مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

رعى الله بونابرت…!

Keystone

عندما أحتل نابليون بونابرت سويسرا في الفترة بين 1798 و 1815 لم يأت خالي الوفاض، بل جلب معه نظام الديمقراطية المباشرة.

ورغم أن السويسريين أخرجوه من بلادهم بالقوة، إلا أنهم احتفظوا بهذا النظام، ليتحول إلى ميزة يفخرون بها إلى يومنا هذا.

سويسرا لم تولد فعلاً عام 1291 كما يحلو لبعض كتب التاريخ القول. ففي ذلك الحين، لم تكن تتمتع بخصائصها الرئيسية التي ميزتها ككونفدرالية.

كانت عبارة عن تجمع من ثلاث كانتونات يربط بينها ميثاق دفاع مشترك، بلا حكومة مركزية أو دستور، ويقع تحت سيطرة الإمبراطورية الألمانية، واللغة الوحيدة فيه هي الألمانية، ويخلو من أسس الديمقراطية المباشرة.

وفي الواقع، كان يخلو أساساً من أي روحٍ ديمقراطية.

ولدت الكونفدرالية فعلاً عام 1848 مع الدستور الذي وضع في نفس العام، وحدد أسس النظام الفدرالي والديمقراطية المباشرة التي تقوم عليها اليوم.

ديمقراطية… بالقوة!

أما مبادئ الديمقراطية المباشرة فقد تعرفت عليها سويسرا قبل هذا التاريخ، وإن كانت قد أُجبرت على فعل ذلك بالقوة.

حدث هذا مع احتلال قوات نابليون بونابرت للبلاد عام 1798، وإدخاله لعددٍ من الإصلاحات الديمقراطية، كان على رأسها مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، ومساواتهم في الحقوق السياسية، وفي الفرص المتاحة أمامهم.

وعلى الرغم من أن طرد المحتل الفرنسي عام 1815 أسفر عن مرحلة أُطلق عليها أسم “الإعادة”، والتي عنت عملياً مرحلة ردة نظراً لإلغائها القوانين الجديدة التي أستحدثها نابليون، إلا أن السويسريين وبعد حرب أهلية قصيرة، قرروا الأخذ بها من جديد في دستور عام 1848.

لم ينص ذلك الدستور إلا على صورة واحدة فقط من صور الديمقراطية المباشرة المتعددة، أي على المبادرة الشعبية (سيأتي تفصيلها فيما بعد)، أما الصور الأخرى فقد أدخلت على النظام السياسي في الأعوام 1874 و1891

ذاتُ الوجوه المتعددة…

كثيرا ما نستخدم مصطلح الديمقراطية المباشرة دون أن ندرك تحديدا فحواه، وأحيانا نتحدث عنه لنكتشف أن ما عنيناه لا يمت إليه بصلة. فما هي الديمقراطية المباشرة؟

هناك صور عديدة لهذا النظام، أولها وأكثرها عراقة وأصالة هو ما يمكن ترجمته بإسم “هيئة المواطنين” أو Landsgemeinde .

تجتمع الهيئة مرة كل عام في الساحة العامة الرئيسية للكانتون أو القرية، وتضم كل المواطنين الذين يحق لهم الانتخاب.

و تُعرض عليهم حينها كل القضايا المتصلة بحياتهم بدءا من “أين يجب بناء خط للمجاري” وانتهاء بقضايا “التعليم والسياسة الكبرى”، ليصوتوا عليها برفع الأيدي.

نمط نادر..

اجتماع الهيئة كما أشرنا يتم في الساحة العامة والناس وقوف، وفي حال هطول أمطار خفيفة فإنهم يعمدون ببساطة إلى فتح مظلاتهم، أما إذا كان المطر شديدا فإنهم يتحولون إلى قاعة عامة مغلقة.

ومن المعتاد أن يتم اللقاء في يوم أحد، وأن يشارك أحد أعضاء المجلس الفدرالي (الحكومة السويسرية) كضيف شرف في فعاليات اليوم المشهود، الذي يأخذ بعدا فلكورياً إلى حد كبير.

وكما هو واضح فإن هذه الصورة من الديمقراطية المباشرة تتطلب تجمعاً سكانياً قليلاً يمُّكن من اجتماعهم في ساحة عامة. لكن الزيادة السكانية المتصاعدة جعلت فعل ذلك امرأ صعباً إن لم يكن مستحيلا.

ولذا، لم يكن من المستغرب أن يتلاشى هذا الوجه من أوجه الديمقراطية المباشرة من حياة الكانتونات السويسرية.

إذ لا يوجد اليوم سوى كانتون واحد هو جلاروس الذي يمارسه، ومعه ثلاث أنصاف كانتونات هي أوبفالدين وأبنزلر أوسرهودين وأبنزلر إينرهودين.

ونمطان ممارسان!

هناك نمطان، يجسدان مفهوم الديمقراطية المباشرة، ويُعمل بهما في النظام السياسي السويسري، لكنهما يثيران عادة الكثير من اللبس بينهما. نعني بذلك المبادرة الشعبية والاستفتاء الشعبي.

يخلط البعض بين النمطين وهم على قناعة على ما يبدو أنهما لا يعبران في النهاية إلا عن نفس المفهوم. بيد أنهم مخطئون.

المبادرة الشعبية ببساطة هي عبارة عن دعوة لأجراء تصويت عام لتغيير بند في الدستور أو لاقتراح أي قانون جديد.

لكن قبول الدعوة يستلزم جمع المنظمين للمبادرة الشعبية لمائة ألف توقيع من المواطنين. متى ما تمكن المنظمون من فعل ذلك يتم تقديم المبادرة إلى الحكومة الفدرالية التي تحدد موقفاً تجاهها، ثم تمرر كلاً من المبادرة ووجهة نظرها إلى البرلمان.

يقوم البرلمان بعد دراسة رأي الجانبين إما بتقديم مقترح مضاد للمبادرة، أو (وهو الأغلب) عرضها بعد ذلك على الشعب السويسري للتصويت عليها إما بنعم أو لا.

الاستفتاء الشعبي في المقابل هو دعوة لرفض أو تعديل قانون أقره البرلمان.

على عكس الحال في الأسلوب الأول، يجب على المعارضين للقانون انتظار صدوره من قبل البرلمان. وخلال 100 يوم من إقراره يتحتم على المنظمين جمع 50 ألف توقيع.

وعند نجاحهم في ذلك يتوجب على الحكومة السويسرية عرض القانون (والموقف المغاير له) على الشعب السويسري في استفتاء شعبي.

أين منهم من نابليون؟

وجود هذين الأسلوبين، أو السلاحين الشعبيين إذا صح التعبير، أدي في تداعياته إلى إطالة أمد عملية إقرار القوانين إن لم يكن تعقيدها.

ذلك أن كافة الأطراف المعنية المشاركة في العملية السياسية تأخذ وقتها عادة في بحث ودراسة أي قانون يجب تمريره، بل تكاد تقتله تمحيصاً.

وهي في ذلك إنما ترغب في تفادي لجوء أي جهة معارضة إلى أي من السلاحين، والنتيجة تتمخض عادة عن “حلٍ وسط” مرضٍ لكافة القوى السياسية والشعبية.

أسلوب ديمقراطي مباشر صحيح، لكنه يختلف عن طريقة نابليون في فرض القوانين.

إلهام مانع – سويس إنفو

قبل احتلال نابليون لسويسرا وفرضه إصلاحاته الديمقراطية:
كان التعذيب بأسلوب مط الجسد على أدوات رهيبة شائعاً في نزع اعترافات المتهمين.
حرمت الطبقة الحاكمة الأرستقراطية في الكانتونات أغلبية السكان من حق التأهل لأي منصب أو الحصول على رواتب!
كان النظام الإقطاعي وعمل السخرة (إجبار الفلاح على العمل دون أجر) سائداً.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية