مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الديمقراطية العراقية على “حدّي” السيف

مواطنون عراقيون يحتفلون في اليوم الموالي للإنتخابات (31 يناير 2005) في أحد شوارع مدينة الصدر ذات الأغلبية الشيعية والقريبة من العاصمة بغداد Keystone

كانت الانتخابات العراقية مفاجأة للجميع، بمن فيهم العراقيين أنفسهم.

فلا أحد في بلاد الرافدين كان يصّدق حقاً أن عملية الاقتراع الديمقراطية، يمكن أن تجري في ظل انفجارات أمنية مروّعة، وانقسامات وطنية أكثر ترويعاً، واحتلال أجنبي يصادر السيادة ويعتقل الاستقلال.

لا أحد في الشرق الأوسط والعالم، بمن فيهم الأمريكيين، كان يظن أن هذه الانتخابات يمكن أن تحدث بمثل هذه الكثافة، وعلى هذا النحو من الحماسة.

لكن هذا ما حدث، ففُـوجئ العراقيون أنفسهم والجميع مرّتين: المرة الأولى، حين رفعوا القلم (الانتخابي) في وجه السيف (الأمني) وتدفقوا بالملايين إلى المراكز الانتخابية. والثانية، حين كشفوا، من خلال كثافة الاقتراع، أن 50 عاما من الحكم التوتاليتاري المستمر، و20 عاما من دمار الحروب والحصارات، لم تستطع النيل، لا من حيوية المجتمع المدني، ولا من قوة الإرادة الشعبية.

كانت الحرية أقوى من الموت، وأثبتت الديمقراطية أنها ليست نبتة من القُـطب المتجمد الشمالي، زُرعت عنوة في القطب الصحراوي العراقي، وهذا تطور كبير سيكون له الكثير مما بعده، ليس فقط في بلاد العباسيين، بل أيضاً في كل البلاد العربية، التي تتحرق شعوبها الآن للتعددية السياسية، وسيادة القانون، والتحرر من زوار الفجر الاستخباريين.

اللا متوقع، حدث في العراق ودشّن بدايات سعيدة. لكن هل يمكن للمحصلات الديمقراطية العراقية أن تواصل التقدم لتصل أيضاً إلى نهايات سعيدة؟

هنا تتوقف مسيرة المشاعر الحارة، لتبدأ رحلة الحسابات الباردة، وهذه الأخيرة تتعلق أولاً وأخيراً بالاحتلال الأمريكي.

السؤال البديهي هنا هو: هل يمكن لهذا الاحتلال أن يسير حقاً بالعملية الانتخابية العراقية حتى نهاياتها الديمقراطية الحقيقية، التي تعني توحّـد الشعب عبر التسويات السلمية السياسية (وهذا جوهر الديمقراطية)، وحق تقرير المصير؟

الكاتب البريطاني باتل بول يعتقد ذلك، إذ قال: “العراقيون أيّـدوا حق الاقتراع الديمقراطي بنسب عالية، يجب أن تُـخجل الجسم الانتخابي في العالم الغني. لا تتركوا أحداً يقول لكم إن الانتخابات العراقية هي أي شيء إلا كونها حقيقية. البعثيون والوهابيون يمكنهم مواصلة النباح، لكن القافلة تسير”.

لكن، ثمة وجهاً آخر للقطعة النقدية، وهو وجه معاكس تماماً، هذا ما اكّـده أحمد الدجيلي، وزير الزراعة في عهد الملك العراقي فيصل الثاني، الذي أطاح به انقلاب عام 1958: “نشكر الأمريكيين لتدميرهم نظام صدام حسين، لكننا بتنا الآن نعرف أنهم لم يأتوا من أجل ذلك، بل للسيطرة على النفط، وإقامة القواعد العسكرية، والهيمنة على النظام العراقي الجديد”.

وهذا للمفارقة، وجه يؤيده بعض الأمريكيين.

فقد كتب بوب هربرت في “نيويورك تايمز”: “برغم الكلمات الجميلة التي تتدفق من إدارة بوش، إلا أن كل ما تريده هذه الأخيرة هو ممارسة أكبر قدر من السيطرة على الشرق الأوسط وآبار نفطه المهمة. صوّت العراقيون بالأمس، لكنهم ما زالوا يعيشون تحت الاحتلال. والمحتلون لديهم أشياء أخرى في ذهنهم، غير رغبات الشعب العراقي. هذه ليست ديمقراطية، إنها وصفة لمزيد من الحرب”.

إحكام قبضة الاحتلال

كيف يمكن التوفيق بين وجهي الإنجاز الديمقراطي الحر، ووقائع الاحتلال، وحسابات النفط، ومنطق السيطرة؟ هذا السؤال قد يكون مِـفتاحاً لبعض أقفال الوضع العراقي المعقّـد، والذي سيزداد تعقيدا،ً على الأرجح، بعد الانتخابات الأخيرة.

فما يريده شيعة العراق، الذين سيحوزون على أغلبية المقاعد في البرلمان من الديمقراطية، غير ما يريده الأمريكيون منها. فهم يريدون القفز إلى السلطة عبر الانتخابات ليحاولوا بعد ذلك قذف الأمريكيين إلى الخارج بالطُّـرق السّـلمية إن أمكن.

والأمريكيون، يريدون الشيعة في السلطة ليخوضوا بهم حرباً أهلية ضد المتمردين السُـنّة، ثم ليدفعونهم إلى حرب أهلية فيما بينهم ينسوا خلالها المطالبة بجلاء القوات الأمريكية.

نظرية الديمقراطية هنا واحدة، لكن أهدافها متعددة ومتناقضة،هذه نقطة، وثمة نقطة ثانية لا تقل أهمية. سيكون الأمريكيون بعد الانتخابات الديمقراطية في موقع قوة، سياسي وعسكري، قد يسهّـل عليهم إحكام قبضة احتلالهم للعراق.

وسياسياً، قد يتم هذا مع بدء الخطوات العملية لوضع الدستور الدائم الجديد للبلاد قبل أواخر هذا العام. ففي خِـضم هذه المعركة السياسية، سيكون في وسعهم (الأمريكيين) استخدام حق النقض (الفيتو)، الذي منحه الدستور المؤقت لأي ثلاث محافظات مجتمعة، (أي عملياً للأقلية الكردية والسُـنّية) لتفجير التناقضات العراقية، ومن ثم، لمنع بروز كتلة وطنية واحدة قادرة على اتخاذ قرارات وطنية موحّـدة.

وعسكرياً، قد يُـنجز هذا عبر انسحاب تدريجي للقوات الأمريكية من المدن، والمتوقع قريباً لإفساح المجال أمام صدامات محتملة بين الميليشيات الشيعية والسُـنّية، أو بين هذه الأخيرة، وبين مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية الجديدة التي يُـسيطر عليها الشيعة. وفي كلا الحالتين، قد يتحوّل الاحتلال الأمريكي إلى حل، فيما تصبح التناقضات الداخلية العراقية هي المشكلة.

سيف وحدّان

هل يعني كل ذلك أن الاحتلال الأمريكي سيكون الرابح الأخير من الانتخابات الديمقراطية العراقية، وأن العراق سيكون الخاسر الأول؟ ليس بالضرورة.

ستكون التجربة الديمقراطية الجديدة في العراق سلاحاً ذا حدّين. فكما أن الأمريكيين يمكنهم استخدامها، إما لتفجير التناقضات العراقية أو على الأقل لخلق نظام عراقي تابع، سيكون في مقدور العراقيين، خاصة الشيعة، توظيفها لإطلاق حوار وطني واسع يؤدّي إلى ميثاق وطني جديد يقي بلاد العباسيين مخاطر الحرب الأهلية الدائمة، والاحتلال المستقر.

لقد رمت واشنطن الكرة في ملعب الشيعة، وعلى هؤلاء الآن إعادتها بسرعة إلى الحُـضن الأمريكي قبل أن يتحوّل الملعب إلى ساحة حرب بين اللاعبين العراقيين.

فهل يفعلون أم أنّ “لا تصديق” الإنجاز الديمقراطي المدهش سيدفعهم أيضاً إلى عدم تصديق وجود أجندة خفية لا ديمقراطية للاحتلال وراء هذا الإنجاز الديمقراطي؟

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية