مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

ثورة تكنولوجية تُـشـرع أبواب العصر الرقمي بوجه الحرفيّين

Reuters

حتى وقت قصير، كانت حِكرا على دائرة مصغّرة من أصحاب الصناعات والمِهَن، وأصبحت اليوم مُتاحة للجميع. إنها الطابعات ثلاثية الأبعاد بما لها من قدرة على بناء نماذج أولية، بسرعة وبأقل التكاليف، تجعل كل من هبّ ودبّ مُصمّما ومنتجا لأي نموذج شاء.

“كوب من الماء ومكعّبات من الثلج”، برمشة عين، يكون الكأس حاضرا بين يدي الكابتن كيرك، بطل ستار تريك (المسلسل التلفزيوني الخيالي الشهير)، فما أروع وجود آلات تنتج نُسخا للأجسام على متْن السفينة الفضائية، أليس كذلك؟ فهذه الآلات الطابعة للمنتجات، بإمكانها إعادة تشكيل وإنتاج نُسَخ لأي شيء كان، جِسم أو طعام أو غيره، ويكفي لذلك أن يكون مخطط التصميم لهذا الشكل مُسجّلا في قاعدة بيانات الحاسوب الآلي.

ربما يكون هذا الكلام ضربا من الخيال العِلمي؟ نعم بالتأكيد، فإعادة تشكيل الماء ومكعّبات الثلج عن طريق ملف مخزّن في ذاكرة الحاسوب، قد يشغل بال العلماء لبضعة عقود أخرى، أما بالنسبة للكوب، فالأمر أسهل إلى حد ما، وكل ما يلزم هو آلة طابعة ثلاثية الأبعاد، والأفضل أن تكون من نوع إكس اثنان “2X”، إشارة إلى سرعة نقل البيانات، وهكذا تسير الأمور على أحسن ما يُرام.

بالنسبة للسواد الأعظم من الناس، قد يكون من الأفضل في هذه المرحلة، نِـسيان الزّجاج، مع أن الطابعة الضوئية ثلاثية الأبعاد، التي تعمل بأشعة اللّيزر، لديها القُدرة على بناء مُجسّمات زجاجية ومعدنِية، من خلال بلوَرة طبقات رقيقة وتشكيلها تِباعا واحدة فوق الأخرى، غير أنها ليست في متناول الجميع. وبناءً عليه، فقد يكون من المُستحسن الإكتِفاء بطابعة من الصنف الذي تستخدِم مادّة الراتنج (الرايزن).

سرعة إنجاز النماذج الأولية

“يبدأ الإنطلاق في الصناعة التقليدية من كُتلة مادة، ومن ثَـم الغوْص في العُمق. أما نحن، فبالعكس”.. هكذا يتحدث لوسيان هيرشي، مدير شركة “زيداكس Zedax SA” الواقعة في منطقة نوفيل Neuville في كانتون برن، التي أسّسها في عام 2005، ويُذكر أن هيرشي كان من بين الأوائل في سويسرا الذين توقّعوا الإمكانات الهائلة لأنظمة الطابعات ثلاثية الأبعاد، أو على وجه التحديد، إنتاج نماذج تحاكي النماذج الأولية بشكل وثيق، وهو ما يُطلق عليه “تكنولوجيا تصنيع المواد المُضافة”، التي يستخدمها في مختبره.

في اليوم الذي التقيناه فيه، تلقّى رجل الأعمال الشاب للتوّ ملفا لنموذج أوّلي لساعة، من شركة ذائعة الصيت متخصّصة في صناعة الساعات الثمينة، فقام بفتح ملف النموذج الإفتراضي بواسطة برنامج خاص بالتصاميم ثلاثية الأبعاد على الحاسوب الآلي، ثم أجرى على الرسم بعض التعديلات الطفيفة وأرسله إلى الطابعة. تبدو المسألة شبيهة بلُعبة أطفال، لكنها أكثر تعقيدا في الواقع، إذ “ينسى الجمهور أحيانا أن المرحلة الأولى معلوماتية. وعندما لا يتوفّر رسْم ثلاثي الأبعاد، يتطلب الأمر إجراء مسْح آلي للجسم الأصلي المُراد طباعته، وهي مهمّة تستغرِق وقتا طويلا. وفي كثير من الأحيان، يكون من الأسهل إعادة بناء الشكل من الألِف إلى الياء، بدلا من عملية المسح الضوئي”، على حدّ قول هيرشي.

في الأثناء، بدأت الآلة الطابعة تشتغل، وأخذت فوهاتها تزحف فوق السطح بشكل سريع، وفي كل مرة، تصنع طبقة من الراتنج (الرايزن) بسماكة 16 ميكرون، لتتحوّل في بضع دقائق، إلى مجموعة من زجاج للساعات مطابق للنموذج الذي شاهدناه سابقا على شاشة الكمبيوتر. وبعد مرور سبعة وثلاثين دقيقة، مثلما تشير شاشة العرض، كانت النماذج الأولية المصنوعة من مادة الراتنج (الرايزن) شبه جاهزة، ولم تعد بحاجة سوى إلى فصلها عن دعامتها من المادة الهُلامية، ثم تليينها بواسطة جهاز آخر، لتنتهي العملية برمّتها. لقد أصبحت لدينا الآن مجموعةُ نسخ مُصنّعة من مادة الراتنج الصلب ومُطابقة للأصل للتصميم ثلاثي الأبعاد المخزّن في ذاكرة الكمبيوتر.

المزيد

مطلق الحرية في التشكيل

تستطيع الطابعات ثلاثية الأبعاد من الجيل الجديد، المزج بين أصناف مختلفة من مادة الراتنج التي يصل عددها حاليا في الأسواق إلى نحو 15 نوعا، ممّا يتيح إمكانية التلاعب في الخصائص، كاللّون والصلابة، من أجل الحصول على تشكيلة واسعة من المنتجات.

بالإضافة إلى حرية التشكيل، هناك أيضا ميزة رئيسية أخرى لهذه التقنية، تتمثل في سرعة الإنجاز حيث “يمكن إنجاز نموذج واحد في غضون ثلاثة أيام على أقصى حدّ”، بحسب هيرشي، الذي يتعامل في معظم الأحيان مع الشركات المصنّعة للساعات. ويقول موضحا: “عندما يريد مسؤولو شركة ما اختيار موديل جديد من بين خمسة تصاميم، فالأفضل بالنسبة لهم، أن تضع بين أيديهم نماذج أولية، عِوضا عن مجرّد مشاهدة الرسم من خلال شاشة عرض، لأنك بذلك تُسهِّل من عملية اتخاذ القرار”، وهذه النماذج الأولية هي أيضا أقل تكلفة من تلك التي تصنع بالطرق التقليدية، إذ تتراوح تكلفة عمل أنموذج واحد لزجاج ساعة على سبيل المثال ما بين 100 و150 فرنك سويسري.

ولكن، هل يمكن الذهاب إلى أبعد من مجرد إنتاج “أنموذج” بسيط ؟ يُجيب هيرشي قائلا: “في إحدى المرات أنتجت بطلب من بعض العملاء قِطعا خاصة تدخل بشكل تام في تركيبة إحدى الآلات. لو أنتجت منها كميات كبيرة لكانت مُكلفة جدا لأنه لم تكن هناك حاجة إلا لعدد قليل جدا منها”، وأضاف: “لقد تعلق الأمر في الواقع بقِطع شبه فريدة، أما هذه التكنولوجيا فليست مُصمّمة لإنتاج الكميات الكبيرة”.

توجد حاليا عدّة أنواع من تكنولوجيا إنتاج نماذج أولية سريعة. فهناك الطابعات الأكثر شيوعا واستخداما من عامة الناس، والتي تعتمد مبدأ بناء النماذج بواسطة تقنية الترسيب المُنصهر، التي تم تطويرها في أواخر حقبة الثمانينات، ويتناسب هذا النوع من الطابعات مع إنتاج القطع والأجسام الصغيرة، عن طريق تغذية الطابعة بمادة بلاستيكية خام (رايزن أو بولايمر)، تنصهر و”تتبلمر” بواسطة مصدر حراري (بروجكتور ضوئي أو ليزر)، ومن ثم تتدفّق من خلال فوهات الرأس القاذِف المتحرِك بشكل آلي مُنتظم، مكوّنة طبقة ثلاثية الأبعاد فوق سطح الطابعة، ثم تتوالى طبقة فوق الأخرى، حتى يتم بناء كامل للنموذج على هيئة طبقات رقيقة وبالتوافق مع الرسم الإفتراضي المعروض على شاشة جهاز الكمبيوتر .

وفي بعض الطابعات الأخرى، يقوم الرأس القاذف بقذف حبيبات صغيرة أو مسحوق مادة خام (لدائن حرارية أو معادن أو رمل)، بعد عملية الصهر والبلمرة باستخدام أشعّة ليزر ذات الطاقة العالية، بحيث تؤدّي عملية تراكم الطبقات الرقيقة الواحد تلو الأخرى إلى إنتاج نماذج أو أجسام أو قوالب ذات صلابة عالية، لا يمكن إنتاجها تقليديا.

مجرد تطوير وليس ثورة

الرأي نفسه يتبنّاه غايتان بوسي، الذي شارك مع جيروم ميزري في تأسيس معمل “فاب لاب Fab Lab” في مدينة نوشاتيل، ويؤكد أنه “يُمكن تصميم وتصنيع أي شيء تقريبا” في هذا الصنف من الورش، وِفقا للتعريف المستخدَم من قِبل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT في بوسطن، الذي افتتح في عام 2001 أول مختبر من هذا النوع.

بوسي شدّد أيضا على أن “الطابعات ثلاثية الأبعاد، لن تحل محلّ النهج الصناعي القائم حاليا، وإنما ستُحوّله”، وبدلا من مُصطلح “ثورة”، الذي استخدمه أوباما في شهر فبراير 2013، خلال خطابه عن حال الإتحاد، يُفضِّل بوسي استخدام مصطلح “تطوّر”، لكنه يستدرك قائلا: “لا يزال من المستحيل طباعة بعض المواد، لكن لا بد من الإقرار بأن هذه التقنيات تُتيح طباعة الأجسام والقِطع بالغة التعقيد، كما تُسهم في تطوير العديد من النماذج (القائمة)”.

يكفي أن يُفكّر المرء مثلا في مسألة التخزين التي يُمكن أن تصبح (جزئيا) في خبر كان، أو في بعض الأشياء أو المنتجات، التي أصبح بإمكان أي شخص صناعتها اليوم في بيته. وبالمناسبة، أرانا غايتان بوسي مُجَسَّما مصنوعا من البلاستيك أنتجه شخص كان بحاجة إلى قاعدة لتثبيت شاشة إسقاط ضوئي على الجدار، وكان من المستحيل أن يعثر عليها في السوق، وقال: “إنها أشبه ما تكون بصناعة حرفية من الجيل الثاني” (أي المعتمدة على التقنيات المعلوماتية وخصوصيات العالم الإفتراضي).

“قبل عقديْن من الزمان، كان الناس يتحوّلون إلى مركز طباعة حينما يريدون طباعة بعض المُستندات، أما اليوم، فقد أصبحت لديهم آلات طابعة في بيوتهم، فيما اتّجهت المراكز نحو الطباعة المتخصّصة. ومن المحتمل أن تمر الطابعات ثلاثية الأبعاد، بنفس الشاكلة من التطوير”، وِفقا لبوسي.

دمقرطة

وبالفعل، بدأت هذه الدمقرطة منذ نحو سنتين أو بمعنى أدق، منذ أن انتهى العمل ببراءة اختِراع ما يُعرف بالتشكيل من خلال الترسيب المُنصهر (طريقة أخرى من طرق الطباعة ثلاثية الأبعاد)، وأصبح بالإمكان اليوم شراء طابعة ثلاثية الأبعاد مقابل 500 فرنك فقط، وقد تكون النتيجة بطبيعة الحال، متواضعة بالمقارنة مع الآلات الإحترافية التي تكلف عشرات الآلاف من الفرنكات، لكنها قد تكون كافية لتحفيز الإبداع الشخصي في مجال الصناعة الرقمية لنماذج جديدة، أو في تشجيع أصحاب المشاريع الناشئة.

في هذا السياق، يمكن القول أن فرانسوا بيلي وزوجته آن سيلفي حقّقا بعض النجاح في هذا المِضمار عن طريق الصُّدفة، حيث صرّح فرانسوا: “زوجتي مُختصة في صناعة الشوكولاتة، ورغبَتْ في عمل مشروع خاص بها. أما أنا فوظيفتي مسّاح أراضي، لكنني أحاول مساعدتها حسب الإمكان. ولإنجاز مشروعها، حاولت ابتكار قوالب خشبية خاصة بألواح الشوكولاتة. كانت لدينا فكرة محدّدة حول أشكالها، وتوجهنا إلى عدد من النجّارين، لكننا أخفقنا في الحصول على الدقّة المنشودة”.

حينها، توجه الزّوجان للبحث في ثنايا شبكة الإنترنت، فتعرّفا بمحض الصدفة على معمل “فاب لاب Fab Lab” في نوشاتيل، الذي يتيح للجميع، وبسعر معقول جدا، استخدام التجهيزات المتوفرة لديه. إثر ذلك، يقول فرانسوا بيلي: “أحضرتُ معي وِحدة تخزين يو اس بي (فلاشة) وفيها الرسم المُتّجَه الذي عملته. في البداية، فكّرنا في استخدام طابعة ثلاثية الأبعاد، ومن ثم رأينا أنه من الأفضل استِخدام آلة القطع بالليزر، وكانت النتيجة جيدة جدا، وربما كان استخدام الطابعة مُمكنا أيضا، لكن قالب البلاستيك المنتج لن يكون متينا بالقدر الكافي للإيفاء بحاجة الإستخدام اليومي”.
 

لقد كان لزيارة معمل نوشاتيل أثر كبير في الإرتقاء بطموحات الزوجيْن بيلي، وهما يحلمان بأن يتحقق حُلمهما خلال الأشهر القادمة، عبر إنتاج أشكال ثلاثية الأبعاد من الشوكولاتة، تتميز بكثير من الطرافة والإبتكار. يقول فرانسوا بيلي: “لا تزال هناك بعض التجارب التي يتعيّن القيام بها، لكن يبدو بأن الأمر قابل للتحقيق من الناحية التقنية، وبناءً على ذلك، سأقوم بإعداد الرسوم والتصاميم ثلاثية الأبعاد، وسنستعين بالطابعة من أجْل تصنيع قالب أوّلي توضع فيه الشوكولاتة المُذابة”.

تم اشتقاق الإسم من الجزيئين الأولين لكلمتين (باللغة الإنجليزية) “Fabrication Laboratory”، بمعنى معمل تصنيع، وهو عبارة عن ورشة تصنيع رقمية تستخدم آلات القطع باللّيزر وأصنافا مختلفة من الطابعات ثلاثية الأبعاد.

تمّ افتتاح أول ورشة من هذا النوع في عام 2001، في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وفي عام 2011، افتتح في مدينة لوتسرن أول معمل من نوعه في سويسرا.

أهم ما يميّز معامل “فاب لاب”، الإنفتاح والتعاون، إذ تفتح أبوابها للجميع وتدعو كل من يستفيد من خدماتها، إلى القيام بتبادل المعرفة مع غيره من أبناء المجتمع، ومن أكبر المنافع التي تحقّقها، كثافة “المبادلات متعدّدة التخصّصات”، كما يوضح غايتان بوسي، لاسيما وأن هذا التبادل لم يعد يعترف بالحدود والحواجز الجغرافية، بعد أن اجتاحت شبكة الإنترنت العالم.

يضع أنصار هذه الورش، نُصْب أعيُنهم، أن يكون بإمكان هذه التكنولوجيا تحقيق التغيير الجِذري في مفاهيم اقتصاد السوق، بحيث يُتاح لكل شخص على سبيل المثال، إمكانية التطوير الذاتي والتصنيع الخاص للمنتجات ذات الإستخدام المُشترك، كما هو حاصل بالفعل حاليا بالنسبة لأغطية الهواتف الذكية، أو ربما أيضا تيسير الإنتاج في مناطق بعيدة عن المراكز الصناعية التقليدية. وعلى سبيل المثال، يُشارك غايتان بوسي حاليا، من خلال وحدة البحوث التابعة للمعهد المهني التابع لجامعة نوشاتيل (انظر الرابط)، ضِمن مشروع لإدارة المِياه في تنزانيا، ويطمح إلى أن يتمكن من تصنيع المكوّنات الإلكترونية اللاّزمة على عيْن المكان.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية