وعلى طيبة أخلاق أبنائها وكرمهم. إذ أن الأيام التي قضيتها بين أفراد عائلة الحاج يوسف في كرمة سمحت لي بالتعرف على عادات وتقاليد أبناء النوبة التي لو وجدت الترويج الهادف لكانت أحسن وسيلة لتلميع صورة الشعب السوداني في الخارج.

شخصيا كنت محتارا في كيفية قضاء خمسة أيام بأيامها ولياليها في منطقة لا توجد فيها فنادق، لكن المفاجأة أنني وجدت أكثر من بيت يصر على استضافتي. فالشعب النوبي شأنه في ذلك شأن العديد من مكونات الشعب السوداني، يحسن فنون الضيافة إلى حد أن كل بيت يشتمل على حيز مخصص للضيوف بكل مقوماته ومرافقه. وهناك من ميسوري الحال في القرى من يوفرون ملجأ لعابر السبيل مزود بالفراش وماء الشراب بل حتى الوجبات الغذائية. ولا شك في أن ما يلفت الأنظار في منطقة صحراوية، التوفير المجاني للماء الصالح للشرب أمام كل منزل ودكان وهذا حتى في المناطق النائية جدا.

هذه القيم والتقاليد إذا ما أضيفت الى المعالم الأثرية التي يتم اكتشافها يوما بعد يوم في السودان، قد تجعل من هذا البلد وجهة مفضلة لكل محبي التعرف على مواطن الحضارة وعلى الشعوب الأصيلة، لكن التحدي الذي قد يواجه سكان المنطقة هو كيفية التوفيق بين متطلبات التنمية والانفتاح على السياحة الدولية دون مساس بكل هذه القيم والتقاليد التي ظلت صامدة لعشرات القرون.

محمد شريف

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية