مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

العنف والدمار وفوضى الصحافة في العراق الجديد..

Reuters

لعلّ من السّـابق للأوان إصدار حُـكم نهائي على ما يجري حاليا في العراق من قتل وتفجير ودمار، عدا توجيه الإتِّـهام إلى الجهة أو الجهات المُـستفيدة من زعزعة الأمن والاستقرار قبل الإنتخابات العامة المفترض إجراؤها في يناير 2010.

لكن الواضح تماما من هذه التفجيرات، أنها تريد أن تُـعيد العراق إلى المربّـع الأول قبل الانتخابات السابقة، وتحديدا في العامين ما بين 2004 و2005 وما تخللها آنذاك من مساعي محمومة، لجرّ العراق إلى فخّ الحرب الطائفية.

ليس هذا وحسب، فإن استمرار التفجيرات في العراق، وبهذه الطريقة المكشوفة، يُـظهِـرُ حقيقة بات يعرفها العراقيون وحتى المسؤولين الرسميين ممّـن كانوا سابقا في خانة المعارضة لنظام صدّام، وهي أن البعثيين وأنصار النظام السابق، الموجودين فِـعلا داخل مؤسسات النظام الجديد، هم من يتحمّـل المسؤولية عما يحصُـل من تفجيرات أمنية عنيفة، كما حصل في الأربعاء الأسود (19 أغسطس)، برغم كل ما قيل ويُـقال عن تطوّر أداء القوات الحكومية والأجهزة الأمنية في المرحلة السابقة، وما شهده العراق من أمن استثناني ونوعي، برز بشكل واضح قبل شهر أبريل الماضي.

ليس هذا فحسب، فقد أصبح مألوفا جدّا أن تُـشاهد ضبّـاط المخابرات السّابقين وقيادات بعثية معروفة، تعمل في مجلس النواب أو في عدد لا حصر له من المؤسسات الحكومية الرسمية، وهي لا تخفي ولاءها للنظام السابق أو أنها لا تخشى من المُـجاهرة بسبّ وشتم النظام الجديد والمقارنة بينه وبين نظام صدّام..

وحتى تتبيّـن الصورة كما هي بعد أن تنجلي الغبرة أو أن تختفي ملامِـحها في زحمة الصِّـراع السياسي ما بين “أحملني وأحملك”، وهي المعادلة السائدة في عراق ما بعد صدّام حسين، لا يملك العراقيون، خصوصا الإسلاميين منهم، غير الاستمرار في جلد ذواتهم بدُعاء الإفتتاح الذي تعوّدوا عليه بعد الإفطار من كل يوم في شهر رمضان المبارك..

مصرف “الزوية”!

لكن من الناحية العملية، فإن تفجيرات بغداد، يضعها البعض في سياق التوتّـر بين السياسيين العراقيين أنفسهم، في أعقاب حادثة سرقة مصرف “الزوية” في بغداد نهاية شهر يوليو الماضي، والتي كان لوزير الداخلية جواد البولاني دور كبير في فضحها، ما جعله هدفا لسهام جهات تعتقد أنه إما فضحها أو أنه أساء لها في ضوء الكشف عن تورّط عناصر من فوج حماية نائب الرئيس عادل عبد المهدي في ارتكابها.

وكان مسلّحون تمكّـنوا فجر يوم 28 يوليو وفي عملية مخطَّـط لها بشكل جيِّـد، من دخول فرع الزوية لمصرف الرافدين في منطقة الكرادة (وسط بغداد)، من دون خلع أو كسر، وقتل ثمانية من حرّاسه وسرق ثمانية مليارات ونصف مليار دينار (نحو 3,8 مليون دولار).

وحتى بعد أن “لملمت” الداخلية أطراف ما بقي من الإطار المتكسِّـر للصورة وقالت على لسان المتحدّث باسمها، إن القضية جنائية نفّـذها ضباط في الجيش العراقي وليست وراءها دوافع سياسية، وأن عبد المهدي هو من بلّـغ رئيس الوزراء نوري المالكي بأن عِـصابة من فوج الحماية الخاص به، كانت وراء ارتِـكاب الجريمة..

قانون للصحافة يثير مخاوف العراقيين

ولقد كان للإعلام العراقي المستقِـل الدّور الكبير في الكشْـف عن تفاصيل سرقة “مصرف الزوية”، وعلى سبيل المثال دفع موقع “كتابات” العراقي (الذي ساهم بفاعلية في العمل العراقي المعارض لإسقاط نظام صدّام)، نحو تكوين وعي سياسي لمُـجمل ما يجري في العراق، بل سمح في بعض الأحيان لبعثيين بالتعبير عن آرائهم، الأمر الذي أخاف الكثير من الساسة العراقيين من حرية الصحافة، وأخذوا يطالبون بفرض قيود عليها..

وليست مصادفة، أن تأتي مصادقة الحكومة على مشروع قانون لحماية الصحفيين العراقيين في هذا الوقت، حيث يتعرض الإعلاميون العراقيون المستقلّـون، لحرب شعواء تشنّـها أحزاب وجماعات، بعضها يطلق تهديدات لأي إعلامي لا يكتُـب كما تريد السلطة الحالية في إيران، فكيف إذا تمّ المسّ “نقدا” بشخصياتها المقدسة؟

إلا أن ما جاء في القانون الذي وافقت عليه الحكومة من حِـرمان الصحفي من الحق في عدم الكشف عن مصدر معلوماته “في الحالات التي يتوجّـب فيها القانون الكشف عن تلك المصادر”، أثار حفيظة الصحفيين العراقيين الذين نظّـموا مظاهرة رمزية جابت شارع المتنبي، المعروف بأنه شارع الأدب والثقافة والإعلام الحُـر يوم الجمعة 14 أغسطس 2009، وما يجِـده أي باحث أو قارئ من ضالّـته من الكُـتب على قارعة الطريق..

صحيح أن القانون يهدِف إلى “توفير الحماية الأمنية للصحفيين العراقيين في جمهورية العراق وضمان حقوقهم، ويُلزم دوائر الدولة والقطاع العام بتقديم التسهيلات التي تقتضيها واجباتهم، بما يضمن كرامة العمل الصحفي، وللصحفي حقّ الحصول على المعلومات والأنباء من مصادرها وبما يسمح به القانون”، إلا أن القانون اتّـسم بالغُـموض فيما يتعلّـق بالحالات والأسباب التي يوجب فيها الكشف عن تلك المصادر، وهو ما أثار مخاوف الصحفيين العراقيين، الذين لا يمانعون أن يكشف الصحفي عن مصدر معلوماته، في حالة واحدة فقط وهي “عندما يكون عدم الكشف يؤدّي إلى قتل مواطن بريء أو جريمة، على أن يتِـم هذا أمام القاضي فقط”، كما عبّـر نقيب الصحافة مؤيد اللامي.

فوضى صحفية!

في العراق، ظهر بعد سقوط النظام السابق، أكثر من 500 من الصحف اليومية والوكالات الإعلامية وقنوات الإعلام المرئِـية والمسموعة. وقدّمت القوات الأمريكية الدّعم المادي لأشخاص ليست لهم علاقة بالعمل الصحفي أو أنهم استغلّـوا الصحافة للإثراء غير المشروع، ولتحويل العديد من وسائل الإعلام إلى ما يُشبه “المواخير ومراكز الإفساد” برأي مراقبين مطلعين على ما وراء كواليس الساحة العراقية.

وبدلا من أن تُـساهم الحكومات المتعاقبة منذ سقوط نظام صدام حسين في الأخذ بيد الصحفيين العراقيين نحو مستقبل أفضل، يدعم التوجه “المعلن” نحو المشاركة الشعبية في الحكم أو الديمقراطية، كما بشرت بها واشنطن، فإن هذه الحكومات أخذت تتعامل مع الصحافة العراقية بنفس النّـهج السابق، الذي كان يروِّج للقائد “الضرورة”، إذ أصبحت معظم فضائيات العراق مطبلا لهذا “الزعيم” الدِّيني أو ذلك “القائد” السياسي، وبذرائع شتّـى منها بالطبع، ركوب الطائفة أو القومية وحتى “المناطق المتنازَع عليها”، وهي عبارة صارت رائجة جدّا بين مُـدن عراقية تتصارع على تُـراب العراق الواحد، لتمزِّقه..

كذلك، فإن حرية التعبير في العراق تتعرّض للخطر أو هي تُـواجهه كقدر حتمي، نتيجة ضغوطات سياسية تُـمارسها أحزاب وقِـوى ضدّ المؤسسات الإعلامية في العراق.

وإذ لم تسلم “شبكة الإعلام العراقي” من هذه الفوضى، لأنها ببساطة باتت مسْـرحا لتدخل الحكومات المتعاقبة ويجب عليها أن تروّج لرئيس وزراء المرحلة وأن تأتمِـر بأمره أو بأمر مستشاره الإعلامي، فإن الكثير من العراقيين المُـحترفين، وبشكل خاص أولئك الذين قارعوا نظام صدّام ورفضوا أن يكونوا في جوقة المصفِّـقين، لم تتِـم الاستفادة من خِـبراتهم في إدارة العملية الإعلامية في العراق الجديد، وأبعِـدوا أو هُمِّـشوا، كما هو الحال مع إعلاميين مخضرمين موجودين في بغداد.

وعلى العكس، فان الوجوه البعثية أو التي حصلت على شهادة “الدكتوراه” في إعلام الدعاية لصدّام، هي التي تُـسيطر على أدوات الإعلام العراقي، وتزيد هذه الفوضى الإعلامية بما ينشره صحفيوها كل يوم، من ثقافة العنف والإرهاب والكراهية والبحث عن مجد زائف ولعودة البعث والطائفية، وأيضا لحرب الساسة على مائدة العراق.

نجاح محمد علي – دبي – swissinfo.ch

صادقت الحكومة العراقية يوم 31 يوليو 2009 على مشروع قانون لحماية الصحفيين العراقيين، حرمت بموجبه الصحفي من الحق في عدم الكشف عن مصدر معلوماته “في الحالات التي يتوجب فيها القانون الكشف عن تلك المصادر”، الأمر الذي أثار استياء الصحفيين العراقيين. وقال بيان صادر عن الناطق باسم الحكومة علي الدباغ، إن مجلس الوزراء العراقي قرر الموافقة على مشروع قانون لحماية الصحفيين.

وذكر أن القانون يهدف إلى “توفير الحماية الأمنية للصحفيين العراقيين في جمهورية العراق وضمان حقوقهم، ويلزم دوائر الدولة والقطاع العام بتقديم التسهيلات التي تقتضيها واجباتهم، بما يضمن كرامة العمل الصحفي، وللصحفي حق الحصول على المعلومات والأنباء من مصادرها وبما يسمح به القانون”.

غموض

ولم يوضح البيان أي تفصيلات عن الحالات والأسباب التي يوجب فيها القانون الكشف عن تلك المصادر، وهو ما أثار مخاوف نقابة الصحفيين العراقيين. واشترطت الحكومة في الكثير من التسهيلات والتشريعات التي أقرها القانون والتي يحتاجها الصحفي للقيام بعمله، وجوب عدم تعارضها مع القانون. وقال البيان “إن مشروع القانون يؤكد عدم التعرض لأدوات الصحفي في الحدود التي يرسمها القانون، ولا تجوز مساءلة الصحفي عما يبديه من رأي أو نشر أي معلومات”.

كفالة

وتضمن مشروع القانون، الذي صادقت عليه الحكومة، صرف منحة مالية لأسرة من يستشهد من الصحفيين من غير الموظفين أو من يصاب بإصابة تسبب نسبة عجز مقدارها 50%. ويمثل ذلك تعديلا لمشروع قانون النقابة الذي طالب بمنح راتب تقاعدي لعائلة الصحفي الذي يقتل أو يصاب أثناء تأديته عمله أو نتيجة عمل إرهابي. وكان العراق قد صنف لأكثر من سنة – وخاصة في الفترة التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق – من قبل العديد من المنظمات الدولية المختصة بأحوال الصحفيين، على أنه البلد الأكثر خطورة على حياة الصحفيين.

وحسب الإحصائيات الصادرة من لجنة حماية الصحفيين ومقرها نيويورك، فإن 139 صحفيا قتلوا في العراق منذ مارس 2003 إضافة إلى مقتل 51 آخرين من العاملين في الصحافة.

انتقاد

وقال نقيب الصحفيين العراقيين مؤيد اللامي، إن النقابة لم تطلع حتى الآن على النسخة التي تضمنت تعديلات الحكومة، وعبر عن تخوفه من أي إضافة فضفاضة لأنها قد تقيد الصحفي. واستنكر اللامي الفقرة التي تطالب الصحفي بالكشف عن مصدر معلوماته، وقال “نحن طلبنا أن لا يكشف الصحفي عن مصدر معلوماته إلا في حالة واحدة، عندما يكون عدم الكشف يؤدي إلى قتل مواطن بريء أو جريمة، على أن يتم هذا أمام القاضي فقط”.

ومن المقرر أن يعرض النص الذي عدلته الحكومة العراقية على البرلمان للتصديق عليه. وقال اللامي “إذا كانت هناك إضافات على القانون الذي رفعناه وأقره مجلس شورى الدولة من شأنها التقليل من هذه النقطة أو تلك ووضع عراقيل، فبالتأكيد سنرفض ذلك وسنكون في مجلس النواب حتى ندافع عن القانون”.

يذكر أن العراق شهد بعد سقوط النظام السابق ظهور العشرات من الصحف اليومية والوكالات الإعلامية وقنوات الإعلام المرئية والمسموعة.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 31 يوليو 2009)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية