مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الغائب الحاضر في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي

للقوة العسكرية دور محوري في العقيدة الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة Keystone

كشفت إدارة الرئيس جورج بوش يوم 20 سبتمبر عن "استراتيجية الأمن القومي الأمريكي"، التي تضمنت رؤى الولايات المتحدة لأمنها الداخلي والخارجي، ولعلاقاتها الدولية. ولم يحظ العالم العربي فيها بأي نصيب من الاهتمام.

وتمحورت هذه الاستراتيجية حول نظرية “التحرك الاستباقي” أو « Preemptive Action ».

ولّـت نظرية الاحتواء والرّدع الأمريكية « Containment & Deterrence » التي سادت حقبة الحرب الباردة وتعاملت بها الولايات المتحدة مع النزاعات والأزمات الإقليمية، مثل الحرب الكورية عام 1953، وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1961، وحرب فيتنام في السبعينات، واحتلال الكويت عام 1990، وحرب كوسوفو عام 1999، لتحلّ محلهاّ نظرية استراتيجية أمريكية جديدة ولّـدتها أحداث 11 سبتمبر، وهي نظرية “التحرّك الاستباقي أو الوقائي” « Preemptive Action »، والتي قد يُصبح العراق أول أهدافها.

وتنُصّ هذه النظرية على تحديد مكامن الخطر ودرئها قبل حدوثها، أي أن إدارة الرئيس بوش منحت لنفسها حقّ التدخُّل في أي مكان من العالم تشعر فيه أن مصالحها الاستراتيجية القومية أو أمنها الداخلي مهددة أو مُعرّضة لخطر ما، سواء كان التدخّلُ في إطار “الشرعية الدولية”، أي الأمم المتحدة، أو بشكل منفرد.

وإلى جانب هذا المحور الجديد في العلاقات والتّـوازنات الدولية، تضمّـنت استراتيجية الأمن القومي جملة من الرؤى والتصوّرات والقيّـم التي تعتبرها الولايات المتحدة جوهرية لاستتباب الأمن والسلام والاستقرار والرخاء في العالم، لعلّ أهمّـها، تعهّـد الولايات المتحدة بالعمل على تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان والتّجارة الحرّة والتنمية الاقتصادية في كل أنحاء العالم، والتعاون الوثيق مع من تعتبرهم واشنطن “الحلفاء والأصدقاء” لتحقيق ذلك.

على طريق الفوضى

ولئن كان من حقّ القوة العظمى الوحيدة في العالم، والتي تتجاوز مصالحُها القومية والاستراتيجية حدودها الجغرافية، لتشمل بشكل أو بآخر كافة مناطق العالم، أن تضع لنفسها إطارا سياسيا ملائما لضمان مصالحها الحيوية والدفاع عنها، فإن نظرية “التحرّك الاستباقي”، قد تتحوّلُ إلى فوضى عالمية، إذا ما اعتمدتها قوى دولية أخرى محورا لسياساتها نسجا على منوال واشنطن.

فاستنادا إلى نظرية “التحرك الاستباقي”، يُمكن للصين أن تجتاح تايوان بذريعة أنها تستنزف اقتصادها أو أنها تُنتج أسلحة فتّـاكة تُشكـّلُ خطرا على أمنها القومي. ويُمكن للهند أن تقوم بتدمير المنشآت النووية الباكستانية بذريعة أن الصواريخ النووية التي تملكها إسلام أباد، تُهدّدُ الأمن والمصالح الهندية. والأمثلة في هذا الصّدد، لا تنتهي وليست حكرا على الدول الكبرى، لا بل إن “التحرّك الاستباقي” قد يُصبح ذريعة في يد عشرات البلدان، لتصفية حسابات اقتصادية أو حُدودية أو أمنية مع جيرانها، وهو ما تقوم به إسرائيل في المناطق الفلسطينية.

غير أن الولايات المتحدة ليست اليوم دولة عادية، أو هي ككل الدول في العالم. فهي تتمّـتع بقـُدرات عسكرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية، وبقوة اقتصادية لا ينافسُها أحد في الكون، إذ أن الناتج القومي الأمريكي يُـناهز سنويا 10 آلاف مليار دولار، وبنفوذ سياسي لم تتمتّـع به دولة أو إمبراطورية في التاريخ.

ومن شأن هذا الثـقل أن يضع على عاتق الولايات المتحدة مسؤوليات جسيمة وحاسمة، ليس فقط في الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية والقومية، بل أيضا في الحفاظ على السّلم والاستقرار والعدالة في العالم.

عُـقدة 11 سبتمبر

غير أن صدمة 11 سبتمبر قلبت المُـعطيات الأمنية والاستراتيجية الأمريكية، وفرضت على واشنطن أولويات آنية حجبت عن الولايات المتحدة حقائق بديهية عديدة، لعلّ أكثرها رسوخا عبر التاريخ، أن القوة وحدها، مهما كانت كاسحة، لا تفرض السلم والعدالة.

فالولايات المتحدة، شاءت أم أبت، هي عُنصُر حيوي ومحوري في منظومة أممية ومجتمع دولي لا يزال يتلمّـسُ طريقه نحو استيعاب المتغيّـرات الجذرية المتسارعة التي طرأت على العالم منذ انهيار الإمبراطورية السوفييتية، واستفراد واشنطن بالدور الأعظم في العالم الجديد، والاقتصاد “المُعَولم”، و”القيّـم الكونية”.

وللولايات المتحدة رصيد مُـؤكّـد في التاريخ الحديث في إعادة السلام والاستقرار والرّخاء. فبعد أن انتصرت في الحرب العالمية الثانية، ساهمت بفضل مخطّـط مارشال في إعادة إعمار غرب أوروبا وازدهاره. وبعد انهيار حلف وارسو، ساعدت الولايات المتحدة معظم دول الحلف على اللّـحاق بركب أوروبا الغربية وبالتحالف الأطلسي، هذا فضلا عمّـا قامت به واشنطن في تأهيل العديد من الأنظمة المتسلّـطة والفاسدة (والتي كانت تدور في فلك الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة) في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، لترسيخ اقتصاد السوق، والممارسة الديموقراطية، واحترام حقوق الإنسان وكرامته.

تغييب العالم العربي!

فلماذا إذن استثنت واشنطن من هذه المسيرة البناءة العالم العربي الذي يعيش اليوم على هامش الحداثة والتطور؟ ولماذا لم تفرِض الولايات المتحدة على الأنظمة العربية الحاكمة التي كبّـلت العالم العربي وآلت به إلى حيث هو اليوم من تخلّـف وتكلّـس، القيّـم السياسية والأخلاقية التي تعمل واشنطن على فرضها في فلسطين وتدعو إليها في العراق؟

إن المنطق المتضمن في استراتيجية “التحرك الاستباقي” يقتضي اليوم من الولايات المتحدة، إذا أرادت واشنطن أن تكون واقعية ومنصفة، التدخّـل الحاسم، ليس فقط في العراق، بل ضـدّ معظم الأنظمة العربية التي تحكُم شعوبها بقبضة حديديّـة، وأصبحت تُشكّـل خطرا على المصالح القومية الأمريكية، القريبة والبعيدة المدى، من خلال عجزها عن اللّـحاق بركب الحداثة والاستجابة لحقوق وتطلّـعات شعوبها في الحرية والديموقراطية وسيادة القانون والعدالة.

إن “الكراهيّـة” الكامنة في وجدان الإنسان العربي ضد الولايات المتحدة ليست غريزية أو فطرية. إنها نتيجة طبيعية للتأييد الأمريكي المُطلق لتلك الأنظمة على مدى عُقود، في الخليج والمشرق والمغرب العربي، وبطبيعة الحال للدّعم غير المحدود الذي تحظى به إسرائيل في الولايات المتحدة.

ازدواجية المعايير

صحيح أن العراقيين يستحقّـون نظاما أفضل من نظام صدام حسين (الذي ساهمت الولايات المتحدة في دعمه وترسيخه)، وبالتالي، من المشروع إزاحته إن عاجلا أم آجلا، لأنه، وإن لم يُفـرّخ إرهابيين، طغى وأباد وانتهك وجـرّ البلاد إلى الخراب.

لكن بقية الأنظمة العربية، وإن اختلف رصيدها، فهي تتحـمّـل بدرجات مُتفاوتة، مسؤولية لا لُبس فيها في دفع شرائح اجتماعية بأكملها نحو التطـرّف والمُغالاة والإرهاب بسبب ممارساتها السياسية البالية التي لا تختلف كثيرا عن ممارسات صدام حسين.

إن الإرهابيين الذين نفّـذوا هجمات 11 سبتمبر، لم يأتوا من المـرّيخ أو أي كوكب آخر. إنهم جميعا نتاج للنظام العربي الذي تغاضت عنه الولايات المتحدة على مدى عقود، ولم تكترث به إلا لتثبيت أنظمة استبدادية تكفلُ للمصالح الأمريكية استقرارا مُزيـّفـا وظاهريا يضمن لها الإمدادات النفطية وأمن إسرائيل وأسواقا استهلاكية مُتلهـّفة.

لقد خـلا تقرير “استراتيجية الأمن القومي” من أي تصـوّر لمستقبل العالم العربي. فباستثناء ما يتعلّـق بالنّـزاع الفلسطيني الإسرائيلي، والذي ردّد بشأنه تقرير “استراتيجية الأمن القومي” ما جاء في خطاب الرئيس بوش في مايو الماضي حول الدولة الفلسطينية، لم يتضمّـن التقرير أي رؤية أمريكية لمستقبل هذه المنطقة، التي هي لُـبّ الأزمة التي يعيشها العالم حاليا، ووسائل النهوض بها.

تجاهل تقرير”استراتيجية الأمن القومي” الأمريكية، العالم العربي وتركه مفعولا به بدلا من أن يكون فاعلا في بناء النظام العالمي الجديد والقيّـم الكونية التي تدعو إليها الولايات المتحدة نفسها.

ولا يُمكن من خلال الفقرة التالية من التقرير، إلا الاستنتاج بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد، حاليا وفي المستقبل المنظور، من العالم العربي أكثر من ذلك.

“…إن الولايات المتحدة يجب أن تكون واقعية بشأن قدرتها على مساعدة أولئك الذين يرفضون أو أنهم غير مستعدين لمساعدة أنفسهم. فأينما وعندما يُبدي الناس استعدادا للقيام بما عليهم، فإن الولايات المتحدة ستتحرّك بحسم…”

والسؤال هنا: هل هذه رسالة أمريكية مُـوجّـهة إلى الأنظمة أم إلى الشعوب العربية؟

محمود بوناب – سويس انفو

مقتطفات من “استراتيجية الأمن القومي” الأمريكية
تملك الولايات المتحدة قوة ونفوذا لم يسبق لهما مثيل في العالم
إن العدو هو الإرهاب
الوقوف إلى جانب الحكومات المعتدلة والرائدة، لاسيما في العالم الإسلامي لضمان أن الظروف والأفكار التي تشجع الإرهاب، لا تجد أرضية خصبة في أي دولة
إن أكبر خطر تواجهه الحرية يتمثل في تلاقي التطرف والتكنولوجيا
يجب أن نكون على استعداد لوقف الدول المارقة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية