مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الواقع من منظور صاحبة الجلالة!

لقطة مشهورة من شريط "كل رجال الرئيس" الذي سرد تفاصيل الكشف عن فضيحة ووترجيت الأمريكية pardo.ch

أسدل مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي الستار على فعاليات دورته السابعة والخمسين بعد أن منح جائزة الفهد الذهبية إلى فيلم "خاص" الإيطالي للمخرج سافيرو كوستانزو.

ورغم تعدد جوانب المهرجان الثقافية، إلا أن احتفاءه بصاحبة الجلالة الصحافة ضمن محور استرجاعي جاء خاصاً، حيث لامس به نبض الواقع المتجدد.

كم مرة شعر المواطن العربي، وهو يقرأ مقالاً أو يشاهد تقريراً تلفزيونياً عن قضية تهمه، أنه يحترق غيظاً؟ وكم مرة قال لنفسه وهو يتابع قلم الصحفي أو آلة تصويره، خاصة إذا كان الأخير من دولة غربية، “أيُ تحيز هذا يجانب الحقيقة”؟

قالها كثيراً، ورددها معه غيره من أبناء عروبته، فما أكثر القضايا التي تهمهم وينفعلون بها.

لكن، كما أن هناك الكثير الذي يعتقد العربي أنه يريد قوله للصحفي من خارج ثقافته، كذلك يستطيع حامل شعلة صاحبة الجلالة بغض النظر عن جنسيته. فلسان حاله يتلخص في عبارة واحدة: “للحقيقة وجوه متعددة”.

“على جبهة الأخبار!”

لعل ذلك التعدد في وجوه الحقيقة هو الرسالة الأساسية التي سعى مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي إلى التعبير عنها في محوره الاسترجاعي لهذا العام تحت عنوان “على جبهة الأخبار” – وهو الاسم الذي استعاره من عنوان فيلم المخرج فيليب نوييس الإسترالي (1978).

خصص المهرجان أكثر من واحد وتسعين فيلماً، تم إنتاجهم على مدى المائة والخمسة أعوام الماضية، للحديث عن الصحافة والصحافيين ضمن جوانب ومستويات متشعبة.

وكان لافتاً سعي معدي هذا المحور إلى التنويع في أفلامه، سواء في جهة الإنتاج التي شملت الأمريكية والأوروبية ودول العالم الثالث، أو طبيعة المواضيع المرتبطة بها.

أما الخلاصة فقد كانت بانوراما يخرج منها المشاهد لاهثاً وهو حائر.. تماماً كحيرة الصحافي ذاته.

الواقع كما يراه الصحافي!

“لا احد يهتم بما يحدث للعرب، دعهم يقتلون بعضهم البعض، لم لم يرسلونا إلى التشيلي مثلاً؟”، قالها معترضاً مصور فوتوغرافي إنجليزي لزميله المراسل الصحفي الألماني في بداية فيلم “تزوير” الألماني (1981). كلاهما كان في مهمة عمل لصحيفة ألمانية أرسلتهما إلى بيروت لتغطية حرب لبنان الأهلية.

غير أن المراسل الألماني كان مشغولاً عن تساؤلات زميله بمشاكله الشخصية، وبنفسه، وكان في كل ذلك حائراً. يسأل نفسه مراراً “كيف أنقل الخبر؟ هل دوري أن احدد من هو على حق أم على باطل؟ أم أنه مقصور على سرد الحقائق؟ ثم ما هي الحقائق أساساً؟”

تلك الحيرة كانت بالغة التأثير في إظهار الطابع الشخصي لنقل الصحافي للخبر، الذي يكتب عن الواقع من خلال تفاعله معه.

لكن فداحة الإدراك تأخذ بعداً أعمق عندما نجد أنه في سعيه اللاهث إلى الحصول على الخبر، إلى إطعام “الوحش” الذي لا يشبع من المعلومة، يساهم في خلق الحدث من خلال فبركته، وإلى المدى الذي دفعه إلى مرافقه أفراد من المليشيات وهي تقتل مجموعة من المدنيين.

أصبح الصحافي شريكاً في الحدث لا مُبلغاً عنه، أصبح بالأحرى شريكاً في الجريمة.

الضباع!

“إطعام الوحش” بأي ثمن قد يجعل من العاملين في بلاط صاحبة الجلالة ضباعاً لا تأبه لمصاب من تكتب عنه أو أسبابه، ليصبح الخبر في غلافه التجاري هو الهدف والغاية، أما الوسيلة فلا تهم كثيراً.

لذلك كان تساؤل الرجل العجوز في فيلم “اناباراستاسي” اليوناني (1970) للصحافيين الذين أحاطوا به، في محله “ما الذي جئتم لترونه؟ تعاستنا؟”.

حط هؤلاء الصحافيين كالقدر المزعج على قرية نائية عندما قتلت امرأة بمساعدة عشيقها زوجها العائد من هجرته في ألمانيا. لم يكن مهماً بالنسبة لهم أن يبحثوا عن أسباب ما حدث، أن يقرعوا أجراس الإنذار عن الفاقة التي جعلت من تلك القرية بلدة للنساء والشيوخ، بعد أن انتشر رجالها في أوروبا بحثاً عن الرزق.

لا. ذاك لم يكن مهماً. كان الأهم أو الأكثر إثارة أن يأخذوا صوراً لطفل القتيل وهو يقف أمام الحفرة التي أخفت فيها أمه وشريكها جثة أبيه. ذاك كان أدعى إلى جذب انتباه القارئ.

تزويق الواقع..

في مقابل “التجارة” بالخبر، قد يواجه الصحافي مشكلة محاولة “تجميل” الخبر، أو “تزييفه”، وهنا يكون الحديث عادة عن علاقة الباحث عن الحقيقة مع السلطة.

فعندما يختار الصحافي أن يقف في صف المعلومة كما يراها، لا كما يُراد لها أن توُصف، تبدأ علاقته مع السلطة في التعقد. كان أبلغ مثال على ذلك ثلاثة أفلام تسجيلية أخرجها الإيراني كامران شيرديل في الفترة بين 1966 و 1970 بتكليف من وزارة الثقافة الإيرانية.

أرادت وزارة الثقافة من شيرديل أن يصور أفلاماً دعائية تُروج لخطوات نظام شاه إيران التحديثية، لكنه وجد نفسه في كل مرة يوثق من خلال شهادات حية واقع الفقر والحرمان الذي عايشه الإيرانيون في تلك المرحلة. والنتيجة أن أفلامه منعت، وُوضع الرجل على قائمة الوزارة السوداء.

ملعون من الجميع!

هنا تتبدى أهمية “الاختيار” في مهنة البحث عن المتاعب. فالصحافي الإنسان، لا الملاك كما تحب بعض الأفلام تصويره، مطالب دائماً بأن يُجيب على السؤال الجوهري: “لصالح مَن سينقل الواقع؟”

المخرج الفلسطيني ايليا سليمان رد على ذلك السؤال في فيلمه “سجل اختفاء” (1996) بالتعبير عن واقع عرب إسرائيل ذي الأوجه المتعددة وإحساسهم بالغربة داخل جلودهم، أي أنه بكلمات أخرى أختار أن يتحدث عن الحقيقة في تعقيدها المحير.

ولأن التعقيد في شرح الأمور يظل مزعجاً للكثيرين، ولأن الناس عادة تحب التبسيط في الأمور، فإن المشكلة الكبرى التي تواجه الباحث عن الحقيقة في مثل هذه الأحوال، كما يقول أحد الصحافيين في فيلم “جيد إلى حد ما” الأمريكي (1969) هو أنه “أينما ذهبت سيضربونني”!

إلهام مانع – لوكارنو – سويس إنفو

جوائز مهرجان لوكارنو لهذا العام:
جائزة الفهد الذهبي لفيلم “خاص” الإيطالي للمخرج سافيرو كوستانزو
جائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم “توني تاكيتاني” الياباني للمخرج يون إشيكاوا
جائزة الفهد الفضي لفيلم “اوون جارد” الألماني للمخرج أيسي بولات
وجائزة الفهد الفضي الثانية لفيلم “داستان ناتامام” (من إنتاج إيراني أيرلندي سنغافوري مشترك) للمخرج حسن يكتاباناه

حدد مهرجان لوكارنو أربعة أنماط للصحافي في محوره “على جبهة الأخبار”:
“القديسون”، وهم الشرفاء الباحثون دائماً عن الحقيقة.
“الأشباح”، وهم كوكبة الصحافيين الذين يلاحقون الخبر أينما كان.
“القديس القذر”، وهو صاحب نوايا طيبة لكنه ينتهك القواعد المهنية للحصول على الخبر.
“القبيح”، هو ذلك الذي باع نفسه وفقد كل أخلاقيات المهنة.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية