مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

بيروت انتخبت وفاجأت.. ثم ماذا بعد؟

سيدات لبنانيات ينتظرن قبل الإدلاء بأصواتهن في مركز اقتراع في العاصمة بيروت يوم 8 مايو 2016. Keystone

"هذه هزّة عنيفة للغاية تُشبه، ولو على نحو مصغَّر، الزلزال الذي سبَّبه الربيع العربي إنطلاقاً من الحدث التونسي". هكذا لخّص دبلوماسي أوروبي في بيروت نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في 8 أيار/مايو الحالي في العاصمة اللبنانية وفي البقاع. وهو رأي ليس بعيداً عن الواقع.

فقد فاجأت النسبة التي حصلت عليها لائحة “بيروت مدينتيرابط خارجي” (نحو 41 في المائة من الأصوات)، والتي تكوّنت من قوى حديثة ليبرالية ويسارية وتقاسمها الرجال والنساء بالتساوي، حتى قادة هذه اللائحة أنفسهم. 

فعلى رغم أن العديد من أعضاء اللائحة وعددهم أربعة وعشرون كانوا من المثقفين وأساتذة الجامعات والفنانين المشهورين (على غرار المخرجة والممثلة ندين لبكي والموسيقار أحمد قعبور)، إلا أن أحداً منهم لم يكن يتوقع أن تتصدى هذه المجموعة من مجموعات المجتمع المدني إلى لائحة سياسية قوية للغاية (لائحة البيارتةرابط خارجي) التي تحالفات فيها كل الأحزاب الطائفية الرئيسة في البلاد، من تيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي حركة أمل إلى التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية (المسيحيين).

لكن هذا ما حدث، الأمر الذي أطلق صفارات إنذار تصم الآذان في كل أرجاء النظام التقليدي والطائفي اللبناني، ورسم في سماء بيروت سؤالاً اعتقد الكثيرون أنه لن يرتسم أبدا: هل بدأت مسيرة تغيير النظام “العتيق” في لبنان، أسوة بباقي أنظمة الشرق الأوسط، سواء السلطوية أو الأميرية، المتداعية؟

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل.، ولكن قبل ذلك، وقفة أمام الأسباب والمعطيات المحتملة لهذا الخرق البارز لجدران النظام الطائفي.

التغيير، التغيير

ابراهيم منيمنة، رئيس لائحة “بيروت مدينتي”، قال إن ما حدث “يؤكد أن الناس يريدون التغيير، والدليل أن لائحتنا واجهت محدلة السلطة وحصدت 40 في المائة من الأصوات. وكان بإمكانها أن تحصل على 10 مقاعد في البلدية (من أصل 24) لو كان النظام الإنتخابي عادلاً ونسبيا”.

أما منسّق الحملة الانتخابية، جاد شعبان، فقال إن الناخبين منحوا أصواتهم للائحة كي يطلقوا رسالة إلى السلطة بأنهم “سيتصدون، عبر “بيروت مدينتي”، لأي تمادٍ في ممارسات المحاصصة، وتشويه معالم المدنية، وتهجير أهلها، وسرقة أموالها وهذا أحد أسرار نجاح اللائحة”.

ما حدث يؤكّـتد أن الناس يُريدون التغيير إبراهيم منيمنة، رئيس لائحة “بيروت مدينتي”

هذا الرأي يؤيّده جل المحللين السياسيين. فالمواطنون اللبنانيون ذهلوا خلال الأشهر القليلة الماضية من لامسؤولية الطبقة السياسية ولامبالاتها إزاء فضيحة النفايات التي اكتسحت لبنان من أقصاه إلى أقصاه، على رغم التحذيرات المتكررة لكبار الخبراء من كارثة صحية وبيئية محققة.

أزمة النفايات الخطيرة، علاوة على فضائح المواد الغذائية الفاسدة، كانت هي التي أشعلت العام 2015 الحراك المدني (تحت شعاري “طلعت ريحتكم” و”بدنا نحاسب”)، والتي كانت التمهيد الشعبي لحملة الإنتخابات البلدية هذا العام.

وإضافة إلى كارثة النفايات، والتي أتُّهمت فيها الطبقة السياسية بتأخير الحلول كي تتقاسم “كعكة التنظيف” التي تقدّر بمئات ملايين الدولارات، كان فشل هذه الطبقة في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وفي إجراء انتخابات نيابية، وفي وضع حد للفساد المستشري إلى حد كبير في دوائر الدولة كافة، يدفع اللبنانيين كافة إلى حافة القنوط واليأس من الناحية السياسية- السايكولوجية، وإلى الهجرة إلى الخارج من الناحية الإجتماعية.

هذه المعطيات، مضافاً إليها ما أسماه وزير الدفاع الأمريكي الأسبق زبغنيو بريجنسكي “يقظة الشارع السياسي” في العالم، كما في المنطقة العربية، للمرة الأولى في التاريخ، جعلت نتائج الانتخابات البلدية مفاجىة ومتوقعة في آن.

“فرصة قابلة للتحقق؟”

نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: هل هذه بداية تغيير النظام السياسي في لبنان؟ معظم المحللين يميلون سريعاً إلى استبعاد هذا الأمر. والسبب؟

فشل كل محاولات الإصلاح السابقة في لبنان، منذ الإستقلال عن فرنسا في عام 1943، مروراً بالتجربة التحديثية الرائعة لعهد فؤاد شهاب، وانتهاء بمحصلات الحرب الأهلية 1975- 1989 التي كرّست سطوة الإقطاع الطائفي، وبعجز نظام الطائف عن تحقيق أي تغييرات.

أما لماذا فشلت كل هذه المحاولات، فهذا يعود إلى أن النظام الطائفي اللبناني هو (كما كان يقول رئيس البرلمان نبيه بري) “أقوى نظام في العالم”، بسبب قدرته على استنفار العصبيات الطائفية والمذهبية. وهذا ما جعل الطبقة السياسية الطائفية محصّنة ضد أي محاولة لإدانة “تقاسمها لغنائم السلطة والإقتصاد”.

بيد أن ثمة من يرى الآن في بيروت أن هناك الآن بالفعل فرصة للتغيير، تنبع من تقاطع حراك المجتمع المدني اللبناني مع تبلور إرادة أوروبية- أمريكية مشتركة لتعزيز هذه الفرصة ودعمها.

تقول مصادر هذه الفئة، التي تضم عناصر يسارية ويمينية في آن، أن الاتحاد الأوروبي هو في الواقع الذي فرض على النخبة الطائفية إجراء الإنتخابات البلدية، عبر ربطه أي دعم اقتصادي- مالي للبنان حيال مسألة اللاجئين السوريين، باستئناف العمل بالإجراءات الديمقراطية في هذا البلاد.

وفي الوقت نفسه، تضيف المصادر، باتت الدوائر الأمريكية المعنية تبدي علناً تبرمها من سلوكيات الطبقة السياسية اللبنانية، وتشدد على ضرورة العمل على خلق طبقة جديدة وحديثة، قادرة على تطوير النظام اللبناني ومساعدته على الصمود في وجه الأعاصير الإقليمية العاتية.

وبدورها تؤكد صحيفة “الجمهورية” اللبنانية أن “بذرة المجتمع المدني التي ظهرت في بيروت في الجولة البلدية الأخيرة لم تكن صدفة، بل هي مدعومة بغطاء دولي يحمبها من الضربات التي ربما يفكر السياسيون في توجيهها إليها”.

وإذا ما عنى هذا الأمر شيئاً، فإنه يعني أن التغيير في لبنان لم يعد “حصرماً في حلب”، بل هو فرصة قابلة للتحقق إذا ما أحسنت القوى الحديثة تلقفها واستثمارها، عبر توحيد صفوفها، واستيلاد قيادات كاريزمية من داخلها، وأقنعت المجتمع بقدرتها على التنفيذ.

لكن رغم ذلك، لايجب أيضاً الاستهانة بردود فعل الطبقة السياسية. فهي أثبتت مراراً وتكراراً أنها مستعدة لتدمير الهيكل على رؤوس الجميع، إذا ما تعرّضت مصالحها المشتركة إلى الخطر. وهي نفّذت بذلك بالفعل عبر سلسلة الحروب الأهلية المتصلة التي فجّرتها منذ العام 1840 إلى العام 1975. 

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية