مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أمـريـكـا لـن تـتـرك الـعـراق؟!

يرى مراقبون أن أمريكا لم تدخل العراق لتخرج منه ببساطة، وحتى لو خرجت منه، فهي لن تتركه..؟ swissinfo.ch

كان الرئيس بوش واضحاً. فهو رفَـض وضع أي جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق. كما امتنع مرّتين عن دعم بيان كولن باول الأخير حول احتمال خفض القوات الأمريكية هناك قبل نهاية العام.

أما كيف يُـمكن للولايات المتحدة ألا تترك العراق، حتى ولو خرجت منه، فهذه مسألة تُتداولها النخبة الأمريكية منذ الآن.

هذا ما استنتجته صحيفة “واشنطن بوست” بعد مقابلة صحفية مع الرئيس الأمريكي، وهو استنتاج عزّزه هذا الأخير بتشديده على أن إعادة إنتخابه رئيساً “كان بمثابة تفويض له لمواصلة سياساته في العراق”.

هل يعني ذلك أن بوش حسم النقاشات الراهنة داخل إدارته حول الورطة العراقية، التي وصل بعضها إلى حدّ الدعوة إلى “فك الارتباط” ببلاد الرافدين؟

قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، ينبغي الإشارة إلى أن كلّ أو معظمُ الأطراف، الأمريكية والغربية، التي تحدثت مؤخّـراً عن ضرورة إعادة النظر في المقاربة الأمريكية الراهنة في بلاد ما بين النهرين، لم تدْعُ إلى “القطع والهرب”، ومن ثم الانسحاب من العراق على الطريقتين اللبنانية (1983) أو الصومالية (1993).

فبرنت سكاوكروفت، مستشار الأمن القومي في إدارة بوش الأب، الذي حذّر من البداية من مغامرة الغزو، اكتفى بدعوة بوش إلى “تهديد” الحلفاء الأوروبيين بالانسحاب من العراق لحفزهم على مساعدته هناك، أو إلى زيادة عديد القوات الى 500 ألف. وشيوخ الكونغرس ومسؤولو الخارجية، الذين طالبوا بوش بتغيير سياساته العراقية، لم يشيروا البتة إلى فكرة الانسحاب الشامل، بل طالبوا فقط بالبحث عن وسائل أخرى “غير تلك المتبعة”.

الآن، وحدها “فاينانشال تايمز” دعت إلى “بدء التفكير بالانسحاب”. لكنها مع ذلك، اشترطت أن يتم هذا ببُـطء وبطريقة ممنهجة، وبالتلازم مع تسليم فعاّل للأمن إلى القوات العراقية، ومع عملية سياسية شرعية وشاملة.

وقد لخصّ أنطوني كوردسمان، رئيس دائرة الإستراتيجيا في مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية في واشنطن هذه المناخات بالخلاصة البليغة التالية: “الولايات المتحدة تعتقد أنها لم تخسر العراق، بل خسرت فقط إستراتيجيتها فيه”.

رهانات كبيرة

ماذا تعني هذه المعطيات؟ أمران إثنان. الأول، أنه ليس في وارد إدارة بوش الجمهورية المحافظة (ولا حتى إدارة جون كيري الديمقراطية الليبرالية لو تم انتخابها) أن تترك العراق لمصيره. فالحسابات معقّدة للغاية، والرهانات كبيرة للغاية. وهذه بعضها:

• نفطياً: السيطرة على العراق، الذي يمتلك الاحتياطي الثاني الأكبر بعد السعودية، هي جزء من خطة أمريكية عامة للهيمنة على كل نفط العالم، من جنوب شرق آسيا إلى غرب إفريقيا، مروراً بالطبع بنفط قزوين والشرق الأوسط. وبالتالي، خسارة بلاد العباسيين ستُـهدد بتداعي كل هذه الخطة.

• إستراتيجياً: العراق يُـفترض أن يكون منصّـة الانطلاق لإحكام القبضة على كل الشرق الأوسط الكبير الذي يضم إلى الشرق الأدنى كل منطقة وسط آسيا. والهدف: الإمساك بقارة أوراسيا من خناقها، ومحاصرتها من كل جانب، بهدف ضمان هيمنة الإمبراطورية الأمريكية.

• اقتصاديا: دمج الشرق الأوسط، عبر العراق، بالعولمة وإثبات قدرة الولايات المتحدة على أن تكون الشرطي المسلّح القادر على ضمان أمن الاقتصاد العالمي وتوسّـعه الدائم.

وبالطبع، كل هذه الأهداف ستتناثر كأوراق الخريف، إذا ما وضعت واشنطن عَـصاها على كاهلها، ورحلت عن العراق.

عودة الأربعينات

هذا عن الأمر الأول. أما الأمر الثاني، فيتعلق بحقيقة يميل البعض إلى القفز فوقها في تحليلهم للسياسات الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة، وهي أن حرب العراق (وقبلها حرب أفغانستان والحرب العالمية على الإرهاب)، لم تشكل قطيعة مع التاريخ الأمريكي، بل مثلت استمرارا لسلوكيات من نمط قديم تعود إلى النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، التي شهدت العديد من التدخلات الأمريكية السرية والعلنية (انظر “معلومات أساسية” المرافقة لهذا المقال).

بعد نهاية الحرب الباردة، كان التوسّع العسكري الضخم للولايات المتحدة في العالم واضحا من خلال تزايد القواعد المنتشرة في كل أنحاء الكرة الأرضية.

فقد كتب تشارلمرز في مؤلفه “حسرات الإمبراطورية” أنه، وعلى عكس كل شعوب الأرض، معظم الأمريكيين لا يعرفون، أو لا يختارون أن يعرفوا، بأن الولايات المتحدة تُـهيمن على العالم من خلال قوتها العسكرية. وبسبب السرّية التي تعمل بها حكومتهم، فإنهم يجهلون الحقيقة بأن هذه الأخيرة تحتل الكرة الارضية، ليس لديهم علم بالشبكة الواسعة من القواعد العسكرية الأمريكية في كل القارات، عدا أنتارتيكا (قارة القطب الجنوبي).

ويضيف إلى ذلك الباحثان الامريكيان، جون فوستر وروبرت ماكينزي أن “الأهداف الرئيسية للولايات المتحدة كانت دوما فتح فُـرص الاستثمار أمام الشركات الأمريكية، والسماح لها بنيل مداخل تفاضلية إلى الموارد الطبيعية الحاسمة. وكلما عزّز مثل هذا التوسّـع الهيمنة الأمريكية، كلما زادت القدرة التنافسية للشركات الأمريكية ومعها الأرباح”.

وبرغم النفي من أعلى المستويات الأمريكية لفكرة أن “الباكس أمريكانا” (السلام الأمريكي) سيُـفرض بقوة السلاح، إلا أن هذه الفكرة ذاتها باتت الهدف المفضل لأولئك الذين يحاولون تبرير ما كان يوصف بالامبراطورية الامريكية الحميدة.

وهكذا، في كتابه الشهير “باكس أمريكانا” الذي نُـشر للمرة الأولى عام 1967 خلال حرب فيتنام، وصف رونالد ستيل بإستفاضة: “تلك الإمبريالية الحميدة للباكس أمريكانا المتميّـزة ببناء الإمبراطورية من أجل أهداف نبيلة، لا لأهداف الربح والنفوذ”. وثمة فصل في الكتاب حول المساعدات الخارجية بوصفها “عنصرا من عناصر الإمبريالية، عنوانه عبء الرجل الأبيض”.

هذه الأفكار الإمبريالية الواضحة، التي قمعت وأدينت إلى حد كبير في الولايات المتحدة بعد هزيمة فيتنام، طفت على السطح مُجددا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، التي أضحت تتميّـز بالحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق، وبحرب دائمة بقيادة الولايات المتحدة ضد الإرهاب.

ومرة أخرى، عادت الدعوات في الإدارة الأمريكية لـ “الدفاع عن الباكس أمريكانا”، وعادت حتى تلك الصّـيحات القديمة حول تحمّـل “عبء الرجل الأبيض”، وهذا يعني أن فكرة الإمبراطورية الأمريكية، لم تختف بعد هزيمة فيتنام، وأن الزخم الدافع لها بقي على حاله.

كل ما في الأمر، أن واشنطن تمسّـكت بعد فيتنام بإمبراطوريتها بانتظار فرص جديدة للتوسّع. وقد ضربت الإمبراطورية مُجددا بالفعل، في السبعينيات والثمانينيات مع الرئيسين، كارتر وريغن. ثم جاء الانحدار السريع للاتحاد السوفييتي، ليفتح أمامها الطريق لشن تدخّـلات عسكرية شاملة في الشرق الأوسط.

هل اتضحت الصورة الآن؟

أمريكا لم تدخل العراق لتخرج منه ببساطة. وحتى لو خرجت منه، فهي لن تتركه. فهو ثمين في حد ذاته نفطياً وإستراتيجياً، وكلّـفها حتى الآن أكثر من 200 مليار دولار، ومئات القتلى والجرحى، كما أنه جزء من لوحة إستراتيجية أثمن يتعلق بها، ليس مصير الزعامة الأمريكية، بل حتى مصير معيشة الأمريكيين أنفسهم، بعد أن تحوّلت بلادهم من أكبر مُـنتج إلى أكبر مُستهلك في العالم.

أما كيف يُـمكن للولايات المتحدة ألا تترك العراق، حتى ولو خرجت منه، فهذه مسألة تُـداعبُـها النخبة الأمريكية الآن، إما بالحديث عن تقسيم العراق بهدف تسهيل السيطرة عليه، أو بحديث آخر عن حرب أهلية تؤدّي إلى هذا التقسيم.

سعد محيو- بيروت

التدخلات الأمريكية السرية والعلنية منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي:
الصين (1945)
اليونان (1947- 1949)
كوريا (1950- 1953)
إيران (1953)
غواتيمالا (1954)
إندونيسيا (1954-1973)
لبنان (1958)
الكونغو (1960-1964)
كوبا (1961)
إندونيسيا (1965)
جمهورية الدومينيكان (1965- 1966)
تشيلي (1973)
أنغولا (1976- 1992)
لبنان (1982- 1984)
غرانادا (1983-1984)
أفغانستان (1979- 1989)
السلفادور (1981- 1992)
نيكاراغوا (1981- 1990)
باناما (1989- 1990)
العراق (1991)
الصومال (1992-1994)
هاييتي (1994)
البوسنة (1995)
يوغوسلافيا (1999)
أفغانستان (2001- إلى الآن)
العراق (2003 – إلى الآن)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية