مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

جوهرة شرقية مخفية في قلب جامعة فريبورغ السويسرية

المخطوطات العبرية والمسيحية والإسلامية تثري أيضا مجموعات المتحف. في خلفية الصورة نسخة توراة من اليمن عمرها 300 عام bible-orient-museum.ch

تزخر قاعة العرض الضيقة لـ "متحف الكتاب المقدس+الشرق" الفتي بكنوز تتشكل من حوالي 15 ألف قطعة فريدة من الشرق الأدنى القديم تقدر قيمتها بثمانية ملايين فرنك، من بينها ثالث أكبر مجموعة في العالم من التمائم والجعارين المصرية.

خصوصية المتحف الذي لا يجلب انتباه كثيرين تتجسد أيضا في أهدافه، لعل أبرزها التذكير بالجذور المشتركة بين الديانات السماوية الثلاث وتشجيع الحوار بينها، مثلما يؤكد مديره توماس شتاوبلي الذي أرشدنا في رحلة اكتشاف “قطعة من كنعان” في فريبورغ..

لـ “متحف الكتاب المقدس+الشرق” مكتب متواضع جدا بمعهد الدراسات التوراتية بجامعة فريبورغ، وهو ينظم نوعيات ثلاث من المعارض: المعرض القار داخل قاعة عرضه الصغيرة والأنيقة التي دشنت في شهر نوفمبر من عام 2005، والتي تتوفر على ست واجهات زجاجية وسبعة وخمسين درجا لا تتجاوز مساحة العرض الإجمالية فيها ستين مترا مُربعا، ومعارض خاصة تنظم في أروقة المعهد الذي يحتضنه، ثم المعارض المتنقلة التي تسافر بقطع المتحف إلى مدن داخل سويسرا وخارجها.

بداية الجولة مع مدير المعهد وأستاذ العهد القديم في جامعة فريبورغ توماس شتاوبلي كانت في أروقة معهد الدراسات التوراتية حيث ينظم المتحف إلى 31 ديسمبر 2011 معرضا خاصا بعنوان “ألف تميمة وتميمة” يستعرض مجموعة مثيرة من الأختـام الأسطوانية والمسطحة والجعارين المصرية القديمة، وتمائم من فلسطين عمرها 3700 عاما، وأخرى من إيران وسوريا من الألفية الخامسة والسادسة قبل الميلاد.

تمائم بأشكال وألوان شتى، وسرعان ما تقع العين على اللون الفيروزي (التوركواز) الشهير للتمائم التي كان المصريون أول من أنتجها بالجملة، وعلى قلادات نسائية ألهمت بالتأكيد مُصمّمي الحلي الذي تتزين به المرأة في عصرنا هذا. 

ويقرأ الزائر من خلال شاشات موضوعة في خلفية الواجهات معلومات عن الكيفية التي اخترع بها المصريون قوالب إنتاج التمائم والمواد التي كانوا يستخدمونها، من كوارتز وملح وفوسفات النحاس…

للقدامى تمائمهم وللإنسان المعاصر تمائمه!

وما يلفت الانتباه على الفور لدى تأمل الواجهة الزجاجية الأولى هو الربط المُتعمّد بين التمائم القديمة وما يمكن تسميته بـالتمائم المعاصرة: على اليسار، نوع عتيق من النقاب المزخرف المزين بالتمائم والقطع النقدية المكتوب عليها اسم الله، (انظر معرض الصور المرافق)، وعلى اليمين مجموعة من أدوية العلاج الوهمي (بلاسيبو) الحديثة. الهدف من هذه الموازاة هو إقامة الدليل على أن اعتقاد حماية الجسد وطمأنة النفس بالتميمة ليس مجرد تقليد أكل عليه الدهر وشرب، بل هو تواصل بدون انقطاع على مدى خمسة وخمسين قرنا؛ من مصر القديمة إلى الشرق وبلاد ما بين النهرين إلى عصرنا هذا. وهذا هو الجسر الذي يحرص المعهد باستمرار على بنائه مع الشرق.

البروفيسور شتاوبلي الذي درس اللاهوت في فريبورغ وفي القدس أيضا، قال في هذا السياق: “ما نشرحه للزوار هو أن التميمة تسمى أيضا “الحجاب” في فلسطين والنجف (ومناطق عربية أخرى)، ووظيفتها هي الحماية. فالأحجار الثلاثة التي تزين يسار هذا النقاب المزخرف تحمي المرأة من الجانب الذي لا يمكن أن ترى منه، والقطع النقدية الصغيرة تحميها أيضا لأن فيها اسم الله (…)، وفي مجتمعنا نحمي أنفسنا أيضا، ولكن بطرق أخرى، لدينا تمائم عصرية مثل أدوية العلاج الوهمي، فقد أقيم الدليل على أن لديه مفعول على الجسد إذا آمن الشخص بأنه دواء حقا، مثل التميمة بالضبط”.

ومن أمثلة التمائم المعاصرة الأخرى التي يستشهد بها البروفيسور شتاوبلي ساعات اليد التي نحملها اليوم حيث كانت توضع التمائم في الماضي. فهي أيضا “تحمينا” بشكل ما من عدم الإلتزام بالوقت، مثلا. وينتقل بنا إلى واجهة في بهو بالطابق الأسفل من المعهد تظهر بأن اليهود والمسيحيين والمسلمين يستخدمون نفس التمائم، مثل العين واليـد والحجابات المكتوبة. ويقول معلقا على محتويات الواجهة: “نريد إظهار الصلة بين هذه الديانات لأن هنالك جذور مشتركة بينها، كل هذه التمائم تأتي من دكتور كانت له عيادة طبية في سويسرا قبل خمسين عاما وكان يستخدمها لعلاج المرضى، فكان مثلا يضع “يد فاطمة” على بطن السيدات اللاتي كن يعانين من مشاكل للإنجاب”.

لماذا الكتاب المقدس والشرق؟

ومن بهو الجامعة ننتقل إلى قلب المتحف: قاعة العرض الصغيرة تلك بواجهاتها وأدراجها المضاءة حيث يوجد الجزء الأكبر من مجموعات المتحف التي تقدر قيمتها بـثمانية ملايين فرنك، والتي تنقسم إلى أربع فئات: مصر القديمة، والشرق الأدنى، والعالم الهلينستي، والمخطوطات.

إبراز نسخ من التوراة والإنجيل والقرآن، وتسليط الضوء على آلهة وآلهات المصريين القدامــى التي تم تجسيدها بأشكال مختلفة، بشرية وحيوانية ومختلطة، يدعو الزائر إلى السفــر عبر الزمن لاكتشاف حكايات القطع المعروضة في منطقة من العالم يريد المتحف “تكريمها”.

ويقول البروفيسور شتاوبلي: “لا نتحدث تقريبا عن الثقافة بين بلاد الرافدين والنيل، وهي كنعان، كانت حضارة رائعة أنتجت أشياء عديدة مازلنا نستفيد منها إلى اليوم مثل الحروف الأبجدية، التي اخترعت من قبل الكنعانيين، وتدجين الحيوانات، من ماعز وخرفان وحمير، هو إسهام هذه الثقافة. ونحن ندرس الكتاب المقدس (العهدان القديم والجديد) في سياقه، وليس كمجرد نص مقدس نزل من السماء”.

ويحرص المتحف على ما يسميه “الكنائسية العمودية” التي تربط المسيحيين والمسلمين باليهود والتي تربط الأديان الثلاثة بتراث كنعان. ويشرح البروفيسور شتاوبلي ضمن هذا السياق أن الحوار والنقاشات بين الأديان حول طاولة مستديرة من دون الإلمام بمعطيات التاريخ وما أدى إلى النزاعات أو الجروح بين الديانات “ليست بنقاشات صادقة”.

ويستطرد قائلا: “نقصد بـعبارة “عمودية” التاريخ والذاكرة، فلكل ثقافة ذاكرتها الخاصة، والجروح التي شهدتها الديانات مهمة للغاية، ونحن نتذكر أشياء وننسى أشياء أخرى. فاليهودية مثلا هي أم المسيحيين، ولكننا نحن المسيحيون تصدينا بقوة لليهود، وتواصلت معاداة السامية بصورة مروعة في المسيحية إلى القرن العشرين، مما أدى إلى ظهور أماكن مثل أوشفيتس. ما يعني وجوب تصحيح هذه الذاكرة وهذه العلاقات”.

“آمل أن يغير المتحف رؤية الزوار للشرق”

ويرى الدكتور شتاوبلي أن لوسائل الإعلام أيضا دور لا يُستهان به في عملية التصحيح تلك مشيرا إلى ما وصفه بتقصير “وسائل الإعلام المُعلمنة تماما” في سويسرا في تغطية أحداث يراها في غاية الأهمية. وذكر في هذا السياق موقف “مجلس الأديان” (هيئة مستقلة تضم ممثلين عن الديانات الإبراهيمية الثلاث في سويسرا) الذي سارع إلى معارضة مضمون مبادرة حظر بناء مآذن شديدة التي أطلقتها أطراف من اليمين الشعبوي في سويسرا في عام 2008 وحصلت في العام الموالي على دعم الناخبين.

وقال معلقا على ذلك “التجاهل”: “كانت التغطية ضعيفة جدا، لم يُجرُوا لقاءات مع مسؤولين عن مجلس الأديان (…) قلة قليلة من الناس لديها معرفة أو اهتمام بالدين. أرى اليوم وجود توتر بين من لا يزالوا يهتمون بالدين ويواصلون اتباع تقاليدهم، والذين فهموا أنه ثراء وشكل من أشكال التعبير والتفكير، وأولئك الذين انسلخوا عن تقاليدهم وأحدثوا قطيعة معها. ولكن من نكون نحن من دون تقاليدنا؟”.

ويستطرد شتاوبلي قائلا: “بالنسبة لي، ليس من المهم أن يكون من يهتم بالتقاليد مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، المهم أن يكون هنالك شخص يهتم بها، وإلا فلن نستطيع النقاش والعالم العلماني فقير في رأيي من دون حكايات التاريخ (…) إن التضامن مع المضطهدين شيء أكيد وضروري في تقاليد الديانات. على هذا المنوال يمكن أن نواصل ونخلق قوة جديدة في وجه عالم أناني تماما يفكر فقط في الربح في هذا العالم المعولم حيث باتت المصارف المالية تسيطر على كل شيء عوض الرب”.

البساطة: في أرض الكتاب المقدس (العهدان القديم والجديد)، تم اختزال نظم الكتابة المعقدة للحضارات العريقة المحيطة بها إلى الحروف الأبجدية التي لا تزال قيد الإستخدام. عبقرية البساطة هاته هي نموذج بالنسبة للمشرفين على المتحف.

أصالة: في عالم يميل إلى كل ما هو افتراضي، يظهر المتحف قطعا أصلية. مجموعات “الكتاب المقدس+الشرق” تحتوي على أكثر من 15000 قطعة فريدة من الشرق الأدنى القديم تم تجميعها على مدى أكثر من خمسين عاما في جامعة فريبورغ، منذ أواخر الستينات.

الذاكرة:  يُذكّر المتحف بجذور الثقافة الأوروبية المنحدرة من الشرق الأدنى والتي يتم استبعادها في كثير من الأحيان، وبأن النساء والرجال، حتى في شمال جبال الألب تعلموا القراءة والكتابة بفضل الكتاب المقدس.

البحث: تستند محاور المعرض على الحالة الراهنة للمعرفة في علوم الكتاب المقدس، وعلم الآثار، وتاريخ الفن.

الكنائسية (المسكونية): المتحف يشجع الحوار بين الأديان ويذكر بالكنائسية العمودية التي تربط المسيحيين والمسلمين باليهودية والديانات الثلاث بتراث كنعان.

(المصدر: الموقع الإلكتروني لـ “متحف الكتاب المقدس+الشرق).

أسهم ولع مدير “متحف الكتاب المقدس+الشرق” البروفيسور شتاوبلي بالعلاقات بين الأديان والثقافات وتجربته العلمية والحياتية في القدس إلى حد كبير في إثراء المتحف بعدد كبير من القطع القيمة، ليواصل عمل سلفه البروفيسور أوتمار كيل الذي درّس العهد القديم في جامعة فريبورغ من 1969 إلى 2002.

أوضح البروفيسور شتاوبلي أن المعهد تحصل على كافة القطع بعد اقتنائها أو تسلمها كهبات.

يفخر المتحف الآن بتوفره على ثالث أكبر مجموعة في العالم من التمائم والجعارين المصرية (بعد القاهرة ومتحف لندن)، التي تضم أكثر من 9000 قطعة، والتي اقتنتها جامعة فريبورغ بدعم من الكنفدرالية عام 1991.

كانت تلك المجموعة لجامع القطع السوري، العربي المسيحي فؤاد سليم معتوق الذي اضطر لتحويل مجموعته إلى سويسرا في عام 1976 بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت آنذاك في لبنان.

من أهم القطع التي يعرضها المتحف أثمن مجموعة خاصة سويسرية للأختام الأسطوانية والمسطحة التي وُهبت لجامعة فريبورغ من قبل إيريكا بيترز-شميدت، شقيقة رودولف شميدت الذي كان يحتفظ بها في كانتون سولوتورن.

الكاتب وعالم اللاهوت جوزيف فيتال كوب وهب لجامعة فريبورغ مجموعة استثنائية تضم أكثر من 200 قطعة نقدية إغريقية ورومانية.

 

في عام 2005، تم الإعتراف بالمتحف من قبل جمعية المتاحف السويسرية، وهو يمول أساسا من طرف المانحين الخواص، كما يتلقى 10000 فرنكا سنويا من جامعة فريبورغ.

 

للمتحف مشروع التنقل إلى برج هنري المجاور لجامعة فريبورغ، والذي يعود تشييده للقرون الوسطى، لكنه ينتظر تبرعات المانحين للإنجاز.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية