مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

العرب.. متى يُـفـيـقـون من صمتهم؟

أدى تراكم العديد من العوامل والخيبات إلى ركون الأغلبية الساحقة من سكان العالم العربي إلى الصمت والإستقالة Keystone

في أقل من شهر واحد، تداعت على العرب عدة مصائب، إن في العراق أو في فلسطين والسودان، وكل منها كفيل بأن يهز الجبال ويقلب العروش وينهى الأوهام.

غير أن أيا من هذا أو أقل منه لم يحدث في أي بلد عربي..

لم يتجرأ أحد على دعوة لقمة عاجلة، إذ أن العادية ما زالت في طور التشكيل بعد تأجيلها المفاجئ نهاية شهر مارس المنصرم، ولم يخرج سوى بضع مئات من طلاب ثلاث جامعات مصرية وواحدة لبنانية، وبعض توترات في مخيمات فلسطينية في لبنان، وكلها جاءت في صورة مظاهرات رمزية، عنوانها الأول الاستياء والغضب مما يجري.

وفى الخلفية، بعض تصريحات عابرة لمسؤولين عرب تستنكر ما يجري وتقدم النصح للسادة الأمريكان بأن يأخذوا في الاعتبار مصالح القادة من الأصدقاء العرب ودقة مواقفهم أمام شعوبهم، يرافقها بضع مقالات لكبار الكتاب لم تخرج عن تحليل مضمون التدهور العربي ومظاهره التي أضافت إلى قوة الأعداء، ومنحت جرأة ما بعدها جرأة للرئيس بوش أن يقدم ضمانات لصديقه الحميم شارون لكي يفعل ما يريد من قتل للفلسطينيين وتخريب بنيتهم الأساسية المنهارة أصلا، والاستيلاء على مزيد من أراضيهم، ومنعهم من العودة إلى ديارهم، وتغيير الحدود تبعا للأطماع الإسرائيلية، دون أن يكون في المقابل أي شيء يقدم للفلسطينيين سوى الخداع والتضليل والتواطئ.

ممنوع الشجب

لقد وضحت الصورة تماما. فهل فقدت الأمة العربية قدرتها على مجرد الحديث والشجب، أم أن مجرد الحديث لم يعد له معنى، وبات الصمت هو الرسالة الأنجع؟

تاريخيا، فإن الصمت الجماعي، إما دليل العجز والإحباط، وإما قرينة الانتظار المُـميت الذي يسبق حالة الانفجار المروع، وما بينهما فهو تعبير عن الانكفاء على الذات في انتظار الخلاص الذي لا يجيء إلا لمن يسعى له.

وليس هناك من يمكنه الجدال في أن أحوال العرب وصلت إلى قاع التردي والاهتراء، في الوقت نفسه أن نسبة قليلة من هذا التردي لدى أمم أخرى كفيلة بأن تغير الأمور رأسا على عقب. فلماذا إذن هذا الصمت العربي القاتل؟

ثمة أسباب عديدة وراء هذا الصمت، سواء في شقه الرسمي المتعلق بالحكومات، أو في شقه الشعبي. فبينما تغيب الحريات عن الشعوب العربية نتيجة النظم المقيدة بإحكام والتي يعيشون فيها، فإن القدرة على تخليص الإرادة الرسمية من ضغوط الهيمنة الأمريكية والعولمة المتوحشة، وغياب القوى الموازنة الفاعلة في قمة النظام الدولي، باتت شبه معدومة لدى الغالبية العظمى من القيادات العربية، والبحث عن الخلاص الذاتي بات هو البوصلة الوحيدة التي توجه الفعل داخليا وخارجيا على السواء.

ولعل اتساع المساحة والفجوة بين قمة النظم السياسية وبين القواعد الشعبية، تجعل من تلك القيادات في حال همّ بالاستمرار والحفاظ على الذات أكثر من همّ الحفاظ على المصالح العامة لكل المجتمع.

أحزاب “طق الحنك”

الشعوب العربية مقهورة وفاقدة لمساحة متزايدة من الحريات، تلك حقيقة مُعاشة ليل نهار. فهل ينتظر من هكذا شعوب أن تتحرك، وإن تحركت ففي أي اتجاه؟

ثمة حالة طوارئ (معلنة وغير معلنة) في كل البلاد العربية تعود إلى عدة عقود مضت. لم يتغير الحال كثيرا، ولذلك لم تتغير الطوارئ. وفي حال الطوارئ، تفقد المجتمعات قدرتها الطبيعية على التحرك. فالأحزاب العربية، إن وجدت وبمن فيها ما يُـسمى بالأحزاب الحاكمة، فهي مُقيدة بترسانة من القوانين التي تجعلها أقرب إلى جمعيات أهلية شاردة أو منتديات “لطق الحنك”، حسب التعبير اللبناني الشهير. فالأمر كله كلام في كلام.

يجعل غياب القوى السياسية الفاعلة المجتمعات العربية في حال تشرذم وتفتت سياسي. وحتى القوى المحجوبة عن الشرعية، وأيا كان انتشارها بين شرائح اجتماعية وفئات مهنية معينة، تظل محدودة الفاعلية على الصعيد الجماهيري العام.

فجزء من هَمّ تلك الجماعات هو الحفاظ على الذات بأقل الخسائر الممكنة، وتجنّـب المواجهات الكبرى قبل الأوان. وقد يتصور البعض أن هذه القوى مؤهلة لقيادة الشارع العربي سياسيا عند أي منعطف من التوتر والفوضى.

وربما يحدث ذلك لبعض الوقت، غير أن الأمر لن يخرج عن مواجهة محتومة مع مؤسسات الأمن والعنف الرسمي، إذ أن حالة التشويه التي تلحق بهذه الجماعات كبيرة، فضلا عن أن برنامجها السياسي ما زال غامضا ومشوشا إلى حد كبير.

سطوة أمنية ومزايدات حكومية

وفي كل الأحوال من غياب الحريات وفقدان الدور للأحزاب والجماعات الشرعية، يلحظ المرء دورا متصاعدا “للأمن”، والمقصود بالطبع ليس الأمن الخارجي، أي الذود عن حمى الوطن وشرفه، بل المقصود أمن النظم الحاكمة واستمرارية نخبها.

وليس هناك من عامل بالسياسة أو مشتغل بجانب فكري ذي امتداد سياسي بشكل أو بآخر، إلا وتعرّض لصدمة أمنية ما، كمنع ندوة أو المشاركة في محاضرة أو إغلاق نشاط أكاديمي أو أهلي، وهذا في الحد الأدنى، أما الأعلى، فالأمور تتّـجه دائما إلى السجون والمعتقلات والمحاكم وتشويه الصورة. وحين يُـسيطر الهاجس الأمني على كل شيء، يُـصبح البلد مُـدارا بعقلية أمنية وليست سياسية، وهي عقلية كفيلة بتعليم الصمت الأبدي لكل المواطنين. ومن يستعصي على التعلم، فنصـيبه منع الحرية كاملة.

وفى ظروف معيّـنة، تحقق المعالجات الأمنية نجاحات كبرى وفى ظروف أخرى، وهي الأغلب الأعم، تصبح مدخلا لنكسات ووكسات لا مثيل لها. وعادة ما يكون الصمت الجماهيري دليلا على سطوة النزعة الأمنية وغياب المعالجات السياسية، وكلاهما يُحضران المجتمع لحال فوضى وتشرذم.

مع سطوة المعالجة الأمنية، تلجأ الحكومات عادة إلى أنواع من المزايدة السياسية والإعلامية التي تهدف إلى مُـصادرة حق المواطنين في التعبير عن توجهاتهم ومشاعرهم تجاه قضية ما.

ومن قبيل المزايدات أن يُصعد الإعلام الحكومي نبرة الوطنية والانفعال السياسي تجاه حدث ما، وبما يتجاوز رد الفعل الطبيعي والمنطقي لجموع المواطنين، وعندها يتقاعس الكثيرون عن الحركة الفاعلة، لا لشيء ملموس، ولكن لأن إعلام الحكومة قد أعفى المواطنين من عبء الغضب والاستياء، وما دامت الحكومة قالت كلمتها، فعلى الشعب أن يبقى مهنئا وشاكرا، وبالطبع صامتا.

الإعلام الفضائي.. أيضا

لا تقتصر عمليات دغدغة مشاعر الشعوب العربية وانفعالاتهم على أجهزة الإعلام الحكومي فحسب، فهناك من الإعلام العربي الفضائي، لاسيما المتخصص في الأخبار والشؤون السياسية من يلعب اللعبة بأعلى قدر من الحرفية والمهنية، ويقدم أعلى صور المبالغة في تصوير “انتفاضات” الشارع العربي، لاسيما في بلدان المواجهة، ويجعل من كل شيء عابر حدثا أساسيا، وهو في ذلك يرفع من سقف التوقعات الشعبية، ثم ينتهي الأمر إلى لا شيء، سوى الهزيمة والانكسار.

ومع تكرار اللعبة، يتحول الرأي العام العربي إلى حالة من الصعود المصطنع، تليها حالة من الانكسار الحاد، وبعدها يركن إلى الإحباط والقعود والتململ مما جرى، منتظرا صورة مصطنعة أخرى من الصعود الافتراضي، التي قد تشبعه لفترة، ولكنها تهزمه دوما.

وحين يركن الرأي العام إلى الانتصارات الافتراضية، يصبح الانتظار سيد الموقف، والصمت هو دليله الوحيد. أما النتيجة، فمزيد من الألم والهزيمة الداخلية.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية