مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

إلياس إسعيد: الفلسطينيون المسيحيون شركاء في الوطن وليسوا مجرد أقلية

عـُرفت أرض فلسطين منذ القدم بانها مهد الاديان والطوائف والمذاهب المختلفة، فهل تنجح هذه المنطقة في الحفاظ على التسامح والتعايش بين أبنائها؟

"الخطر الذي يتهدد المسيحيين في الأراضي الفلسطينية هو الخطر نفسه التي يواجهه كل فلسطيني وكل شعوب المنطقة، وهو غياب السلام، واختلال موازين العدل، وانعدام الاستقرار".

بهذه الكلمات المنسوبة إلى بطريرك القدس ميشال صباح المعروف بمناهضة الاحتلال، ودعوته إلى التعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين وفي المنطقة بصفة عامة، صدّر الدكتور إلياس إسعيد، رئيس الجمعية الخيرية الأرثوذكسية ببيت ساحور، وأمين سر مجلس المؤسسات الأرثوذكسية في فلسطين دراسته المعنونة “المسيحيون الفلسطينيون، حقائق وأرقام وتوجهات”، عرض نتائجها لأول مرة خلال أمسية ثقافية نظمتها جمعية الجالية الفلسطينية بسويسرا يوم 6 يونيو 2009، بالعاصمة الفدرالية السويسرية، برن.

ويكتسي هذا البحث أهمية كبرى في لحظة يزداد فيها الحديث عن “المضايقات التي يتعرض لها المسيحيون في الشرق الأوسط”، ويتزامن مع دعوة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، خلال خطابه بجامعة القاهرة بداية هذا الشهر، إلى إنصاف المسيحيين في البلدان العربية كالأقباط في مصر، والموارنة في لبنان.

أما في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد توجهت الأنظار إلى المسيحيين منذ فوز حماس بالانتخابات التشريعية يناير 2006، وربطت دوائر كثيرة هجرتهم من الأراضي الفلسطينية، بشعورهم بالتمييز.

وتمتاز هذه الدراسة بطابعها العلمي إذ تستعيض عن الكلام الإنشائي بالإحصاءات والأرقام والحقائق التي لا تقبل جدلا لتكشف عن عمق ترابط الشعب الفلسطيني بكل دياناته وطوائفه، ولتثبت الإندماج الكامل للمسيحيين في النسيج الاجتماعي المحلي، على المستويات كافة.

التمسك بالإنتماء الفلسطيني

على خلاف ما تروّج له بعض الدوائر مثلا، تشدد الوثيقة على “أن المضايقات التي يتعرض إليها المسيحيون الفلسطينيون مصدرها الاحتلال، وليس المؤسسات الفلسطينية. ويضيف الدكتور إسعيد بفخر واعتزاز: “المسيحيون الفلسطينيون جزء من المجتمع ومن السلطة، وهم أبناء الوطن، جذورهم ضاربة في تربته، ولا يعتبرون أنفسهم جسما غريبا، كما يرفضون وصفهم بالأقلية، حتى وإن مثلوا واحد ونصف بالمائة من الشعب الفلسطيني”.

يتوجه السيد إسعيد بخطابه إلى المطالبين بالإنصاف والعدالة للمسيحيين في الشرق الأوسط: “نحن نرفض تدخّلكم في شؤوننا، أو توظيف ملفنا لأغراض مشبوهة. نحن نستمدّ قوتنا من الشارع العربي، ومن إخوتنا المسلمين، ومن ثقافتنا العربية ولغتها لغّة القرآن”.

وبدلا من ذلك يدعو المجتمع الدولي إلى “مطالبة إسرائيل بهدم الجدار العنصري، ورفع الحواجز التي تمنع المسلمين والمسيحيين من أداء طقوسهم الدينية في القدس”. وبيّن إستطلاع للرأي أجراه صاحب الدراسة أن 60% من المسيحيين الفلسطينيين يعرّفون أنفسهم بأنهم فلسطينيون عرب، وأن 30% فقط يقدمون انتمائهم الديني عن انتمائهم الوطني.

المشاركة السياسية

هذه الدراسة ترفض الإدعاءات التي تذهب إلى القول ان المسيحيين الفلسطينيين مضطهدون في الأراضي المحتلة، ويقول إلياس إسعيد: “نحن نتمتع بحرية كاملة، وننتقد سياسة السلطة حين نرى أنها خاطئة، وليس هناك من يضايقنا أو يعتدي علينا، بل أستطيع القول انه توجد لدينا حقوق وامتيازات تتجاوز بكثير ما هو متاح لإخوتنا المسلمين على الرغم من قلة عددنا في الشارع الفلسطيني”.

ولا يبدو هذا الكلام بعيدا عن الصواب إذا علمنا الحضور القوي للمسيحيين في المؤسسات السياسية الفلسطينية، وفي منظمة التحرير نفسها، إذ يوجد في الأراضي المحتلة 10 رؤساء بلديات، و10 موظّفين كبار في مكتب رئيس السلطة الفلسطينية، و7 سفراء للسلطة، ووزيران بحكومة رام الله، وفاز 7 أعضاء مسيحيون بمقاعد في البرلمان الفلسطيني الأخير الذي عطّل عمله الصراع بين فتح وحماس.

ويكفي الإشارة على أن أزيد من 20% من مجموع المسيحيين الفلسطينيين ينتمون إلى أحد الأحزاب القائمة، في حين تنشط نسبة كبيرة منهم من داخل مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، حيث نجد في الأراضي المحتلة 575 منظمة مسيحية غير حكومية.

ويدفع صاحب الدراسة بالقول أن المسيحيين موجودون في جميع الأحزاب الوطنية، ومنهم عدد من الشهداء، وأن أغلب مؤسسي الحركات الثورية الفلسطينية الممثلة داخل منظمة التحرير الفلسطينية هم من أصل مسيحي، كنايف حواتمه، وجورج حبش، وسليم نصّار، وحنان عشراوي.

هذا بالإضافة إلى أن عشرات من الكتاب والشعراء والقصاصين قد رووا بكتاباتهم شجرة الوعي الفلسطيني، وساهموا بفعالية في الحفاظ على الذاكرة الوطنية، وفي نقد العقلية الصهيونية، كالمؤرخ الفقيد إدوارد سعيد، والشاعر سميح القاسم.

البحث عن حياة أفضل

على الرغم من أن 50% من الشعب الفلسطيني نازحون في الداخل، أو لاجئون في الشتات، لا نجد من بين هؤلاء مسيحيون، ويعود هذا الأمر إلى أن المسيحيين الذين فرّوا من أراضي 48 إلى الضفة الغربية أو إلى الأردن، انتقلوا للعيش في أوروبا أو في أمريكا نتيجة تسهيلات قدمتها لهم الكنائس الغربية. أما الذين استمروا في العيش داخل الأراضي الفلسطينية، فيجدون الدعم والعون من العديد من الدوائر والمنظمات الدولية.

ومقارنة بسيطة بين نسب البطالة العالية في المجتمع الفلسطيني، ونسبة التشغيل في صفوف المسيحيين تكشف الفارق الكبير بين الوضعيْن. فنسبة 30% من المسيحيين يعملون في شركات خاصة، و30% في منظمات تابعة للكنيسة، و13% في هيئات رسمية للسلطة الفلسطينية، و10% في منظمات غير حكومية، و9% في منظمات دولية.

وتنعكس نسبة التشغيل العالية هذه على مستويات الدخل التي تعتبر أيضا عالية جدا بالمقارنة مع ما هو معروف عن تدني دخل أبناء الشعب الفلسطيني، ويكفي أن 80% من المسيحيين الفلسطينيين يتجاوز الدخل السنوي للواحد منهم 2000 شيكل، ويمتلك 75% منهم محل سكن خاص.

ورغم هذه الامتيازات، ما فتئ عدد المسيحيين في الأراضي المحتلة يتناقص بسرعة كبيرة، خاصة منذ اندلاع الإنتفاضة الثانية سنة 2000. ويقول 32% منهم إنهم اضطروا إلى الهجرة بحثا عن الأمن والإستقرار، و26% من أجل تحسين أوضاعهم المادية، في حين برّر آخرون ذلك بالبحث عن فرص لتعليم أبنائهم في مؤسسات علمية متقدمة. ولا يتعدى معدل الذين اضطروا إلى الهجرة بسبب التمييز الديني 0.8%.

ولإيقاف حركة النزوح هذه، تنشط العديد من المؤسسات الدينية والخيرية في تقديم العون للشباب المقبلين على الزواج، وإسناد منح للطلاب الراغبين في الدراسة في الجامعات الاجنبية، وتقديم الرعاية الطبية للمرضى وكبار السن، وتوفير فرص عمل تدر دخلا قارا للمحتاجين.

ورغم أهمية كل ذلك، يؤكد السيد إلياس إسعيد أن إيقاف هذا النزيف المسيحي يتطلب “تعزيز الوعي السياسين وفتح باب المشاركة واسعا أمام هذه الطائفة في الحياة العامة الفلسطينية، وكذلك تشجيع الحوار الثنائي الشفاف والنزية بين المسلمين والمسيحيين، وجسر الهوة بين الكنيسة والأجيال الشابة، والعمل يدا بيد مع جميع فئات المجتمع الفلسطيني على إنهاء الاحتلال”.

عبد الحفيظ العبدلي – swissinfo.ch

الدكتور إلياس إسعيد طبيب أسنان فلسطيني مسيحي له عيادة ببيت لحم، وهو أيضا رئيس الجمعية الخيرية ببيت ساحور، وأمين سر مجلس المؤسسات الأرتدوكسية في فلسطين، وعضو مؤسس في شبكة المؤسسات المسيحية في فلسطين، وهذه الشبكة عبارة عن تحالف بين جميع المؤسسات المسيحية العاملة في الأراضي الفلسطينية، وفي إطارها تجتمع تلك المؤسسات لتضع السياسات والإستراتيجيات للعمل المشترك بينها.

الدراسة التي أنجزها إلياس إسعيد دراسة موثّقة ومعمقة لأوضاع المسيحيين في الأراضي الفلسطينية، ورصد دقيق لحالاتهم الإجتماعية ولتوزعهم الجغرافي والديمغرافي، ولنسبة مشاركتهم في السلطة الوطنية الفلسطينية وفعاليتهم على مستوى المجتمع المدني بالإضافة إلى شبكة الهيئات والمؤسسات الأهلية التي ترعى شؤونهم وتأطر أنشطتهم.

تعنى هذه الشبكة من المنظمات الخيرية أيضا ببذل الجهود الممكنة لتقديم الدعم الإجتماعي للعائلات المسيحية الفقيرة، وللشباب المقبلين على الزواج، وذلك بهدف توفير ظروف ملائمة حتى لا تضطر تلك الأسر إلى الهجرة إلى البلدان الأوروبية أو القارة الامريكية بحثا عن ظروف أفضل.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية