مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تحولات كبرى إلى الوراء .. وجزئية إلى الأمام

جسدت عودة الإحتلال الأجنبي إلى بلد عربي بحجم العراق التدهور الكبير الذي بلغته الأوضاع في الغالبية الساحقة من بلدان المنطقة العربية Keystone

سيُـذكّـر عام 2003 بأنه العام الذي أعاد العالم العربي نصف قرن إلى الوراء، أو لنقل أعاد ذكرياتهم وواقعهم إلى ما قبل الاستقلال الشكلي الذي تنعّـمت به بعض دول، وحرمت منه دول أخرى.

وبحيث أصبح للعرب دولتان بدلا من واحدة، تُـجاهدان من أجل الحصول على السيادة الضائعة والاستقلال المفقود..

أولهما، فلسطين التي تجاهد منذ أكثر من نصف قرن للاعتراف بحقها في الوجود كدولة شرعية تضم في جنباتها أبناء شعب يذوقون الأمـرّين في كل لحظة، سواء كانوا فى الداخل أم في الخارج. والثانية، دولة العراق الحديث، التي تحوّلت من دولة مستقلّـة إلى أخرى تحت الاحتلال الأنغلو-أمريكى.

بدأ عام 2003 بأزمة كبرى، وانتهى بحال من المهانة التي لم يعرفها العرب من قبل، جسدتها صورة من كان زعيما يُـقلـق العالم بأسره إلى مجرد سجين ذي أهمية خاصة جدا، وقد وقع في الأسر بكل ما يعنيه من فقدان الحرية والإرادة والإدانة معا، وبين الأزمة والمهانة تجسّـد احتلال العراق وسقوط عاصمة الرشيد بيد محتل اجنبى. وفي كل هذه التحوّلات، بدا العرب فاقدين البوصلة، لا يعرفون لسفينتهم اتجاها مُـعيّـنا.

لكن المفارقة الأكبر، هي أن فقدان الاستقلال والوقوع تحت طائلة الاحتلال، وجد من يُـناصره، ويقف خلفه، باعتباره تحريرا من نير حاكم مستبد، ظلم نفسه وأمّـته أيّـما ظلم، ولم يكن هناك اختيار إلا باستدعاء الأجنبي ليحرر الشعب المظلوم. الأمر الذي كشف عورات النظام العربي، وفضح انكشافه وضُـعفه على نحو لم يعُـد هناك مجال لإنكاره أو تجاوزه.

والأمر الأدهى أن الشيء الوحيد الذي يملكه العرب الآن لا يعدو أن تكون مطالبات بسرعة نقل السيادة إلى الشعب العراقي، فيما يجيء آخرون من أقصى الأرض ليخُـطّ بيديه علامات مناهضة ومقاومة للاحتلال، ولكن لصالحه ومراميه الخاصة، قبل أن يكون لصالح الشعب العراقي، فيما تختلط الصورة وتضيع معها الكثير من العلامات الواضحة.

وهكذا يدخل العرب عامهم الجديد، وهم في حال تخبط، فلا استقلال دولة عربية كبرى حافظوا عليه، ولا سيادة هم قادرين على إعادتها، ولا مقاومة منظمة ميدانية أو سياسية راغبين في دعمها.

انهيار حلم السلام في فلسطين المحتلة

لا يقل الحال في فلسطين إزعاجا وحُـزنا عمّـا آل إليه الوضع في العراق. فعملية السلام تُـشرف على الانهيار، وحلم دولة فلسطينية يُـواجه الموت بشرف وكرامة. وخطط دولية ترعاها أربع قوى دولية، يُـطاح بها على الأرض، دون أن يُـزعج ذلك أحد في العالمين.

وفي كل ذلك، تتوارى الانتقادات والأفعال الجادة أمام الاندفاع الذي يقوده شارون لإجهاض أي تسوية مُـحتمَـلة قابلة للحياة، تقوم على مبدإ قيام دولتين جارتين تعيشان في سلام، وهو المبدأ الذي أعلنه الرئيس جورج بوش قبل عام ونصف، ولكنه تآكل وتداعى مع مرور الزمن.

ما يحث في فلسطين ليس مجرد جُـمود في المفاوضات، أو مقاومة مشروعة أخطأت طريقها، أو سلطة وطنية لم يعد لها من الوجود سوى رمز البقاء دون فعالية الفعل. إنه التّـغيير إلى الأدنى.. فالأدنى.. فالأدنى، وهكذا.

وفى كل حركة إسرائيلية، ثمّـة هدف واحد؛ إنه إنهاء حُلم الدولة والقبول بفتات العيش في معازل مُـحاصَـرة بكُـتل الأسمنت تتحكّـم فيها هواجس الأمن المُـبالغ فيها، وعجز القوى الكبرى قبل أن يتحكّـم فيها الجنود أنفسهم.

والأخطر هنا، هو ذلك الجدار العازل الذي يتلوى في الأرض الفلسطينية كثعبان لا هـمّ له سوى قضم الأرض الفلسطينية، ومنعها من التواصل الجغرافي، وفرض العزلة الإجبارية على مئات الآلاف من البشر.

والأخطر من ذلك، هو أن الدولة الكبرى في العالم تقف عاجزة عن وقف الجدار، ولا تملك سوى أن تخصم أقل من 290 مليون دولار من ضمانات قروض بعشرة مليارات دولار، كنوع من الغضب الرمزي الموجّـه أساسا للتّـأثير على مواقف الحكومات العربية، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير في بناء الجدار العنصري أو حتى تغيير مساره، بما يتناسب مع حدود الضفة الغربية المحتلة.

وكأن الطرفان اجتمعا على فعل رمزي لا معنى له، يتم تسويقه إلى العرب، فيما الفعل الحقيقي هو تمويل الجدار والاستيطان وكل ما له صلة بفرض أمر واقع عنصري، كان يُـعتقد أنه بعيد المنال، فإذا به يحدث على مرأى ومسمع من العالم بأسره دون أن يهتز له شعرة. فهل حلّـت البَـلادة في العالم كما حلّـت من قبل في صفوف العرب؟

إسرائيل: تهديد للأمن العالمي

ويقود كل ذلك إلى الاعتراف بشجاعة الرأي العام الأوروبي قياسا إلى تخاذل المواقف الرسمية، والذي أقـرّ بالحقيقة دون مواراة أو خجل أو خوف من الاتهام بمعاداة السامية. إنه الرأي العام الذي أقـرّ بنسبة 59% في أحد الاستطلاعات عمّـا في داخله من شعور وتقييم لدولة إسرائيل باعتبارها أكبر تهديد للسلام العالمي.

إنهم الأجيال الجديدة من الأوروبيين الذين يرون الحقيقة كما هي، وكما تعكسها سلوكيات الحكومات الإسرائيلية تُـجاه الشعب الفلسطيني كل لحظة، وتُـجاه تحريض الدولة الأكبر في العالم على كل ما له صلة باستقرار العالم وأمانه، وتُـجاه ابتزاز حكوماتهم وتخويفها، وعدم أخذها في الاعتبار أصلا.

ورغم كل السّـطوة الإعلامية، وكل المواد التي حاولت في السابق وما تزال، دفع الأوربيين إلى قبول النهج الإسرائيلي باعتباره الوحيد غير القابل للنقد أو الإدانة. فقد تحرر ما يقـرُب من ثلثي الأوروبيين من تلك السياسات، وباتوا يُـدركون بعُـمق التهديد الذي تُـمثله إسرائيل عليهم وعلى أمن العالم معا.

إنه تطور مهم بلا شك، سيكون له دور ما في تحديد الكثير من المواقف الأوروبية في غضون عقدين من الآن، أو هكذا يتوقّـع الكثيرون.

قرار ذو أهمية استراتيجية

تغيّـر الرأي العام الأوروبي تُـجاه إسرائيل، يُـرافقه تطوّر آخر لا يقل أهمية، إنه النزوع الذي تقوده كل من فرنسا وألمانيا وبلجيكا نحو بناء منظومة أمنية أوروبية مستقلة.

وهو ما تُـدركه الولايات المتحدة بأنه بداية قوة أوروبا الحقيقية، وتحولها إلى قُـطب دولي في غضون عقدين، سيكون له شأنه في المنافسة الكونية مع الولايات المتحدة نفسها، ومن هنا جاءت المعارضة الكبرى لواشنطن والتلويح بأن تلك القوة حال انتظامها وتشكيلها ستُـلقي بظلالها على “وحدة” الأطلنطي.

اتجاه أوروبا نحو تشكيل وحدة للتخطيط العسكري الأمني، هو البداية الأولى لأن يكون لأوروبا رؤيتها وذراعها الأمني المستقل عن الأطلطني الذي كبّـلها كثيرا، وأتاح في الوقت نفسه لواشنطن سطوة غير مسبوقة على مُـجمل السياسات الأوروبية الكونية.

ولعل الخطر الكبير الذي دفع بمؤيدي الفكرة أن يكون لأوروبا الموحدة ذراعها الأمني، يَـكمُـن في السياسات الأمريكية نفسها، ونزعتها الأحادية التي كشفت عن نفسها في قرار غزو العراق بعيدا عن أي مظلة دولية، وهي نزعة لن تترك أوروبا في مأمن، إذا واصلت صُـعودها دون توفرها على رادع خاص بها.

إن القرار الأوروبي، رغم رمزيته – أي مُـجرّد إنشاء وحدة للتخطيط – لا يُـلغي أهميته الاستراتيجية الكبرى، إذا تواصلت الخُـطوات اللاّحقة من أجل بلورة قوة عسكرية مدعومة بقوة أوروبا الاقتصادية ورؤيتها الخاصة لمصادر التهديد، بعيدا عن هيمنة أمريكا وتدخلاتها المُـعاكسة للمصالح الأوروبية، ولمصالح العالم كله.

الحريات في أوروبا..

لم يخلُ عام 2003 من نكسات وتراجعات، وفى أحد أهم البلدان الأوروبية، فرنسا، انتهى العام على توصيات بهدف حماية العلمانية، ستتحوّل إلى قانون حسب مسعى الرئيس شيراك، فرضت حظرا على ما سُـمي بالعلامات الدينية الكبيرة، في مقدمتها “الحجاب الإسلامي” و”القلنسوة اليهودية” و”الصليب الكبير”.

وكان سبق ذلك، توصية مُـشابهة من إحدى المحاكم الألمانية بأن تقوم المجالس التشريعية المحلية في المقاطعات بوضع قانون يحظـر ارتداء الفتيات المسلمات أو المعلمات لـ “لحجاب الإسلامي” في المدارس العامة.

وهذه هي المرة الأولى التي يرى فيها بلدان أوروبيان كبيران أنهما معنيان بمواجهة الحجاب الإسلامي، الزى يدخل في إحدى زواياه تحت بُـند الحريات الشخصية، والتي هي إحدى أهم أسس العلمانية التي تعض عليها أوروبا بالنواجذ أو هكذا تُـعلن.

ولعلّ الموقف الأوروبي العام الرافض للنهج الفرنسي، يعدل الميزان قليلا، ويُـعطى المثـل بأن أوروبا ليست كلها في حال حرب دينية مع الإسلام والمسلمين فيها.

إرهاب وإصلاحات

لم تفلت السعودية من أن تكون بؤرة لتفاعلات مهمة وأحداث أهم. فمن الإرهاب الذي طال مجمّـعين سكنيين كبيرين في شهري مايو ونوفمبر، إلى ضغط أمريكي كبير لأهداف خاصة، محورها ابتزاز المملكة كامتداد لحال برز وتبلور في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، إلى البدء في عملية إصلاح سياسي وديني لم تعرفها المملكة من قبل.

البارز هنا أمران، تلك العرائض الثلاث التي قُـدّمت لولي العهد، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، وكان محورها ضرورة إصلاح البيت السعودي من الداخل، وإلاّ فلت الأمر. والإصلاح المطلوب، والذي توافق عليه أهل الحُـكم وفئات عريضة من المواطنين، طال المؤسسات والأفكار، وحال المظالم الذي نال لفترة طويلة فئات من السعوديين من مذاهب أخرى، شيعية ومالكية حجازية وشافعية.

وكان جريئا أن يعترف الحكم، وإن على خجل أحيانا، بوجود المظالم والفقر والبطالة، ولكن الأجرأ قياسا لوضع المملكة نفسها، أن تبرز تيارات ليبرالية تُـعبّـر عن نفسها بقوة، بعد أن ظلّـت كامنة في رَحـم المجتمع طويلا.

والأكثر جرأة، أن يطول النقد المؤسسة الدينية وما حملته من أفكار تندرج تحت بند الغلو والتشدد في الدين، وعلى نحو كلّـف المملكة الكثير من سُـمعتها، ومن حياة الكثير من مواطنيها والمقيمين فيها.

سودان قريب من السلام

أخيرا وبالرغم من كل التعثّـر والبُـطء الذي يسُـود المفاوضات السودانية بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون غارانغ، وذلك تحت مظلة منظمة الإيجاد الأفريقية، فإن حال السلام يبدو قريبا، ليس فقط بسبب الضغط الأمريكي والإفريقي، ولكن أيضا بسبب أن الطرفين المتقاتلين في السابق باتا متعبين ومنهكين.

كما أن ضغط المواطن السوداني من أجل السلام والأمن، لم يعد ممكنا تجاوزه، سواء في الشمال أو الجنوب، وهو ما يفسّـر توقيع اتفاقيات أساسية على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي، والاستمرار في التفاوض، رغم كل العقبات.

لكن الشيء المُـحزن، أن كل التطورات الرئيسية التي عرفتها الساحة السودانية لم يُـشارك فيها أحد من العرب، وتعود أساسا إلى الوسيط الكيني، ومن ورائه أصدقاء الإيجاد في واشنطن وعواصم أوروبا المختلفة.

د. حسن أبو طالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية