مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الأردن: معركة “اختبار القوّة” بين الإعلام والبرلمان!

مقر البرلمان الأردني في العاصمة عمان

معركة طريفة وقاسية في آنٍ معاً تجري اليوم داخل الأردن بين الصُّـحف اليومية الأربعة، التي تشكِّـل الوزن الأكبر لقوّة الإعلام وسلطته، وبين مجلس النواب الأردني.

أدوات المعركة هي “السّلطة” التي يمتلكها كِـلا الطرفيْـن، التشريع والرأي العام. بدأت القصة عندما رفض مجلس النواب الأردني الأسبوع الماضي قانوناً مُـعدّلاً، تقدّمت به الحكومة لقانون “ضريبة الثقافة”، إلاّ أنّ البرلمان ردّ القانون المعدّل، بأغلبية كبيرة، وأصرّ على إبقاء قانون الثقافة، الذي أقرّه مؤخراً.

ما علاقة الإعلام بذلك؟ قانون الثقافة (غير المعدّل)، يتضمّـن ضرائب على الإعلام من قيمة الإعلانات، تصل إلى 5%، وذلك دعماً للثقافة، وهي نسبة ستأخذ سنوياً ملايين الدّنانير من ميزانية الإعلام وقد تؤدّي إلى الحدّ من الإعلانات وتهديد “الأمن الاجتماعي” لموظفي الصّـحف، ويخلق مبررّاً لمالِـكي بعضها من الاستِـغناء عن عاملين، بحجّـة الآثار الاقتصادية المترتِّـبة على القانون الجديد.

وبعد أن ثارت عاصفة إعلامية وسياسية، أعادت الحكومة تقديم مشروع قانون معدّل يُـلغي ضريبة الـ (5%)، وهو ما رفضه النواب وأصرّوا على إبقائها، لمُـعاقبة الصُّـحف اليومية، على ما اعتبره النواب هُـجوماً إعلامياً مُـبرْمجاً، يهدِف إلى “تسخيف السلطة التشريعية أمام الرأي العام”، و”إضعاف هيبة مجلس النواب وشعبيته”.

معارك سياسية ساخنة

لم يكتفِ النواب في جلستهم التاريخية بردّ القانون المعدّل، بل انهال بعضُـهم بالشتائم على الإعلام والكُتّـاب الصحفيين، واتهامهم بالتآمر مع الحكومة على المجلس، وأطلقوا أوصافاً غير مسبوقة عليهم كـ “الأقلام المأجورة” و”المسمومة”.

هجوم النواب المفاجيء وغير المسبوق شمل أيضاً مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية، المعروف بأنه صاحب الاختصاص الأول والخِـبرة والاحتراف باستطلاعات الرأي.

سبب الهجوم يتمثل في الاستطلاع الأخير الذي أجراه المركز، وتبيّن فيه أنّ نسبةً مرتفعة جداً من قادة الرأي العام يُـطالبون بحلّ المجلس الحالي وإجراء انتخابات مبكّـرة، فيما يفقد البرلمان شعبيته بصورة حرِجة لدى الرأي العام، والمُـفارقة الأكبر، أنّ الناس تثِـق بالإعلام بدرجة أكبر بكثير من مجلس النواب “المُـنتخب”!

بعد الجلسة النيابية الصاخبة، على الفور تداعى رؤساء تحرير الصّحف اليومية الرئيسية إلى اجتماع وقرّروا فيه إعلان مقاطعة جلسات مجلس النواب ورفْـع سقف المواجهة لقيادة حملة شعبية لإسقاط المجلس، والدّعوة إلى انتخابات مبكّـرة!

وشرعت الصحف بحملة إعلامية واسعة من خلال التقارير والمقالات والتحليلات السياسية ضد المجلس، متسلِّـحة باستطلاعات الرأي العام وبمزاج اجتماعي غاضب على المجلس وانشغاله بصلاحيات النواب واميتازاتهم، كما تُـشير الاستطلاعات، ووظّـفت الصُّـحف السلطة الرمزية الكبيرة التي بات يمتلِـكها الإعلام خلال السنوات الأخيرة في مواجهة المجلس.

الصحف اليومية، وفي سابقة أخرى، أسّـست موقعاً إلكترونياً للتّـصويت على سؤال “هل تؤيِّـد حلّ مجلس النواب وإجراء انتخابات نيابية مبكّرة؟”. ووُضع رابط السؤال على المواقع الإلكترونية للصُّـحف، وكانت المفاجأة الكُـبرى أنّ نسبة (95%) من المشاركين لا يؤيِّـدون استمرار مجلس النواب، في حين وصل عدد المشاركين إلى قُـرابة 150000 مشارك، وهو رقم قياسي بامتِـياز في دولة يبلغ عدد سكانها فقط خمسة ملايين شخص، في حين لا تتجاوز نسبة من يتعامَـلون مع الإنترنت فقط (25%) من السكان، أي ما يُـقارب مليون ونصف يستخدمونه بصورة أو بأخرى.

التّـراجع عن المقاطعة مع استمرار الحملة

لكن في تطوّر مفاجئ، أصدر رؤساء تحرير الصحف الأربعة بياناً قرّروا فيه التّـراجع عن مقاطعة جلسات المجلس مع استمرار الحملة الإعلامية ضدّه، وبرّروا قراراهم (غير المتوقع) بحق المواطن في متابعة جلسات المجلس، التي تتم فيها مناقشة مشاريع قوانين في غاية الخطورة، كقانون الضّـمان الاجتماعي وقانون المالكين والمستأجرين وقانون الضريبة، وهي قوانين تمسّ الأمن الاجتماعي والاقتصادي لكل مواطن.

يُـشير الكاتب والمحلِّـل السياسي، مدير تحرير صحيفة “العرب اليوم” اليومية في تصريح خاص لسويس أنفو، إلى أنّ الدّواعي المهنية هي السبب الرئيسي الذي يقف وراء العودة عن قرار المقاطعة، مع أنه لا ينفي “وجود وساطات كبيرة لإنهاء المقاطعة وضغوط مُـورست من عدّة جهات رسمية لوقف الحملة الهجومية على المجلس”.

غير أنّ السيد الحيطان يؤكِّـد بأنّ قرار العودة عن المقاطعة لا يعني انتهاء الحملة، بل هو تفعيل لها من خلال التغطِـية المِـهنية الإعلامية، وهي حقّ للمواطن والرأي العام.

المفارقة الكُـبرى في المعركة الحالية، تتمثل بموقف “الإعلام الإلكتروني”، الذي بدأ يأخذ دوراً كبيراً في الفضاء الإعلامي ويحظى بحضور كبير وتأثير ملحوظ على شريحة واسعة من الرأي العام والنخبة السياسية.

فقد قرّرت الصحف الإلكترونية، وفي مقدِّمتها موقع عمون المشهور، والذي يحظى بمتابعة كبيرة، عدم مقاطعة جلسات النواب، على خلاف الصحف اليومية.

أحد أبرز محرِّري الموقع والمسؤولين عنه، باسل العكور، قال في تصريحات خاصة لسويس أنفو، إنّ السبب في رأيه يعود إلى أن “قرار المقاطعة لم يكُـن حصيفاً، وهو غير مهني، فمن واجبنا نحن الإعلاميون أن نستمر في تغطية مجلس النواب، أما قرار المقاطعة، فهو الخيار أو السِّـلاح الأخير الذي يلجأ إليه الإنسان”.

واستغرب العكور قرار الصّحف بالقيام بمقاطعة كاملة لمجلس النواب، مع أنّ عدد النواب الذين تحدّثوا وأساءوا للمجلس، لا يتجاوز الأربعة أو الستة!

من الواضح أنّ الجسم الإعلامي لم يكن متَّـفقاً على قرار المقاطعة، وهذا – في رأي البعض- من الأسباب التي دعت إلى التراجع عن القرار، لكنه لا ينفي في الوقت نفسه أنّ قرار المقاطعة بحدِّ ذاته يُـمثل خُـطوة متقدمة للإعلام تعبِّـر عن شعوره بالقوة المعنوية التي وصل إليها، ليناكف وبقوّة السلطة التشريعية والرقابية في البلاد.

ما وراء الأزمة.. “برلمان تحت القصف”!

لم تولَـد الأزمة الحالية من فراغ، فقد سبقها مزاج نيابي محتقن تُـجاه الإعلام، يحمِّـل الأخير المسؤولية الكاملة عن التَّـدهور الذي أصاب صورة مجلس النواب خلال الفترة الأخيرة، إذ سلّطت الصحف والكتب الضوء على الامتيازت التي يحصل عليها النواب وعلى القضايا التي تثير الرأي العام ضد المجلس، ومنحت استطلاعات الرأي التي تؤكِّـد على وجود “أزمة شعبية” للمجلس الحالي، مساحات واسعة على صدر صفحاتها.

وكانت الأمانة العامة لمجلس النواب قد قامت بسابقة تاريخية، عندما رفعت قضية على الكاتب الصحفي خالد محادين، بعد أن كتب مقالاً نقدياً لاذعاً يُـطالب فيه بحلّ مجلس النواب بعنوان “مشان الله يا عبدالله” (المقصود هنا الملك عبد الله الثاني)، على صحيفة “خبِّـرني” الإلكترونية، وهي موقع إخباري مرموق.

المفارقة، أنّ المحكمة قرّرت تبرِئة الكاتب في حُـكم قضائي، اعتبره المراقبون تاريخياً، حيث منح القاضي الإعلامي حقّ انتقاد المسؤول ما دام في الموقع العام وفي حدود مسؤوليته القانونية والإدارية. بالرغم من ذلك، تمّ استئناف الحُـكم ضد محادين!

تبدو مشكلة المجلس الحالي في حالة “الشكّ” الكبيرة التي تُـثار حول شرعيته الدستورية، إذ جاء بانتخابات لم تحظَ بأي مِـصداقية وصدر في حقّـها حُـكم من المركز الوطني لحقوق الإنسان، وهو هيئة رسمية، إذ أشار إلى خروقات واسعة شابت الانتخابات الحالية وانتقصت من مِـصداقيتها، بل ذهب المدير السابق للمركز الدكتور أحمد عبيدات، وهو شخصية وطنية معروفة، إلى أنّ “تلك الانتخابات هي الأسوأ في تاريخ الأردن”، ويعتقد مراقبون أنّ الرجل أُقِـيل من منصبه بسبب هذه المواقف المُـعلنة والصريحة.

ولم يكن مجلس النواب في مرمى الإعلام إلى فترة قريبة، بل كان يتمتّـع بحصانة ضمنية من الإعلام، بسبب الحماية الأمنية إلى أن أنهيت خدمات مدير المخابرات السابق محمد الذهبي، وتراجع دور الجهاز إلى “المربّـع الأمني”، ما أتاح مساحة واسعة للإعلام لانتقاد آداء المجلس، ما أدّى بدوره إلى “ردّ الفعل” العنيف المقابل.

“السلطة النّـاعمة” و”الاحتواء الناعم”

بالرغم من انتهاء قرار المقاطعة، فإنّ العلاقة لا تزال متوتِّـرة بين المجلس والإعلام إلى حدّ الآن.

وفيما تمكّن المجلس من بعث رسالة انتقامية غاضِـبة إلى الإعلام بردّ القانون المعدّل، إلا أنّه وضع نفسه في فَـم الإعلام ودخل في معركة “ليّ الأذرع” مع السلطة الناعمة، التي تمكّنت في الأردن خلال السنوات الأخيرة من إسقاط حكومات وإنهاء سَـطوة مراكز قوى فاعلة في المشهد، بالرغم من شبهة “الاحتواء الناعم” من قِـبل السلطة لنِـسبة واسعة من الإعلاميين عبر الأعطيات والمناصب، كما أشار استطلاع لمركز القدس للدِّراسات السياسية مؤخرّاً.

محمد أبو رمان – الأردن – swissinfo.ch

تدخلت جهات رسمية لدى إدارات تحرير عدد من الصحف اليومية في سبيل إنقاذ مجلس النواب من نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مواقع الصحف حول المجلس والذي أظهرت نتائجه ان 95% من المواطنين لا يؤيدون استمرار المجلس، فيما صوت 5% فقط لاستمراره، واقترب عدد الذين صوتوا من 200 الف خلال ثلاثة أيام. الجدير ذكره ان النواب الذين هاجموا الصحف، يتحدثون بأن جهات حكومية هي التي تحرك الإعلام ضدّهم، لكن ما جرى يثبت غير ذلك.

النائب ممدوح العبادي هدد بالاستقالة بعد جلسة يوم الأربعاء الماضي، إذا أحيل قانون رعاية الثقافة المعدل الى مجلس الأعيان… القانون الآن في لجنة التربية في الاعيان. وبانتظار استقالة أخرى عندما يحين وقتها، فالنائب وصفي الرواشدة اقسم على القرآن امام مجلس النواب امس وتحت القبة أنه سيستقيل من المجلس، إذا اقر المجلس القوانين التي تفرض ضرائب وذلك اثناء مناقشة قانون الضريبة.

وقد غاب 46 نائبا عن جلسة المجلس يوم أمس 24 يونيو، اما عدد الذين حضروا الجلسة فكانوا 64 نائبا مع ان الدورة استثنائية والوقت محدد والقوانين موضوع التشريع بالغة الأهمية.

(المصدر: صحيفة “العرب اليوم” الأردنية بتاريخ 25 يونيو 2009)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية