مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

بينوشيه.. الدكتاتور الذي أفلت من المحاسبة

الجنرال أوغستو بينوشيه (وسط الصورة) يترأس اجتماعا مع طاقمه العسكري في سانتياغو عاصمة الشيلي يوم 20 سبتمبر 1973 بعد ايام قليلة من استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري Keystone

توفي الدكتاتور الشيلي السابق الجنرال أوغستو بينوشيه يوم الأحد 10 ديسمبر في سنتياغو عن سن تناهز 91 عاما.

وفاة بينوشيه تعلن عن نهاية صفحة سوداء من تاريخ الشيلي، التي فرض عليها واحدا من أشد الأنظمة العسكرية قمعا في أمريكا اللاتينية، وتثير ردود فعل وذكريات متعددة في سويسرا.

توفي الدكتاتور العجوز، الذي حكم الشيلي ما بين 1973 و1990، على الساعة الثانية والربع بعد الظهر بالتوقيت المحلي (السادسة والربع مساء بتوقيت سويسرا)، إثر إصابته بأزمة قلبية متكررة والتهاب رئوي.

من جهته أعلن سكرتير الحكومة التشيلية ريكاردو لاغوس فيبر أنه لن تقام مراسم تشييع رسمية ولن يعلن الحداد الوطني على الرئيس السابق أوغوستو بينوشيه الذي توفي أمس الأحد 10 ديسمبر 2006 بل ستقتصر جنازته على المراسم العسكرية، مضيفا أن الحكومة أجازت تنكيس الأعلام على المنشآت العسكرية.

وقد اندلعت حوادث عنيفة بالعاصمة سانتياغو مساء الأحد بين متظاهرين كانوا يحتفلون بوفاة بينوشيه، وبين الشرطة قبالة قصر لا مونيدا الرئاسي، كما أفاد شهود.

ووقعت المواجهات عندما أرادت الشرطة صد مجموعة ضمت أكثر من ألف متظاهر كانوا يتقدمون في جادة ألاميدا القريبة من القصر الرئاسي وسط سانتياغو، مستخدمة خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع لصد المتظاهرين الذين ردوا برمي الحجارة والزجاجات الفارغة.

ومع إعلان نبأ وفاة بينوشيه، أطلقت أبواق السيارات وتجمع مئات الأشخاص بساحة إيطاليا المكان التقليدي للتجمع في سانتياغو للاحتفال، ورقص المعارضون ومعظمهم من الشباب بالشوارع ورفعوا أعلام تشيلي بحسب المشاهد التي نقلها التلفزيون الوطني.

وقد أعلنت بالعاصمة أمس وفاة الرئيس السابق أوغوستو بينوشيه، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد بين عامي 1973 و1990، بعد أسبوع من إخضاعه لجراحة عاجلة إثر نقله إلى المستشفى مصابا بأزمة قلبية حادة والتهاب رئوي.

وأمضى بينوشيه (91عاما) السنوات الأخيرة من حياته يصارع منظمات حقوقية لاحقته بعد اعتزاله الحكم بتهم تتعلق بالفساد، وانتهاكات لحقوق الإنسان جرت خلال فترة حكمه.

عجز القضاء

وكان الجنرال بينوشيه قد استولى على السلطة في أعقاب انقلاب عسكري نُـظم يوم 11 سبتمبر 1973 ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب سالفادور آليندي، وأدّت عمليات القمع الدموية، التي تلت ذلك، عن سقوط ما يزيد عن 3000 ضحية، حسب منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان.

ومع أن القضاء الشيلي لم يتمكّـن من إدانة الدكتاتور السابق، إلا أنه كان محلّ متابعة قضائية بتهم انتهاك حقوق الإنسان والفساد، على إثر اكتشاف حسابات سرية تابعة له في مصرف أمريكي.

ردود الفعل المحلية والدولية تراوحت بين دعوة الكنيسة الكاثوليكية الشيلية، مؤيدي ومناهضي الجنرال الراحل، إلى “الهدوء والتعقل” وبين تعبير مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، التي ظلت على علاقة وثيقة مع بينوشيه عن “حزنها العميق”، فيما أشار البيت الأبيض في واشنطن إلى أن “مشاعره تذهب اليوم إلى ضحايا حكمه وإلى عائلاتهم”، أما في العاصمة ليما، فقد شدّد مدافعون عن حقوق الإنسان على “سخرية” هذه الوفاة، التي تزامنت مع احتفال العالم بالذكرى 48 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

علاقة ملتبسة مع سويسرا

وسائل الإعلام السويسرية، المرئية والمسموعة والمكتوبة، اهتمت بالحدث واستجوبت عددا من اللاجئين الشيليين، الذين فروا من بلادهم بعد الانقلاب واستقروا في سويسرا، كما ذكّـرت بالموقف الرسمي للكنفدرالية من النظام الشيلي، وحاولت التعرف على حقيقة ما يقال عن وجود أموال أودعها الدكتاتور السابق في المصارف السويسرية.

تقول الأرقام الرسمية، إن أكثر من 5800 شيلي قد تقدّموا بطلب للجوء السياسي في سويسرا في فترة حكم أوغستو بينوشيه لبلادهم، وقد حصُـل حوالي 1500 منهم على اللجوء، نظرا لأن السلطات الفدرالية (التي لم تكن ترغب في استقبال أكثر من 200 لاجئ في بداية الأمر) اضطرّت للتراجع أمام حركة التضامن، التي انتظمت في سويسرا، وخاصة في كانتون تيتشينو.

فقد استقبل القس غويدو ريفيور (توفي في شهر فبراير 2005 عن 103 عاما) الفوج الأول من اللاجئين، الذي كان يضم 5 أشخاص يوم 23 فبراير 1974 في مطار جنيف، ثم تمكّـن، بفضل دعم المجتمع المدني، من استقبال 100 عائلة وإقناع وزارة العدل والشرطة، التي كانت مترددة بمنحهم اللجوء السياسي في سويسرا، وفي عام 1992، عبّـرت جمهورية الشيلي عن تقديرها للجهود التي بذلها القس ريفيور ومنحته أعلى وسام يُـخصصه هذا البلد للأجانب.

وبشكل عام، اعتمدت سويسرا موقفا غير واضح تجاه نظام الجنرال بينوشيه. فمن جهة، فرضت السلطات الفدرالية حظرا على تصدير الأسلحة إلى الشيلي، لكنها لم تُـقدم في المقابل، على قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع سانتياغو.

من جهة أخرى، اجتهدت برن في الاحتفاظ بمسافة تجاه “الكاوديلو الشيلي” حتى بعد مغادرته للسلطة في عام 1990. فخلال الزيارتين التي قام بهما إلى سويسرا عامي 1991 و1994، أكّـدت السلطات الفدرالية أن الأمر يتعلق بزيارات خاصة وتمّ استبعاد أية لقاءات رسمية.

القضايا المرفوعة.. ظلت معلّـقة

القضاء السويسري اهتم في مناسبات متعددة بأوغستو بينوشيه. ففي عام 1998، طالبت جنيف بتسليمه في إطار قضايا تتعلق باختفاء أشخاص في فترة حكمه، أما في الآونة الأخيرة، فقد منحت برن تعاونها القضائي للشيلي في قضية تهرّب ضريبي تخصّـه.

في موفى شهر أكتوبر 1998، فتح المدعي العام في كانتون جنيف برنار برتوسا، تحقيقا ضد أوغستو بينوشيه بتُـهم القتل والاختطاف والاحتجاز في إطار قضية اختفاء الطالب أليكسي جاكار، السويسري – الشيلي.

وكان هذا الأخير قد اختفى في عام 1977 في بيونس إيرس، ويقول مقربون منه، إنه قد يكون اختطف من طرف عناصر في الشرطة الفدرالية الأرجنتينية وأعوان تابعين لإدارة الاستخبارات الوطنية الشيلية.

إثر ذلك، وجّـهت سويسرا طلب تسليم الدكتاتور السابق إلى السلطات البريطانية، حيث كان أوغستو بينوشيه قد اعتُـقل في لندن، بناء على طلب من القاضي الإسباني بالتاسار غارثون لاتهامات تتعلق أيضا بعمليات اختفاء في فترة الدكتاتورية (1973 – 1990)، لكن هذا الطلب لم يُـنفّـذ، حيث سمحت السلطات البريطانية لبينوشيه بمغادرة البلاد في مارس 2000، بناء على تقرير طبي اعتبر أنه “غير قادر على المثول أمام قاض”ٍ.

واليوم، يقول فرانسوا مامبري، نائب رئيس منظمة غير حكومية سويسرية، تكافح ضد الإفلات من العقاب، “بالنسبة لنا، كانت حالة بينوشيه مثالية. فقد مثل إيقافه في لندن تقدّما للقضية التي ندافع عنها، حتى لو أنه تمكّـن في النهاية من العودة إلى الشيلي. إننا نناضل من أجل اختصاص عالمي في ملاحقة أشخاص من هذا القبيل، الذين لا يجب أن يتمتّـعوا بعد الآن من الإفلات من العقاب في أي مكان”.

من جهة أخرى، تقدّم بيير ريبن، وهو مناضل سابق في صفوف أقصى اليسار السويسري، بشكوى ضد الدكتاتور السابق، متهما نظام الجنرال بينوشيه باعتقاله وتعذيبه واغتصابه في شهر أبريل 1974 في سانتياغو.

أموال في البنوك السويسرية؟

في سياق آخر، اهتم القضاء السويسري بحسابات مصرفية يُـحتمل أن تكون تابعة للدكتاتور السابق في سويسرا. ففي شهر مايو 2006، طلب النائب جوزيف زيزياديس من الحكومة الفدرالية، التحفظ على حسابات بينوشيه في سويسرا، لكنه لم يتلقّ أي ردّ على طلبه إلى حدّ الآن.

وفي شهر مارس 2005، تقدمت سانتياغو بأول طلب تعاون قضائي إلى برن، لكن سويسرا اعتبرت حينها أن الطلب “ناقص”. وفي الأسابيع الأخيرة، استكمل الملف وتلقت برن جميع الوثائق المطلوبة، وبالتالي، قررت برن منح تعاونها القضائي لسلطات سانتياغو، التي تتهم أوغستو بينوشيه بالتهرب الضريبي.

وترغب الحكومة الشيلية في الحصول على وثائق مصرفية، وذلك في أعقاب صدور تقرير مثير عن لجنة مكافحة تبييض الأموال، التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي، أفاد بأن بينوشيه قد تكون لديه 100 حساب مصرفي، تضم أكثر من 32 مليون دولار، وقد يكون جزء من هذه الأموال مودعا في سويسرا.

وفيما صرح فولكو غالي، المتحدث باسم المكتب الفدرالي للعدل، الأسبوع الماضي لصحيفة 24 ساعة، الصادرة في لوزان، بأنه “لم نجد أبدا أموالا تابعة له”، إلا أن فرانسوا مومبري، نائب رئيس منظمة Trial watch غير الحكومية السويسرية، التي تناضل من أجل عدم إفلات المسؤولين من العقاب، يقول “حتى لو تم سحب هذه الأموال منذ ذلك الحين، فإنه من واجب سويسرا أن تبحث بعناية كبيرة، لأن مجرّد القبول بأموال من بينوشيه، يُـمثل انتهاكا لقانون مكافحة تبييض الأموال، هذه الأموال يجب أن تعود إلى ضحايا الدكتاتورية”.

خلاصة القول، رحل الرجل الذي حكم الشيلي على مدى 17 عاما بقبضة من حديد، دون أن يمثُـل أمام هيئة قضائية في بلاده أو في الخارج لتحاسبه عن الجرائم الفظيعة المنسوبة إليه. ومع أن التعاطي السياسي لحكومات العالم مع النظام الذي أقامه بعد انقلاب 11 سبتمبر 1973 على الرئيس الذي عينه قائدا للجيش، قد تأثر بشكل كبير وحاسم بالصراع الذي كان محتدما طيلة تلك الفترة بين المعسكرين، الغربي والشرقي، إلا أن العالم لم يتمكّـن – رغم الجهود المضنية التي بذلتها منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان – من تجاوز الاعتبارات السياسية والأيديولوجية، ورسم أفق جديد لعالم لا يُـفلت فيه المسؤولون عن الجرائم من العدالة.

سويس انفو مع الوكالات

تعرض المهاجرون الشيليون الفارون من دكتاتورية أوغستو بينوشيه إلى معاملات مختلفة في سويسرا.

تم طرد البعض منهم فور وصولهم إلى سويسرا باتجاه بلادهم، فيما تمكن آخرون من البقاء في الكنفدرالية بفضل تضامن السكان.

في أكتوبر 1974، وصل 32 شيلي إلى سويسرا، وطلبت منهم السلطات الفدرالية مغادرة البلاد على الفور، لكن عددا من العائلات السويسرية قامت بإخفائهم عن الأنظار، وبعد نضال طويل، سُـمح لهم بالبقاء في البلاد، لكنهم لم يُـمنحوا اللجوء السياسي.

في أكتوبر 1985، منحت كنيسة سيباخ، القريبة من زيورخ، المأوى والدعم لـ 52 طالب لجوء شيلي كانوا على وشك الترحيل واستمرت المواجهة مع السلطات 9 أشهر وتميّـزت بإضراب جوع شنّـه الشيليون. وفي نهاية المطاف، تمكّـن المهاجرون من الإفلات من الطرد القسري.

في كانتون تيتشينو، اتسم التضامن مع المهاجرين الشيليين بالقوة والاتساع، حيث قام السكان بإخفاء عشرات طالبي اللجوء السريين، القادمين من إيطاليا المجاورة.

إجمالا، بلغ عدد الشيليين الذين منحتهم السلطات الفدرالية اللجوء السياسي، 1500 شخص مقابل 5800 تقدموا بطلبات لجوء في الحقبة الدكتاتورية في بلادهم، الممتدة من 1973 إلى 1990.

ما بين 1973 و2005، تحصل حوالي 2500 شيلي على الجنسية السويسرية.

في موفى 2005، فاق عدد المواطنين الشيليين المقيمين في سويسرا 3500 شخص.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية