مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

حصيلة 40 عاما من حكم القذافي: “نظام استبدادي أعاد إنتاج الزّعامة القبلية”

العقيد الليبي معمر القذافي أثناء الخطاب الذي ألقاه يوم 27 سبتمبر 1969 في طرابلس على إثر الانقلاب العسكري AFP

على الرّغم من أن توفيق المنستيري بدأ متابعة الشؤون اللِّـيبية في أعقاب الانقلاب الذي نفّـذه "الضبّـاط الأحرار" في الفاتح من سبتمبر 1969 من موقع الباحث والخبير، فإنه لم يتعاطَ مع القِـيادة الشابة، التي مسكت بزِمام الأمور ببرودة المشاهد المحايد، وإنما كان واحدا من جِـيل وضع آمالا كبيرة في "الثورة الليبية"، مثلما كان يُسمِّـيها أصحابها.

كان جيلا يعتقِـد أن الزلزال الذي أطاح بالملكية السنوسية، سيأتي أخيرا بالدواء الذي طال انتظاره لعلاج الرّجل المريض.

لم يستطع المنستيري، الذي عمل أكثر من ثلاثين عاما في “المركز القومي للبحث العلمي” الفرنسي وفروعه في مدينة “أكس” الجامعية، أن يلجم الذِّكرى التي هاجت في داخله، ونحن نهم بإجراء هذا الحوار، فقال في اعتراف هو ليس بالاعتراف وتبرير لا يُشبه التبرير “تابعناهم (أي الضبّـاط الأحرار) باهتمام وإعجاب، وكنا وإياهم في نفس السن تقريبا. فأنا مثلا من سِـن معمر القذافي، وكان المجتمع الليبي قبَـليا وبدَويا بنسبة 75%. اقتصرت المُـدن تقريبا على طرابلس وسـبْـها وبنغازي. بلد قليل السكّـان، إذ لم يكُـن عددهم يتجاوز 2.5 مليون ساكن في تلك الفترة، وكبير الثروة وعلى رأسه، شبّـان ثوريون مثلنا، فكيف لا يشدّنا إليه، وإن كُـنا ملاحظين ولسنا فاعلين”.

swissinfo.ch: ما هي أهمّ التحولات الأولى التي حملها فريق الشبان الثوريين معه لمّـا أمسك بزمام الحُـكم؟

توفيق المنستيري: تحوّلان أساسيان: هما قيام الجمهورية العربية الليبية في 1969 وإعلان “سلطة الشعب” في مؤتمر كبير عُـقد في 3 مارس 1973. وتضمّـن الإعلان فِـكرة الجماهيرية وتكريس شِـعار “من تحَـزّب خان”، وظهرت خاصة المرجعية الاشتراكية للنظام، لكنها اشتراكية من نوع خاص.

هل حاولتم فهْـم هذه المُـصطلحات والشعارات ودلالاتها على صعيد تشكيل بِـنية النظام الجديد؟

توفيق المنستيري: بلى، حلّـلنا أفكار القذافي فوجدنا أنه متأثِّـر بآراء جون جاك روسّـو، وكان المثقف الليبي القمودي، الذي درس في تونس وكان يُتقن العربية والفرنسية، هو الذي يُـترجم له فصولا من كُـتب روسو، فأعجِـب بأفكاره السياسية، وخاصة فكرته عن سلطة الشعب التي هي الحُـكم الطبيعي، أي الأقرب إلى الطبيعة، وصادف هذا التفكير تجاوبا لدى القذافي وأقرانه المُـنحدرين من أسَـر بدوية.

فالعناصر البدوية في الثورة أبعدَت الحضر وتخلّـصت منهم سريعا، لأن البدوي لا يفهَـم ما معنى حدود أو قانون وضعي… وهو يتهرّب عادة من المدينة ولا يثِـق إلا في بدوي مثله.

تمّ البناء حجرا حجرا، وكان القذافي هو المُـنظِّـر طيلة المرحلة الأولى، قبل أن يأتي المنظِّـرون الحاليون، أمثال رجب بودبوس، وفهمنا من خلال متابعة مسار النظام الجديد عن كثَـب طيلة السبعينات، أننا بإزاء نظام “بدوينقراطي”، إن صحّـت الترجمة من Bédouinocratie، ولسنا بصدد نظام “ثيوقراطي” أو “أوتوقراطي” أو أي نموذج من النماذج المعروفة في العِـلم السياسي الكلاسيكي.

فكانت الدولة غائبة le non état، لِـذا اهتممنا بهذا الجديد، فلا رئيس، بل هناك قائد، ولا أحزاب، بل لجان شعبية تُسيِّـر الإدارة ولِـجان ثورية، هي الثورة، ثم شكّـلوا بعد ذلك لِـجان المراقبة. هكذا رصدنا تكوين نظام سياسي من نوع خاص، من دون الحُـكم له أو عليه. كان نظاما لافتا للاهتمام في نظريته التي وزّعت الأدوار بين ثلاثة أهرامات:

– الإدارة التي كانت بأيْـدي اللجان الشعبية، وهي لا تُـعيَّـن ولا تُنتَـخب، وإنما تُختار بواسطة “التصعيد”، وهي التي تُصعد اللجنة الشعبية العامة، أي الحكومة، وهو مصطلح مرفوض لديهم، وتختار أمينها، أي رئيس الوزراء، ويشمل هذا الرّكن البلديات أيضا، إذ لا وجود لرئيس بلدية. وعلى رأس هذا الهرَم يوجد “مؤتمر الشعب العام”، الذي كان يترأّسُـه في أحيان كثيرة القذافي نفسه، حتى عقد الثمانينات، ثمّ صار آخرون يتولّـون المنصِـب.

– اللِّـجان الثورية التي لا يعرِف أحد كيف يتِـم “تصعيدها” ولا كيف يُنتقى أعضاؤها، وهي تحكم لكنها لا تُسيِّـر الدواليب بالمعنى الإداري ولا تتفق أحيانا مع “اللِّـجان الشعبية” وحتى مع “القائد”، فتضطره إلى التراجع عن بعض أفكاره.

– لِـجان المراقبة التي تشكّـلت في الفترة الأخيرة بسبب عدم التفاهم بين اللِّـجان الشعبية والثورية، وهي أيضا جِـهاز لا يعرفه أحد.

هذا نظام جيِّـد على الورق، لأنه يُتيح للشعب أن يدير شؤونه بنفسه، أي يكرِّس الديمقراطية المباشرة، لكننا مع كل أسف اكتشفْـنا في الثمانينات أن كل ذلك صوري أو افتراضي بلُـغة اليوم، لأن الحُـكم يرجع في الواقع إلى “القائد” والجيش والقبائل، وهي قبائل مسلّـحة.

وبدأ رِفاق سلاح القذافي يبتعِـدون عنه ويهربون، وأبرزهم عبد السلام جلود، الذي احتمى بقبيلته في نهاية المطاف، مثلما أن القذّافي محمِـي من قبيلته هو الآخر. وكما قال هو في الجزء الأخير من “الكتاب الأخضر” عن سلطة الشعب، فالنفوذ الحقيقي يرجع في النهاية إلى الأقوى، بمعنى أن البقاء لـ “الأصلح”.

وكيف تُحدّد طبيعة النظام السياسي في ليبيا طِـيلة العقود الأربعة الماضية، وما هي أهم سِـماته؟

توفيق المنستيري: هو نظام استِـبدادي يختفي وراء مظهر جذّاب ومرِح أحيانا Sympathique، ولاشك أن خروجه المتكرّر على النّـمط المألوف، يجعل مواقفه الداخلية والخارجية تشدّ الانتباه، وتبدو مواقِـف أقل ما يُقال عنها أنها شاذّة، وتنزعج منها الدول العربية الأخرى. فلو ضربنا مثلا بموقفه من المرأة، لوجدنا أن التشريع اللِّـيبي مُقتَـبس من قانون الأحوال الشخصية التونسي، مع احترامه للعادات الاجتماعية وللمرجعية الإسلامية، ويظهر ذلك خاصة في مسألة تعدّد الزوجات.

فبمُـقتضى القانون الليبي، ينبغي على الرجل الذي يرغب في الزواج من ثانية، أن يصطحب زوجته الأولى إلى المحكمة لكي تُوافِـق على الزيجة الثانية أمام القاضي، وكذلك الشأن بالنسبة للطلاق، فإذا قرّر الزوج الانفصال عن زوجته، يبقى البيت لها.

ويمكن القول أيضا أن التطوّر نفسه حصل في مجال التعليم الذي تمّ تعميمه ونشره في كل المناطق. وبما أن المجتمع بَـدوي وأهله يرتحلون كثيرا، تمّ إيجاد مدارس متنقِّـلة ترتحِـل مع القبيلة ويُدَرِّس فيها معلِّـمون من أبناء القبيلة، وهذا يعني أن القذافي عندما يُقيم في الخيمة أثناء سفراته إلى الخارج، فتلك الرسالة ليست موجّـهة إلى المجتمعات الغربية، وإنما إلى الليبيين، ومفادها: “لم أغادر القبيلة”.

قد يبدو لنا الأمر فولكلوريا، لكنه رسالة قوية إلى جماعته، فهُـم لم يختاروا رئيس دولة، بل “قائدا”، وهذه العبارة تُتَـرجم خطأ في الغرب بـ “Le Guide”، بينما الأصَـح هو “Leader”. لاحظ أنه يتمسّـك بتلك الهوية القبلية ويرفُـض النمط الاجتماعي الحضري، ولهذا أبعد كل الوزراء المُـنتمين إلى المُـدن واحدا بعد الآخر.

ما هو رأيك في نظريات باحثين رصدوا تطوّر النظام السياسي في ليبيا، واستخلصوا أنه أعاد إنتاج الزّعامة القبلية؟

توفيق المنستيري: بالتأكيد أشاطر هذا التحليل، ووصلت إلى مثل هذه الإستخلاصات منذ وقت مبكّـر بعدما لاحظت أن البدو هم الذين بأيديهم السلطة، كما يريدون لها أن تكون وكما يتصوّرونها.

ما هي انعكاسات ذلك على بنية الدولة؟

توفيق المنستيري: لمّـا جاء القذافي إلى الحكم، كانت ليبيا فدرالية مؤلّـفة من ثلاث محافظات، هي برقة، الملتفتة إلى المشرق العربي، وكانت تحت سيطرة البريطانيين أيام الاحتلال، وطرابلس، الملتفتة إلى تونس، وفزان في الجنوب وعاصمتها سبْـها، وهي إفريقية الهوية والارتباطات، ومن هُـنا جاء التوجّـه الإفريقي للنظام اللّـيبي.

كانت البلاد كنفدرالية في البدء، ثمّ صارت فدرالية، فسعى القذافي إلى كسْـر هذه التّـقسيمات وواجه صعوبات، إلا أنه اختار سِـيرت، عاصمة سياسية وليست إدارية، لأنها تقع في الوسط.

وتقول الروايات التاريخية، إن مدينة سيرت نشأت بعدما اتّـفقت الدولة الرّومانية التي كانت تحكُـم المشرق انطلاقا من الإسكندرية، والدولة البونية التي كانت تحكم الحوض الغربي للمتوسط انطلاقا من قرطاج، على وضع علامات حدودية بينهما، فأرسلتا عدّاءيْـن أولمبييْـن، أحدهما انطلق من الإسكندرية، والثاني من قرطاج في لحظة واحدة وفي اتِّـجاهين متقابلين. وكان الاتفاق أن توضع العلامات حيث يلتقيان، فتلك هي الحدود، لكن القرطاجيين تذاكروا وأرسلوا عدّاءهم قبل الوقت المتّـفق عليه، فكان اللقاء في سيرت.

فالقذافي ألغى المحافظات الثلاث قبل اختيار سيرت عاصمة سياسية، ثم اضطر إلى العودة إلى نظام الولايات، لكن بتقسيم مختلف لمحْـو الحدود السابقة، خصوصا أن اللِّـجان الشعبية لا تحترم تلك الحدود. ومن خلال تلك التجربة، صار أكثر تشبّـثا بفكرة الوِحدة، وهي وِحدة تتدرج عبْـر أربع حلقات: الليبية والعربية فالأفريقية ثم الإسلامية، وهي فكرة تحوّلت إلى هاجس مَـرَضي يُلحّ عليه باستمرار. وأفضل مثال على ذلك، الهزيمة التاريخية في تشاد والخسائر الكبيرة التي تكبّـدتها ليبيا في جميع المُـستويات أمام فرنسا.

كان القذافي يردِّد في جميع خُـطبه، بعدما أخذ الحكم، عبارة غامضة هي “وِحدة ليبيا من طرابلس إلى أوزو”، وظل العالم بمَـن فيه الخبراء يتساءل: ما هي أوزو؟ فاكتشفنا أنها واحة تقع في شريط من الأرض على الحدود الجنوبية لليبيا المُـتاخمة لتشاد، وقد رسمتها بكل بساطة مِـسطرة ضابطيْـن، إيطالي وفرنسي، لما كانت ليبيا تحت الاحتلال الإيطالي وكانت تشاد ضِـمن الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية.

أخذ الضّـابطان المِـسطرة ووضعا خطّ الحدود بطريقة جعلت الواحة في الجانب التشادي، لكن لم يتِـم التّـصديق على الاتفاقية من الجانب الليبي ولا من الجانب الفرنسي، لأن باريس أصبحت مُـنشغلة بما هو أهمّ بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.

ولما تغيّـر الحُـكم في ليبيا سنة 1969، لفت أحدهم انتباه القذافي إلى أنه لم يُستكمَـل التصديق على الاتفاقية وأنه من حقّ ليبيا استعادة الشريط والواحة، وهكذا تطوّرت الأمور بالطريقة المعروفة إلى حدّ الصِّـدام والحرب، لكن ليبيا خسرت المعركة العسكرية وأيضا الدبلوماسية في محكمة العدل الدولية بلاهاي. والملاحظ أن الخرائط الليبية الحالية ما زالت تضع الواحة ضِـمن أراضي ليبيا.

كان القذافي مُـراهنا على الجنرال حسين حبري، لمّـا كان يقود المُـعارضة المسلّـحة، لكن بمجرّد وصوله إلى سدّة الحكم في نجامينا، انقلب عليه. ولم تتغيّـر الأمور مع وصول إدريس ديبي، الموالي لليبيا إلى الرئاسة. فمحكمة لاهاي أصدرت حُـكما مُـبرما في شأن أوزو، وهذا معناه أن القذافي لم يكُـن داهية وخسِـر حربيْـن. وقد فشلت كل المحاولات الوحدوية التي أطلقها، لأن الكياسة واللّـباقة تنقصانه.

لكن ما مسؤوليته عن إخفاق الوحدة مع تونس؟

توفيق المنستيري: وزير الخارجية التونسي آنذاك محمد المصمودي، هو الذي أتى بالفكرة، وكانت تونس ترغب في الالتحاق بمنظمة الدول المصدِّرة للنفط (الأوبيب)، لكن الجزائر اعترضت على انضِـمامها، فحقد بورقيبة على بومدين ووجد في مشروع الوِحدة مع ليبيا فرصة للدخول إلى نادي “الأوبيب” من الباب الكبير. وشكّـل فشل الوِحدة خسارة للبلديْـن، لأن هناك تكاملا طبيعيا بين تونس وليبيا، فالأولى تملِـك الكوادر وليست لديها ثروات طبيعية كبيرة، والثانية، بلد شاسع وغني بالثروات، أما الحدود بينهما، فتكاد تكون صورية، إذ كان عدد كبير من الليبيين يعيشون في تونس في سنوات الاحتلال الإيطالي، كما أن عشرات الآلاف من التونسيين صاروا يعملون في ليبيا بعد اكتشاف النفط.

ولو لم تكُـن الوحدة فوقية ولو تمّ الإعداد لها جيدا، لأعطت مولودا غير مُـشوّه. صحيح أن الجزائر عارضتها، لكن فرنسا لم تقِـف ضدّها. وفي المحصّـلة، يمكن القول أن هناك محاولات وحدَوِية كثيرة، إلا أنها ذهبت أدراج الرياح بسبب قلّـة التفكير وسوء التحضير.

ألَـم تكن الخُـطب الثورية ومشاريع الوحدة نوعا من التّـمويه لإلهاء الليبيين عن قضاياهم الحقيقية؟

توفيق المنستيري: لا أعتقد أنه داهِـية إلى هذا الحدّ، فهو رجل سطحي ومراهِـق ثقافيا، لكنه استطاع البقاء في الحُـكم لأنه مدعوم من قبيلة قوية ومسلحة. المُـهم هنا هي العصبية، لأنها أقوى من الانتماء الحزبي، ولما يعتبِـر القذافي أن “من تحزّب خان”، فذلك مفروغ منه، لأن لديه رابطة ولحمة أقوى من أي حزب سياسي.

ولماذا أبعَـد رفاقه من الضباط أعضاء مجلس قيادة الثورة؟

توفيق المنستيري: لم يبق منهم اليوم سوى اثنان، هما مصطفى الخروبي والخويلدي الحميدي، أما الآخرون فنحّـاهم جميعا وبدأ بمحمود المغربي، أول رئيس وزراء في ظل الجمهورية، ثم وزير الخارجية الأسبق المرحوم رشيد منصور الكيخيا، وكان من مستوى مرموق ولديه سُـمعة جيدة وعلاقات واسعة في العالم، فهو من أسرة مدينية تنحدِر من أصول تركية وكان يتكلّـم لغات عدّة، ولمّـا أقام في مصر منفِـيا، حاول توحيد فصائل المعارضة وتقريب الشقة بينها وبين القذافي، ومع ذلك، تمّ اختطافه وتصفيته. وبعد تلك الإقصاءات والتصفيات، حصلت لدى جيلي خيْـبة أمل من التجربة برمّـتها…

ألا توجد تباينات واختلافات في وجهات النظر داخل هذا البناء السياسي؟

توفيق المنستيري” بلى، وسأكتفي هنا بحادثتين بليغتيْ الدّلالة: الأولى، عندما دعا إلى تطبيق الشريعة، لكن على أن يقتصر الشرع على القرآن، دون السِّـيرة النبوية، وفسّـر ذلك بأن العالم الإسلامي بأسْـرِه لا يختلف على كتاب الله، فإذا تَـلَـوْت آية، عرف الناس فورا أنها من القرآن، أما إذا قرأت حديثا، فأغلب الناس لا يعرفونه وربّـما لا يثقون في صحة نسبه، فدعا إلى “تنقية الشريعة” من كل ما هو ليس نصّـا قرآنيا.

ولما عارضه كثيرون وانتقدوا الفكرة التي طلع بها، تخلّـى عنها، وهذا يعني أن نظامه المؤلّـف من لجان شعبية ولجان ثورية هو الذي عارضه. وأذكر في هذا السياق، أنني حضرت آخر دورة لمؤتمر الشعب العام (أي ما يقابل البرلمان في الأنظمة الديمقراطية) وكان القذافي يرأس الدورة بنفسه، فعُرض على المؤتمر مشروع قانون يخُـص تهيئة الشريط الساحلي وتُمنع بمُـقتضاه البنايات الجديدة وتُهدم البنايات القائمة، فعارضه كثيرون ولم تتِـم الموافقة عليه في النهاية. كذلك حاول حمل مؤتمر الشعب العام على سن قانون “المعلم الثوري”، وهو يتمثل في إجبار كل مدرِّس في القطاع العام على قضاء شهر من إجازته متنقِّـلا مع قبيلة من القبائل لتعلِـيم أبنائها، لكن رفضت القاعة المشروع، فسألهم القذافي: بالله عليكم مَـن هُـم المعلِّـمون فيكم؟ فارتفعت غابة من الأصابع، وهذا يعني أنه عندما تكون هناك مسائل ساخنة أو مواقف غير مقبولة، يتدخل الأعضاء ويحملونه على التراجع عنها.

هل معنى ذلك أن هناك نوعا خاصا من الديمقراطية؟

توفيق المنستيري: معناه أن النظام قائم على الكواليس. فالتصعيد مثلا يتِـم في القاعدة وبشكل غير مرئي ولا أحد يستطيع فهم الآليات التي تشتغل لإعطاء النتائج المُـعلنة، وحتى عندما يسعى باحثون أو ضيوف لحضور التصعيد، لا يكتشفون السِـرّ ويلاحظون أن العملية تختلِـف من منطقة إلى أخرى.

مَـن بيده القرار إذن؟ وما هي قنوات القرار؟

توفيق المنستيري: لا أحد يعرف. فالنظام شفّـاف ظاهريا، لكنه ضبابِـي وغامِـض وسميك في آلياته، وأعتقد مع ذلك أن لجان المراقبة هي التي تمسِـك بمفتاح القرار.

وكيف تتِـم السيطرة على الوضع في ظل هذه اللعبة المعقدة؟

توفيق المنستيري: الطريقة واضحة، وهي ضمان ولاء القبائل بواسطة إيجاد وِفاق للمحافظة على اللّـحمة مع توزيع المداخيل بشكل واسع. ففي بداية الثمانينات مثلا، لم يكن هناك ليبي معوز أو فقير، إذ صدر قرار بإعطاء مِـنحة مقدارها 60 دينارا لكل مواطن ليس له دخل، مع تأمين الكهرباء والماء والتطبيب مجانا. ونلاحظ اليوم أن أعدادا كبيرة من الليبيين يتعالجون في الخارج وتتكفّـل التأمينات الاجتماعية بنفقات علاجهم وإقامتهم وإقامة مرافقيهم.

والثروة الليبية كبيرة، فمهما بلغ حجم الإنفاق على الأسلحة والدِّعاية في الخارج والبذخ، يبقى الكثير، وتلك هي وسيلة السيطرة على الوضع، خاصة أنها غير خاضعة للرقابة.

لكن اليوم أطلت ظواهر الفقر والخصاصة في ليبيا…

توفيق المنستيري: هؤلاء ليسوا ليبيين، هم أجانب، وخاصة الأفارقة، فأوضاعهم مأسوية، وفي كل مدينة من المُـدن الكبرى يتجمّـعون صباحا في بطحاء كبيرة ويأتي أصحاب المشاريع والأعمال فينتَـقون منهم العدد الذي يحتاجونه لذلك اليوم. وحتى الذين يعملون بعقود، يعتبِـر مؤجِّـروهم أنهم بحاجة لليبيا ويتعاملون معهم على هذا الأساس.

لكن يُقال أن الليبيين عموما يعيشون مسْـتورين؟

توفيق المنستيري: هذا راجع لقلّـة عددهم وضخامة الثروة، وهو في الوقت نفسه مظهَـر من الطابع “الأوليغارشي” العائلي للدولة، وهي خاصية النظام الشرقي عموما، فهو يبدأ بدائرة الأبناء ثم الأسرة ثم الأقرباء فالقبيلة وهكذا…

بمناسبة الذكرى الأربعين للثورة، لماذا اعتبرتَ في كتاباتك الحِـقبة السنوسية، فترة سلبية وامتدادا للمرحلة الاستعمارية؟

توفيق المنستيري: لأن ليبيا من البلدان القليلة التي حكمتها الطريقة السنوسية، وكانت طريقة صوفية ومؤسسة عسكرية في الآن نفسه مع فروع في بلدان إفريقية عدّة، وقد أدارت البلاد برُؤية إقطاعية، خاصة في الاقتصاد.

الملك إدريس السنوسي ترك مذكّـرات كان يُسجّـل فيها الوقائع يوميا، وهي ما زالت مخطوطة، لكن عندما تقرأها، تكتشف أنك بإزاء بلد مُـستواه أقل من البلدان “القروسطية”، هو أقرب ما يكون إلى سلطان من سلاطين الحفصِـيين. كانت ليبيا منقسِـمة إلى طرابلسيين يدعمون النظام القائم وأهل برقة المعارضين له، وكانت البيضاء، الموجودة في المنطقة الشرقية (100 كلم غرب بنغازي) بأيدي السنوسية، وهي عاصمتهم الصّـيفية، أما بنغازي نفسها، فكانت متّـجهة نحو مصر. وحاول الطرابلسيون أثناء الحرب العالمية الثانية إقامة جمهورية، لكن الإنجليز أعادوا الملك إدريس إلى عرشه مع نهاية الحرب، بعدما هرب إلى مصر.

كان في البداية يحكم “برقة” فقط من زاويته السنوسية، ثم ساعدوه على مدّ نفوذه إلى طرابلس، التي كانت تحت سيطرتهم، وفي المرحلة الموالية، أنشؤوا كنفدرالية ومنحوها الاستقلال، بموجب قرار أممي في سنة 1952 لتُـصبح بعد ذلك دولة اتحادية.

الوضع الاقتصادي أصبح مُـتوازنا مع بداية تدفّـق النفط في 1965، أما قبل ذلك، فكان النشاط الأساسي للسكان هو بيع الخُـردة التي تركتها الجيوش الأوروبية للإيطاليين، وكان الفقْـر مُـنتشرا في البلد إلى درجة الاضطرار للهجرة إلى تونس. أما الوزراء فكانوا أشبَـه بالدُّمى المتحرّكة.

باختصار، كان الليبيون مغلوبين على أمرهم ويشعرون بالقهر، خاصة عندما اكتشفوا أن الطائرات التي قصفت مصر في عام 1967، انطلقت من القواعِـد الأمريكية في ليبيا، لهذا السبب، هتف الليبيون وهم يستمعون إلى خطاب القذافي الأول “القواعد… القواعد”، وفِـعلا كان إغلاق القواعد البريطانية والأمريكية من الإجراءات الأولى التي اتخذها القذافي، ومنحته تلك الخطوة الجسورة شعبية كبيرة، ليس فقط في ليبيا، وإنما في كل العالم العربي.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية