مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تونس ترسـم مُجدّدا خريطة طريق مُغايِـرة لكل المنطقة

مساء الأحد 26 يناير 2014، الساعة 23 و40 دقيقة: أعضاء المجلس الوطني التأسيسي التونسي يقفون رافعين لشارة النصر ومُلوّحين بالأعلام الوطنية إثر الموافقة على الدستور الجديد للجمهورية في القراءة الأولى بأغلبية كبيرة تقارب الإجماع (200 موافق على 216). Keystone

يبدو أن تونس قرّرت مرة أخرى تعليم المِنطقة العربية كيف يُصنع "التاريخ العاقِل" وكيف يمكن استيلاد الأمل من رحِم المأساة. الأمل هنا هو إنقاذ الربيع العربي من عواصِف الخريف والشتاء، التي لفحت بعنف كل ثورات مصر وليبيا وسوريا واليمن، وكادت تقوّض حُلم المرحلة الإنتقالية من غياهب الإستِبداد إلى آفاق الديمقراطية.

أما لماذا هي المرة الثانية، فهذا له علاقة بالتاريخ. فحين انقض التطرّف الأصولي في المشرق العربي في القرن الثالث عشر على الفلسفة وحرية الفِكر وأغلق باب الاجتهاد، انبرى المغرب العربي للقيام بالجُهد الإنقاذي، فبرز ابن رُشد وابن خلدون وابن طفيل، وأعادوا للفِكر إبداعه وللحضارة الإسلامية روْنقها وحيويتها.

هذا الفكر الأصولي نفسه، بأشطاره الدّينية كما السلطوية – الأمنية، يقوم في القرن الحادي والعشرين بعملية انقِضاض مماثلة للتك التي حدثت قبل سبعة قرون. ومجدّدا، لولا الثورة الثانية الرّاهنة التي قامت بها تونس قبل أيام، لكانت دائرة العصور الدّاكنة الجديدة قد أغلقت، ولغرقت المِنطقة مجدداً في مُستنْقع دِماء ويأس داخل نفقٍ لا نهاية له.

الثورة الثانية

الثورة الثانية، التي ستبني الجمهورية الثانية في تونس، تمثّـلت في نجاح النُّخب النهضوية (حزب النهضة الإسلامي) والعِلمانية والوطنية، في الإبتعاد عن حافة الحرب الأهلية، التي كانت وشيكة، عبْر تقديم تنازُلات أدّت إلى ولادة دستور جديد حظِي بإجماع شِبه كامِل في الجمعية التأسيسية (200 نائب من أصل 216).

حزب النهضة كان الطرف الأكثر تحملّاً لمسؤولية هذه التنازلات، التي كانت لاشك “مُؤلمة” للغاية بالنسبة إليه. فهو وافق على شطْب أي إشارة إلى الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، واكتفى بالنصّ على أن الإسلام هو دِين الدولة. وهو حافظ على “المكاسِب التي حقّقتها المرأة” ودعا إلى “تطويرها”، بما في ذلك التمثيل المُتساوي في المؤسسات المُنتخبة. كما أقَـر الدستور حرية الرأي والمعتقد وأشار إلى أن تونس “دولة مدنية” تستنِد إلى “إرادة الشعب وسيادة القانون”.

قد يُقال هنا أن حزب النهضة أقدَم على هذه التنازلات الضّخمة، التي كان يرفضها طيلة السنوات الثلاث من عمر الثورة، بما في ذلك قبول تسليم رئاسة الحكومة إلى شخصية من خارج الحزب، لأنه خشِي أن تنهار العملية الديمقراطية في تونس، كما حدث في مصر، أساساً لأن القوى  الدولية الداعمة لوصول الإخوان المسلمين، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تتحرّك لإنفاذ وعودها وتعهّداتها لهم (على حدّ تعبير دبلوماسي غربي في تونس)، وأيضاً بسبب تراقُص الإقتصاد التونسي على شفير الإنهيار وتصاعد النشاط الإرهابي في البلاد.

هذا الرأي يؤيِّده حتى راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة، الذي رفع “البِطاقة الحمراء” حيال سلوكيات إخوان مصر، حين قال مؤخّرا ردّاً على مُنتقدي الدستور الجديد: “الخيار كان بين أحد أمريْن: إما الرِّهان على الإجماع أو الذهاب إلى الحرب الأهلية والديكتاتورية بسبب انقسام البلاد أيديولوجيا”. وفي وقت لاحق، أبلغ الغنوشي “فايننشال تايمز”  قوله بصراحة: “ما حدث في مصر كان زلزالا. كان هناك البعض في المعارضة يُريد استيراد النموذج المصري (الجديد)، وهذا أثّـر بالتأكيد على قرارنا”.

المزيد

المزيد

“تونس أنجحُ تجارب التحول الديمقراطي.. رغم الصّعاب”

تم نشر هذا المحتوى على بعد شهور من الإستقطاب السياسي بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس، والذي كاد يعصف بالتحوّل الديمقراطي ويقترِب بالبلاد من الإنقسام الحاد، الذي تشهده مصر، ومع زيادة الضغط الشعبي لتشكيل حكومة تسيير أعمال من التكنوقراط، في ضوء ما رأته المعارضة عجزا من الحكومة التي شكّلها حزب النهضة الإسلامي بعد فوزه في انتخابات أكتوبر عام 2011 واستعان فيها…

طالع المزيد“تونس أنجحُ تجارب التحول الديمقراطي.. رغم الصّعاب”

“مُجازفات” إخوان مصر

حسنا. مصر أثَّـرت بالفعل على قرار الإخوان التونسيين. لكن، مثل هذا التأثير لم يكن لتقوم له قائمة، لولا وجود استِعداد حقيقي وأوّلي لدى حزب النهضة، كي “يُصالح” فكره الإسلامي مع مندرجات مبادئ الحداثة والديمقراطية، وهذا ما لم يفعله إخوان مصر، الذين تلقّوا هم أيضاً تحذيرات قوية قبْل أشهر من الإنقلاب العسكري – الشعبي عليهم، بضرورة العمل وِفق سياسات الإجماع والشمولية للجميع، وليس وِفق توجّهات الإستِحواذ والإقصاء والسيْطرة.

وقد جاءت هذه التحذيرات من الرئيس الأمريكي باراك أوباما ومن رئيس الحكومة التركية طيب رجب أردوغان، والأهَـم من راشد الغنوشي نفسه، الذي توجّه إلى القاهرة وناشد الرئيس مرسي العودة عن سياسة التصعيد والإلغاء. بيْد أن إخوان مصر كانوا في شِبه غيبوبة آنذاك، بسبب حالة السُّكر التي تعتعتهم لانتِقالهم من غَـياهِب السجون والملاذات تحت الأرض، إلى رؤوس أهرامات السّلطة فوق الأرض.

أفضل مَن عبَّر عن حالة التعتعة هذه، كان عصام العريان، نائب رئيس «حزب الحرية والعدالة»، الذي كان يُفترَض أن يكون “الأكثر عقلانية واعتدالاً” في صفوف قادة الإخوان. ففي حديث نشرته «الحياة» اللبنانية في 29 يونيو 2013، أي قبل يوم واحد من اليوم الذي غيّر اتجاه الأحداث في مصر، سُئِل عمّا إذا كان يعتقِد أن «الإخوان» ارتكبوا خطأ حين تولّوا مسؤولية مصر في مرحلة حرجة؟ وجاء الجواب: «أعتقد أن «الإخوان» ضحّوا تضحية كبيرة جداً في تحمل المسؤولية في ظروف محلية وإقليمية ودولية بالِغة التعقيد والصعوبة، وجازفوا مجازفة ضخمة بتاريخهم، بثقة الناس فيهم وبتوظيف إمكاناتهم. فبعد الثورات، تكون دائماً طموحات الناس كبيرة جداً جداً وإمكانات الدول لتحقيق ما تريده قليلة جداً. وفي الوقت ذاته، أن تتولى دولة بحجْم دول، وأنت لم تكن في ماكينتها، لا موظّفين، لا وزراء سابقين، لا خبراء يعلمون تفاصيل، لا تمتلك أجهزة الأمن ولا أجهزة المعلومات، لا تمتلك شيئاً… هذه مُجازفة كبيرة”.

فكرة انتحارية

بيْد أن العريان نسِي أن يضيف أن هذه المُجازفة هي في الواقع مُقامرة خطِرة للغاية، ليس فقط لمَخاطِرها الداخلية الجمّة، بل أولاً وأساساً، لأن الإخوان المصريين بنَوْا كل استراتيجيتهم على أساس الإفتراض المُخطئ، بأن الولايات المتحدة، التي تُراهن عليهم لترويج الإسلام السياسي إلى الديمقراطية، لن تتركهم “لقمة سائغة للذئاب”.

بكلمات أوضح: الإخوان المصريون لم يكونوا مستعدّين البتّة، ربما لأسباب أيديولوجية وثقافية وسلطوية، للتّأقلُـم مع حقائق الحداثة في المنطقة، وزاوجوا بين فِكرة الإمساك بزِمام السلطة كاملة، وبين هدفِهم بإقامة الدولة الإسلامية “هنا والآن”. وهذه تثبت الآن، أنها كانت فكرة انتِحارية وليس عملية مُجازفة فقط. فِكرةٌ نجَح حزب النهضة في استِبعادها من جدْوَل أعماله، فأنقذ نفسه ومعه تونس من المآل المصري الدّاكن.

وهكذا، عادت تونس لتُمسك بتلابيب الربيع العربي، فأعادت الأمل إليه وبدأت ترسم انطلاقاً من المغرب العربي (مجدّدا) خريطة طريق مُغايِـرة لكل المنطقة العربية، خريطة يكتنِفها التفاؤُل وتغشاها روح ابن رُشد العقلانية وعبقرية ابن خلدون التاريخية – الإجتماعية وإبداعات ابن طفيل التطورية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية