مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

رئيس سويسرا الذي تحوّل إلى بطل لدى التونسيين

في 18 نوفمبر 2005، تحول سامويل شميد إلى العاصمة التونسية لتمثيل بلاده في المرحلة الثانية من قمة مجتمع المعلومات التي دعت إليها الأمم المتحدة. Keystone

كان لقاء حميميا، ذاك الذي جمع يوم 15 يناير 2013 عددا قليلا من الصحافيين وبعض نشطاء المجتمع المدني التونسي بالرئيس السويسري سامويل شميد، الذي فوجئ بالدعوة التي تلقاها من الرئيس منصف المرزوقي للمشاركة في احتفالات الذكرى الثانية للثورة التونسية.

شميد لم يعد يتحمل مسؤولية رسمية في بلاده منذ سنوات، لكن الدعوة نشّطت ذاكرته، وأعادته إلى زيارته الأولى إلى تونس في أجواء قمة مجتمع المعلومات التي عقدت خلال شهر نوفمبر 2005، حيث تحوّل على إثر الكلمة التي ألقاها باسم بلده سويسرا، الشريكة في تنظيم القمة، إلى بطل عند التونسيين، وبالخصوص في أوساط نخبتهم السياسية والحقوقية والإعلامية.

زيارة مفعمة بالذكريات

تم اللقاء بمقر إقامة السفير السويسري السيد بيار كمبرنوس، الذي توجه في كلمة الإفتتاح للسيد شميد قائلا: “شكرا سيدي الرئيس لقد مهّدت لي الطريق”. وضرب أمثلة بعدد من كبار المسؤولين الحكوميين الذين ما أن يلتقون به وهو الوافد على تونس حديثا (في بداية 2011 أي بعد أيام قليلة من الإطاحة بالنظام السابق)، حتى يهنئونه برئيسه السابق على الكلمة الشجاعة التي ألقاها أمام الدكتاتور بن علي.

تلك الكلمة التي أكد فيها شميد في نوفمبر 2005 على أنه “ليس من المقبول أن توجد إلى الآن ضِـمن أعضاء الأمم المتحدة، دول تعتقِـل مواطنيها لمجرّد انتقادهم السلطات على الإنترنت أو عبر الصحافة”.

كان ذلك كافيا لتصل الرسالة بقوة إلى الجميع، وفي مقدمتهم بن علي، لكن السيد شميد أضاف لكلمته قوله: “من المُـفترض، ومن البديهي أن يتمكّـن الجميع هنا في تونس – وليس فقط داخل هذه الجدران – من النِّـقاش بحرية”!

منذ وصول الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى الحكم في تونس يوم 7 نوفمبر 1987، مرّت العلاقات بين البلدين بالعديد من الأزمات المكتومة ويشير الموقع الرسمي لوزارة الخارجية السويسرية إلى أن “العلاقات بين البلديْن يشوبها من حين لآخر بعض التوتّر بسبب اختلاف وجهات النظر حول قضايا حقوق الإنسان”.
 
1988: بعد وقت قليل من وصوله إلى القصر الرئاسي في قرطاج، طلب بن علي نقل مقر إقامة السفير السويسري لدى تونس المجاوِر للقصر، إلى مكان آخر، بسبب رغبته في توسعة قصره وضم المساحة المجاورة له، لكن سويسرا رفضت ذلك ولا زال بيت السفير السويسري في مكانه إلى الآن.
 
في عام 1995، أدّى الرئيس التونسي السابق زيارة إلى جنيف كضيف شرف على المؤتمر السنوي لمنظمة العمل الدولية، لكنه استُـقبِـل بالشتم والتوبيخ من طرف العشرات من المتظاهرين المحتجِّـين، كما رفض فلافيو كوتي، وزير الخارجية في الحكومة الفدرالية آنذاك استقباله، وهو ما أدى إلى سحب تونس لسفيرها من برن وظل المنصب شاغرا إلى حدود عام 2000.
 
في فبراير 2001، رفع اللاجئ السياسي التونسي ناصر نايت ليمان، المقيم في جنيف، شكوى لدى بيرتوسا المدعي العام لكانتون جنيف، ضد عبد الله القلال، وزير الداخلية التونسي السابق، الذي كان موجودا في سويسرا للعلاج، بتُـهمة ممارسة التعذيب، وقد استجاب بيرتوسّـا للطلب وأصدر أمرا بجلب القلال، لكن الوزير التونسي تمكّـن من الفِـرار ولا زال ملف الملاحقة مرفوعا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي نظرت فيه في شهر مارس 2011.
 
في نوفمبر 2005، ولدى إلقائه خطاب الافتتاح في القمة العالمية للمعلومات في العاصمة التونسية، انتقد سامويل شميد، رئيس الكنفدرالية آنذاك، بشكل غير مباشر، سجِـل تونس في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير، لكن التلفزيون التونسي قطع البث المباشر لحفل الإفتتاح.
 
في فبراير 2006، استقبلت ميشلين كالمي – ري، وزيرة الخارجية السويسرية، في بادرة غير مسبوقة على المستوى الأوروبي والغربي عموما، وفدا من المعارضين التونسيين في مقر الوزارة في العاصمة السويسرية، وهو ما أدى إلى سحب السفير التونسي مجددا من برن.
 
في يونيو 2009، شهِـدت جنيف انعقاد المؤتمر التأسيسي لمنظمة المهجَّـرين التونسيين، بحضور العشرات من اللاجئين السياسيين، الذين قدِموا من معظم البلدان الأوروبية ومن شتى أنحاء العالم، للمطالبة بحق العودة إلى بلادهم وتمكينهم من جوازات سفرهم.
 
على مدى العشرين عاما المنقضية، منحت سويسرا حق اللجوء السياسي إلى العشرات من المعارضين التونسيين، ينتمي معظمهم إلى حركة النهضة الإسلامية المحظورة. وتشير بعض الأرقام إلى أن عددهم يناهز الألف شخص مع احتساب القرين أو الزوجة والأطفال.
 
منذ بداية التسعينات، شهِـدت سويسرا نشاطا حثيثا للعديد من الفصائل والشخصيات المعارضة لنظام الرئيس بن علي، شمل تأسيس عدد من المنظمات الحقوقية والجمعيات، من بينها منظمة الحقيقة والعمل المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية الزيتونة، التي تضم عائلات اللاجئين التونسيين وجمعية ضحايا التعذيب في تونس، إضافة إلى هيئات تشكّـلت لدعم ضحايا القمع من مختلف التيارات السياسية والإنتماءات الاجتماعية.
 
من جهة أخرى، ساهم العديد من المحامين السويسريين في الدفاع عن شخصيات سياسية وقيادات نقابية وطلابية تعرّضت للملاحقة والمحاكمة على مدى سنوات حُـكم الرئيس المخلوع بن علي، كما اهتمّـت منظمات حقوقية سويسرية، مثل رابطة حقوق الإنسان والفرع السويسري لمنظمة العفو الدولية والمنظمة الدولية لمناهضة التعذيب (يوجد مقرها في جنيف) بأوضاع حقوق الإنسان في تونس وقامت بالدفاع عن العديد من الضحايا.
 
رغم هذه العلاقات المشوبة بعدم الإستقرار، فإن عدد السياح السويسريين الذين يسافرون سنويا إلى تونس يتجاوز 100.000 سائح، وتريد السلطات التونسية مضاعفة هذا العدد بحلول نهاية 2016.
 
في عام  2007، احتلت سويسرا المرتبة السادسة ضمن المستثمرين الأجانب في تونس التي تعتبر سابع شريك تجاري لسويسرا على مستوى القارة الإفريقية.

تعطش لسماع خفايا ما حصل

كان الجالسون حول مائدة العشاء متعطشين لمعرفة الظروف التي حفت بهذه “الفقرة – القنبلة”. وتبين أن الرئيس الأسبق للكنفدرالية لم يكن مهيّأ وهو قادم من برن ليقذف نظيره التونسي بصاروخ أرض – أرض ويعود إلى بيته فرحا مسرورا.

على العكس من ذلك، جاء الرجل وهو خالي الذهن مما يجري في تونس. أعدّ كلمة عادية، ومفعمة بالتقدير لشريكه في القمة. لكنه عندما حل بالبلاد، وتحدث مع بعض الدبلوماسيين العاملين بالسفارة فوجئ بحجم الإنتهاكات، واستغرب وجوده في بلد مسكون بالخوف، فقال: “لا يمكن أن تمر هذه المناسبة دون أن نقول كلمة دفاعا عن الحرية”.

وفي استذكار لتاريخ قريب، أشار شميد إلى الركن الذي جلس فيه في صالون مقر إقامة السفير، حيث أضاف الفقرة التي خلقت الحدث، ودفعت بالعلاقات التونسية السويسرية إلى حافة القطيعة بعد أن تميزت بالإستقرار والتعاون منذ عهد الرئيس بورقيبة، الذي كان كثير التردد على جنيف وغشتاد للراحة والعلاج .

عندما ألقى الرجل “قنبلته”، لم ينتبه إلى أن المستمعين داخل القاعة من الضيوف الذين قدموا من معظم دول العالم قد قطعت عنهم الترجمة. ذكر أنه عندما جاء دوره للخطابة، ألقى كلمته ثم توجه إلى كرسيه، فشكره ابن علي الذي لم ينتبه بدوره إلى ما ورد على لسان ضيفه. وعندما غادر القاعة، كان بجانبه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الذي لازم الصمت ولم يعلق بأي كلمة بحكم أن مسؤوليته تقتضي التحفظ.

أما الصحافيون الذين التفوا حوله، فقد توجهوا له بالسؤال التالي: “هل تعرف سيدي الرئيس أن كلمتك قد اقتصّ جزء منها وخضعت لمقص الرقابة، وأن التلفزيون الرسمي قد توقف عن إتمام تغطية خطابك بالجلسة الإفتتاحية”؟. عندها أدرك الرجل أنه أحدث رجة سياسية من الحجم الثقيل. فبعد تلك الحادثة، تحولت حياة السفير السويسري السابق إلى جحيم، حيث مارست السلطات عليه ضغوطا مُضنية من أجل إقناع بلاده بضرورة بيع مقر الإقامة المحاذي مباشرة للقصر الرئاسي.

كانت المراقبة الأمنية على أشدها، وتعرض كل ضيوف السفير إلى مضايقات شتى. وفي تلك السنوات، أصبحت الفرقة النحاسية التابعة للحرس الجمهوري تفضل القيام باستعراضها اليومي على بعد بضعة أمتار من نافذة غرفة نومه. لقد كانت أياما خانقة وسريالية.

اللافت للنظر أيضا أن صاحب الخطاب الشهير لم يكن يعلم آنذاك أن عددا من قادة المعارضة والنشطاء والإعلاميين كانوا يشنون إضرابا عن الطعام لمدة قاربت الثلاثين يوما (ابتداء من 18 أكتوبر 2005)، مما جعل السلطة تعتقد بأن الرئيس السويسري جاء ليتضامن مع خصوم النظام، وهو ما زاد من حنق بن علي وجماعته.

اعتراف بالجميل

لقد حصل كل ذلك والرجل هادئ، ينظر بعينين بريئتين خلف نظارته الأنيقة، ليعود إلى بلده بعد رحلة لم تكن شاقة، لكنها كانت مهمة في مسيرة شعب كان يئن تحت وطأة دكتاتورية قاسية. ولهذا نسي هو الرحلة، لكن الرئيس الحالي منصف المرزوقي وكل مكونات النخبة السياسية ظلوا يتذكرونه بكل احترام وتقدير، حتى جاءت الفرصة لتكريمه في الذكرى الثانية للثورة التونسية.

سألني السفير: كيف فعلت في تلك الظروف بصفتك مراسلا لـ swissinfo.ch؟ أجبته ببساطة “صغت مقالي وأرسلته، لكن للأسف لم يتمكن القراء التونسيون من الإطلاع عليه”. ثم التفت إلى الرئيس شميد قائلا: “هل تعلم سيدي الرئيس أنه بعد خطابك الشهير قررت أجهزة الرقابة في تونس حجب موقع swissinfo.ch لمدة سنوات، ولم يرفع المنع عنه إلا يوم 13 جانفي 2011”. التفت إليّ الرجل بدهشة، وقال: “أنا آسف، اعتذاراتي الشديدة عن المشاكل التي أحدثتها لكم”.

قلت في معرض ترحيبي به، إن ما حدث في قمة مجتمع المعلومات كان بداية اهتزاز صورة النظام على الصعيد الدولي. لقد ظهر الملك عاريا أمام الجميع، وذلك في اللحظة التي كان يعتقد فيها بأنه سينجح كعادته في الكذب على العالم. وتوجه إليه أحد الضيوف مضيفا: “لقد ساهمت سيدي الرئيس بفعالية في الثورة وفي إسقاط بن علي”، فاأبتسم الرجل دون غرور.

الأكيد أن السيد سامويل شميد بعد زيارتين مختلفتين في الأهداف والسياق، قد أصبحت تربطه علاقة خاصة بتونس، مما حوّله إلى صديق لهذا البلد ولهذا الشعب، لذلك أعرب عن تشجيعه للجهود التي لا تزال تبذلها سفارة بلاده من أجل مساعدة التونسيين على استرداد الأموال المُهربة في المصارف السويسرية من قبل بن علي والمقربين منه، إلا أنه أقر بأن الطريق “لا يزال طويلا”. 

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية