مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

حوافز لتعزيز الديمقراطية بدل “الإتحاد من أجل المتوسط”

مع اندلاع ثورات الربيع العربي، أجبر الإتحاد الاوروبي الذي كان يدعم الإستقرار والأنظمة القائمة على إعادة النظر في سياساته تجاه بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط AFP

من سخرية الأقدار أن أوروبا قررت دفن "الإتحاد من أجل المتوسط" بلا مراسم جنائزية في الذكرى الرابعة لتأسيسه، إذ اتفقت الدول الأكثر وزنا على غلق هذا الملف، لكن من دون التخلي عن المشاريع القطاعية التي تم بعثها في إطاره.

فرنسا، الأم الشرعية للإتحاد وصاحبة مبادرة تأسيسه في باريس في 13 يوليو 2008، هي التي بادرت هذه المرة بإطلاق رصاصة الرحمة عليه بعدما عاينت أنه في حالة موت سريرية منذ أكثر من ثلاث سنوات، لا بل منذ انطلاقه.

وقال وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس بالعبارات الدبلوماسية التي يقتضيها التعاطي مع مسألة دقيقة كهذه، إن “الإتحاد من أجل المتوسط” انطلق من طموح سخي لكنه غير موفّق. وعزا ذلك إلى أنه “لم يكن من الواقعي محاولة الجمع بين بلدان ضفتي المتوسط في تجمّع واحد، انطلاقا من التوهم أنه بالإمكان تجاوز الخلافات والإختلافات وحتى النزاعات التي يمكن أن تندلع على ضفتي هذا البحر”، مضيفا بأن “طموح الإتحاد لم يستطع تجاوز العثرات الأولى، لكن يمكن استخدام جهازه الإداري الذي برهن على فائدته وأدار مشاريع تعاون ملموسة”.

التخلّي عن “الإتحاد من اجل المتوسّط”

ولا يعود تخلي فرنسا اليوم عن “الإتحاد من أجل المتوسط” إلى صعوبة عقد القمة الثانية للإتحاد فقط، والتي تأجّلت عدة مرات، وإنما للتغيير السياسي الذي حدث على رأس الدولة، حيث حل الإشتراكي فرنسوا هولاند محل اليميني نيكولا ساركوزي، الذي كان يعتبر “الإتحاد من أجل المتوسط” مشروعه الشخصي.

ويحمل الإيطاليون القناعة نفسها، التي مفادها أن الإتحاد ميت سريريا ولا بد من وضع حد لوجوده. وقالت وزيرة الخارجية الإيطالية مارتا داسو   Marta Dassuفي ندوة أكاديمية أقيمت أخيرا إن على أوروبا أن تراجع فكرة “الإتحاد من أجل المتوسط”، وتتخلى نهائيا عن المشاريع الإقليمية التي ثبت عقمها، وتعود إلى الإطار الثنائي، الذي يأخذ في الإعتبار خصوصية كل طرف، ويتيح بالتالي تحقيق تقدم سريع في تسوية المسائل الخلافية.

أما الألمان فكانوا غير مقتنعين بالمشروع ولا متحمسين له منذ البداية، وردا على ساركوزي الذي كان يعتزم جعل الإتحاد مقتصرا على البلدان المحيطة بحوض المتوسط، أصرّت المستشارة الألمانية إنغيلا مركيل على ان تكون جميع البلدان الأعضاء في الإتحاد الأوروبي أعضاء في الإتحاد المتوسطي.

كما اشترط شركاء فرنسا الأوروبيون عدم تخصيص موازنات واعتمادات له، ورفضوا خاصة إنشاء هيكل بيروقراطي لإدارته. لكن ما فتئت حرب “الرصاص المسكوب” التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة بين أواخر 2008 وبداية 2009 أن سددت ضربة قوية للمشروع، مُعيدة عقارب الساعة إلى أجواء تعطل مشروع برشلونة الأورومتوسطي.

تحديات الربيع العربي

أتى الربيع العربي ليضع الحكومات الأوروبية أمام تحد من نوع جديد، فرضته عليها الإنتفاضات الشعبية، بعدما دعمت لعقود طويلة أنظمة حليفة لها لكنها مكروهة من شعوبها. وبعد اضطراب المواقف الذي كشف مخاتلة بعض العواصم الغربية في بدايات الثورات، سارعت حكومات تلك العواصم إلى تأييد مطلب الديموقراطية، بل واعتبر وزير الخارجية الفرنسي الحالي لوران فابيوس أن “من المفارقات أن تبدي العواصم الغربية اليوم يقظة أعلى من تلك التي كانت تُعامل بها الأنظمة الإستبدادية السابقة”.

بعد ثورات الربيع العربي عاود الإتحاد الأوروبي النظر في سياسة الجوار الجديدة في مذكرة أعدتها المفوضية في أكتوبر الماضي تحت عنوان “حوار حول الهجرات والحراك البشري والأمن مع بلدان جنوب المتوسط”. وانطلقت تلك الحوارات ببلدين هما تونس والمغرب بشكل منفصل وفي نطاق الرؤية الجديدة التي تعتمد على الحوار الثنائي بدل الأطر الجماعية الإقليمية.

وهذا لا يعني إلغاء جميع الأطر المشتركة السابقة فاجتماعات 5 زائد 5 التي تقتصر على بلدان الحوض الغربي للمتوسط، مستمرة وإن بفعالية محدودة، لأن الجانب الأوروبي يُعوّل عليها كثيرا في درس الملفات الخاصة بالأمن وتنظيم الهجرة باعتبارها تجمع الدول المعنية مباشرة بهذه الملفات.

تونس والمغرب

في الحالة التونسية (المُعبرة بامتياز عن التغيير الذي طرأ على تعاطي الاتحاد مع الشعوب في الضفة الجنوبية للمتوسط)، أطلق الإتحاد مفاوضات جديدة اعتبارا من يناير 2011، أي الشهر الذي أبصر انتصار الثورة، من أجل وضع خطة عمل جديدة تستند على “الشراكة المتقدمة” والتي أخفق الأوروبيون في تحقيقها مع نظام الرئيس السابق بن علي.

وقال نائب سفير الإتحاد الأوروبي في تونس ديرك بودا لـ swissinfo.ch: “إن خطة العمل تتعلق بالفترة الممتدة من 2012 إلى 2016”. وأوضح بودا أن الإتحاد رفع من قيمة هباته لتونس بعد الثورة من 80 إلى 140 مليون يورو، وهي مبالغ خصصت لدعم الإصلاحات السياسية والمساهمة في إنجاح المسار الإنتخابي وتعزيز المجتمع المدني. وكان لافتا للنظر أن سفارة الإتحاد الأوروبي أطلقت للمرة الأولى ما اعتبرته “استشارة واسعة للجمهور التونسي” تمثلت في استبيان عبر الإنترنت. وأوضحت من خلال أسئلة وجهتها إلى المُستجوبين عبر بريدهم الشخصي أنها ترغب في معرفة موقفهم من “الشراكة المتقدمة” بين تونس والإتحاد الأوروبي.

ويمكن القول إن الرؤية الأوروبية المعدلة بمفعول الثورات تجلت بوضوح في وثيقة مشتركة أصدرتها في 15 مايو 2012 مؤسسات صنع القرار في الإتحاد الأوروبي، ومن ضمنها البرلمان الأوروبي واللجنة الإقتصادية والإجتماعية الأوروبية، أطلقت عليها اسم “الوفاء بتعهدات سياسة الجوار الأوروبية الجديدة”.

وتعرض هذه الوثيقة على بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط تعاونا قائما على مبدأ “أعطي أكثر لأتلقى أكثر” يشمل دعما ماليا أهم وتيسير تنقل الأشخاص بين الضفتين وتحقيق تكامل اقتصادي بينهما، لكن بشرط إحراز البلد المعني تقدما في مجال حماية حقوق الإنسان وإنجاز إصلاحات ديموقراطية.

بهذا المعنى يعتقد الأوروبيون أن الشراكة المتقدمة في إطار صيغة ثنائية كفيلة بملء أي فراغ قد يتركه غياب “الإتحاد من أجل المتوسط”، خاصة أن الإستراتيجيتين تشتركان في التركيز على الملفات التي تقلق بال الأوروبيين وفي مقدمتها ملف الهجرة.

تركيز على الهجرة

لم يكن جديدا ربط الهجرة بالأمن، فالتصدي للمهاجرين الآتين من الضفة الجنوبية للمتوسط هو الهاجس الأكبر للأوروبيين، وهو أيضا قضية أمنية أولا وأخيرا في نظرهم. إلا أن بعض مراكز التفكير الأوروبية أو ما يسمى بـ think tanks تقترح علاجا مختلفا لهذه المعضلة، أسوة بمعهد “أيبيميد” Ipemed الذي أنشئ في اسبانيا في 2006، والذي يطرح مدخلا مغايرا لما يسميه بالوحدة الإقتصادية الأورومتوسطية، بمنح دور محرك للمؤسسة الإقتصادية في تكريس التكامل بين ضفتي المتوسط، مع توزيع جغرافي للإنتاج والسعي إلى إيجاد التوازن بين الشمال والجنوب.

ومن ضمن هذه الرؤية اقترح المعهد، الذي مضت خمس سنوات على إنشائه، التركيز على “هجرات نوعية” من خلال اتفاقات ثنائية تُبرم بين بلد مصدر من الجنوب وبلد أوروبي في المجالات التي يفتقد فيها البلد الأوروبي إلى كفاءات. وتعتمد هذه السياسة على إيجاد جوازات سفر خاصة بالكفاءات النوعية ورجال الأعمال والطلاب. ويقول مفكرو المعهد إن مثل هذا المدخل سيؤدي بعد فترة من الزمن إلى تكريس حرية التنقل بين الضفتين.

 لكن السياسة الرسمية الأوروبية مازالت بعيدة عن هذه الرؤية مثلما يتجلى ذلك في الوثيقة التي تحمل عنوان “من أجل حوار مع بلدان جنوب المتوسط حول تيارات الهجرة وتنقل الأشخاص والأمن”، الصادرة عن المفوضية الأوروبية في 24 مايو من السنة الماضية. 

أما في المجال المالي فاقترح معهد “أيبيميد” في مذكرة أصدرها الشهر الماضي بمناسبة الذكرى الخامسة لإنشائه، الإنتقال من منطق المساعدة إلى منطق الإستثمار والقروض طويلة الأمد وتعبئة إمكانات التوفير لدى المهاجرين في أوروبا من خلال إنشاء صندوق متعدد الأطراف وبنك متوسطي للتنمية. ولاحظ المعهد أن الطاقة هي المجال الإستراتيجي الأهم الذي يتجلى فيه ترابط المصالح بين أوروبا وجنوب المتوسط، وبناء على ذلك التداخل اقترح أن تكون الطاقة هي الحقل الأول للسياسة الأورومتوسطية المشتركة. ودافع المعهد عن مشاريع الطاقة الشمسية التي هي قيد الإنجاز وكذلك على إيجاد صندوق متوسطي للضريبة على الكربون تُستثمر أرصدته في تمويل إقامة مشاريع في الضفة الجنوبية للمتوسط، بالإضافة لاستكمال ربط الشبكتين الكهربائيتين في شمال المتوسط وجنوبه.

لكن على رغم أهمية الدور الذي تلعبه معاهد البحث ومراكز التفكير في صنع القرار الأوروبي فإن رؤية الإتحاد باتت اليوم واضحة ونهائية في الأمد المنظور، أقله إلى غاية 2016، وهي تقوم على دفن “الإتحاد من أجل المتوسط” بوصفه إطارا غير فعال للشراكة الإقليمية واستبداله بشراكات ثنائية كانت موجودة من قبل، إلا أنها ستُكثف في صلبها جميع الأبعاد والقطاعات مستقبلا استنادا على مبدإ “من يُعطي أكثر على صعيد الديموقراطية والحريات يغنم أكثر على صعيد المساعدات والإستثمارات”.

المحاور الستة للتعاون الإقليمي التي حددها الخبراء والوزراء في إطار “الإتحاد من أجل المتوسط” هي المياه والنقل والطاقة وحماية الآثار والربط الكهربائي وحماية البيئة. ومن الخطوات التي تم قطعها في المجالات الفنية إنشاء صندوق الإستثمار “أنفراميد”  Inframed الذراع التمويلية لمشاريع الإتحاد في مايو 2010. وخُصصت للصندوق اعتمادات حُددت بـ385 مليون يورو لتمويل المشاريع المقررة في إعلان باريس.

ومن المأمول أن يُتيح هذا الصندوق جمع رساميل من القطاع الخاص لتمويل مشاريع في البلدان الثلاثة والأربعين الأعضاء في الإتحاد. وأطلق هذا المشروع كل من الصندوق الفرنسي للودائع (الذي ساهم بـ150 مليون يورو) بالإشتراك مع صندوق الإيداع والإقراض الإيطالي (150 مليون يورو) وصندوق الإيداع والتسيير المغربي (20 مليون يورو) وهيرمس مصر (15 مليون يورو) والبنك الأوروبي للإستثمار (50 مليون يورو).

غير أن بعض المشاريع الأخرى التي أدرجت في إطار “الإتحاد من أجل المتوسط” تعثرت، وفي مقدمتها “الخطة الشمسية المتوسطية” الرامية لإنتاج 20 جيغاويت من الطاقات المتجددة في أفق 2020، ومشروع المياه المتوسطي الرامي لتنظيف البحر المتوسط من التلوث في الأفق نفسه. ولم يكن مصير “خطة النقل المتوسطية” الرامية لتشبيك الضفتين أفضل من المشروعين السابقين بسبب شح التمويلات، في ظل التوجس الأوروبي العام من تبديد الأموال في مشاريع وهمية. بل إن دائرة المحاسبات الفرنسية أنبت حكومة الرئيس السابق ساركوزي لأنها أنفقت على القمة التأسيسية للإتحاد التي استضافتها باريس في 13 يوليو 2008 أكثر من 16 مليون يورو.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية