مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

شارل بُوني يحرصُ على تكوين سودانيين في التنقيب عن الآثار

swissinfo.ch

ساهمت سويسرا بشكل مباشر في عملية تمويل بعثة شارل بوني التي تُنقب عن الآثار في منطقة كرمة بشمال السودان منذ 40 سنة، كما شاركت في عملية تشييد متحف مجمع حضارة كرمة.

وإذا كان طلبة وأساتذة قسم الآثار بالجامعات السويسرية قد استفادوا من هذه التجربة، فإن شارل بوني يأسف لكون سويسرا لا تساهم في تكوين طلبة الآثار السودانيين.

رغب عالم الآثار السويسري شارل بوني، الذي تشبّع بروح جنيف وانفتاحها على العالم، في نقل تجربته المهنية إلى السودان من خلال أعمال التنقيب التي استمرت لأكثر من 43 سنة بالمحافظة الشمالية.

فهو بحكم عمله كأستاذ بجامعة جنيف، وبتوليه مهمة عالم الآثار المكلف بالترميم والتنقيب عن الآثار بدويلة جنيف لعدة سنوات، وتقلده منصب عضو في الصندوق الوطني للبحث العلمي، وعضو ثم نائب رئيس اللجنة الفدرالية للمعالم الأثرية، سخر كل هذه المعارف وهذه التجارب من أجل إقحام سويسرا في مشروع التنقيب عن الآثار في السودان.

كما أن التجربة التي قام بها في السودان كانت مثمرة بالنسبة لعلماء الآثار السويسريين وطلبة الجامعات السويسرية الذين ترددوا في دفعات على عين المكان خلال الأربعين سنة الماضية.

ويقول شارل بوني “لقد حاولت من البداية إقحام سويسرا في هذا المشروع بكل مكوناتها وخصائصها، فالمناطق السويسرية المتحدثة بالألمانية شاركت في أعمال التنقيب بما يُعرف عن أبنائها من دقة ومثابرة، وهو ما لم يكن يُعرف عند أهل جنيف أو سويسرا الروماندية (المتحدثة بالفرنسية)”.

وقد نتج عن حرص بوني على تمثيل بلاده بمختلف أطيافها في عمله بالسودان أن كانت البعثات الساهرة على التنقيب مشتملة على علماء وبحاثة وتقنيين من مختلف المناطق السويسرية. وكانت البعثة الأخيرة مكونة من عناصر قدمت من جنيف وبازل ونوشاتيل والفالي وغراوبوندن، إضافة الى أعضاء فرنسيي الجنسية.

من تمويل أمريكي إلى سويسري

البعثة التي بدأت أشغالها قبل أربعين عاما بتمويل أمريكي تحولت تدريجيا إلى الاعتماد على مصادر تمويل سويسرية حكومية وغير حكومية.

كما ساهمت الجامعات السويسرية، وبالأخص جامعة جنيف، في دعم أعمال تنقيب شارل بوني في السودان علميا وماديا.

وقد انضم الصندوق الوطني السويسري للبحث العلمي بشكل منتظم لعملية تمويل أشغال البعثة السويسرية في السودان منذ عام 1976 بتقديم مساهمة مالية تقدر بحوالي 100 ألف فرنك سنويا.

وتساهم في عملية تمويل البعثة السويسرية في السودان عدة مؤسسات عمومية وخاصة، مثل المتاحف إضافة إلى بعض الخواص.

كما ساهمت سويسرا إلى جانب الحكومة السودانية في تمويل بناء متحف مجمع حضارة كرمة الذي كلف حوالي 800 ألف فرنك؛ وهو المتحف الذي أفتتحه الرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير في 19 يناير 2008.

ولا شك في أن تتويج هذا الاهتمام السويسري بأعمال التنقيب في كرمة تمثل في زيارة الرئيس السويسري الحالي باسكال كوشبان للموقع في عام 2005 برفقة أفراد عائلته، والوقوف على سير أشغال تشييد مجمع ومتحف حضارة كرمة.

استفادة في الاتجاهين

أعمال التنقيب التي قام بها شارل بوني في السودان كانت مفيدة لطلبة وأساتذة الجامعات السويسرية الذين ساهموا بشكل محترف في أعمال التنقيب. وفي هذا السياق، يشدد مدير الأبحاث بالبعثة ماتيو هونيغر على حرص البعثة على أن تكون أعمالها في كرمة مكملة لمهام الجامعات السويسرية”.

وقد تردد سنويا على عين المكان ما بين 2 أو 3 من طلبة جامعة نوشاتيل. ويعتبر السيد هونيغر، الذي تلقى تدريبه في كرمة قبل عشر سنوات قبل أن يتحول إلى أستاذ مختص في تاريخ حقب ما قبل التاريخ، أن تحول الطلبة السويسريين إلى السودان يسمح لهم بـ “التعرف على طريقة أخرى في التنقيب عن الآثار في وسط مغاير لما يعرفونه في أوروبا”، مشيرا إلى أن هؤلاء الطلبة يجعلون من تجربتهم في كرمة موضوع أطروحاتهم لنيل الشهادة.

أسف لعدم احتضان الطلبة السودانيين

ويفتخر شارل بوني بكون البعثة التي قادها في السودان شددت على تطوير التكوين في مجال علم الآثار بالسودان بحيث ساهم العديد من الطلبة السودانيين في أعمال التنقيب. وقد حصل اثنان منهم على شهادة الدكتوراه في الآثار، أحدهما هو الدكتور صلاح الدين محمد أحمد، نائب رئيس قسم الآثار القديمة بالسودان الذي قضى أكثر من عشرين عاما في أعمال التنقيب مع البعثة السويسرية في كرمة.

لكن شارل بوني يأسف لكونه لم يفلح في إقناع سويسرا بتبني هؤلاء الطلبة ومساعدتهم في إجتياز شهادة الدكتوراه نظرا لكون سويسرا لا تقيم تبادلات مع السودان في مجال التكوين والمنح الجامعية، وهو ما يعتبره “نقطة سلبية في هذا المجهود المبذول عالميا”.

وهذا الأسف عبر عنه أيضا الدكتور ماتيو هونيغر، أستاذ حقب ماقبل التاريخ بجامعة نوشاتيل، ولئن كان يرى بريقا من الأمل في “تطور الأوضاع في المستقبل نظرا لإسهام سويسرا في إقامة متحف كرمة، وهو ما قد يتطور للمساعدة في تكوين المختصين في فن المتاحف”.

ويتم تعويض هذا النقص في إسهام سويسرا في مجال تكوين الطلبة السودانيين بتولي الزميلة الفرنسية المشاركة في البعثة السويسرية، دومينيك فالبل، احتضان الطلبة السودانيين في فرنسا ومساعدتهم على اجتياز شهادة الدكتوراه.

نجاح في إدخال مهنة التنقيب عن الآثار للمنطقة

إذا كان معروفا لدى فرق التنقيب عن الآثار منذ القدم أن أحسن عمال التنقيب هم أبناء “قفط” بمصر، فإن شارل بوني بإمكانه أن يعتز بكونه سمح لأبناء منطقة كرمة بالتخصص في عملية التنقيب عن الآثار بمستوى لا يقل عما عرف به أبناء “قفط”.

إذ يقول شارل بوني “إذا كان بإمكاني اليوم التغيب عن عمليات التنقيب بدون أن انشغل عن حسن سير العملية، فذلك راجع لكون ثلاثة ممن رافقوني منذ البداية تلقوا تدريبا في جنيف وأصبحوا رؤساء فرق اليوم”. فقد استضاف شارل بوني عددا من هؤلاء العمال في جنيف، بحيث شاركوا في عمليات تنقيب عن الآثار تحت كاتدرائية جنيف لعدة أشهر وفي مناطق أخرى من سويسرا.

ويتذكر شارل بوني أن أولى عمليات التنقيب في السنة الأولى تمت بمشاركة حوالي 60 إلى 80 قفطيا. ولكن الاستعانة بالعمال القفطيين توقفت فيما بعد ليحل محلهم عمال من أبناء المنطقة. والسبب في ذلك يعود حسب شارل بوني الى “بحث الأعمال التي ستتم في المنطقة في جذور حضارة سودانية وليست مصرية”. وكان بذلك أول وآخر من كوّن أبناء المنطقة لاستخدامهم في عمليات التنقيب عن الآثار، وهذا في الوقت الذي تستمر فيه فرق التنقيب الأخرى في الاعتماد على القفطيين.

ويجمع كل العمال المختصين الذين قابلناهم في منطقة كرمة على ضرورة الاستمرار في تعليم هذه المهنة للأجيال القادمة؛ إذ يرى الرايس جادو عبد الله جاد الرب محمد، وهو من العمال الذين كونهم شارل بوني قبل أربعين سنة، أن “تواجد المتحف بكرمة والقسم الملحق به لتكوين المختصين في مهنة الآثار سيعمل على تطوير تعليم تكوين عمال الآثار بالمنطقة، وهم على استعداد للمشاركة في هذا التكوين”.

ويعقد شارل بوني أملا كبيرا على أن يعمل تكوين مختصين سودانيين في علم الآثار، سواء من قبل السويسريين أو الفرق الأخرى الفرنسية والألمانية وغيرها، على “خلق نواة مختصين سودانيين في علم الآثار”.

وفي بلد شاسع مثل السودان، يراهن شارل بوني على تكاثف جهود كل الفرق العاملة في مجال التنقيب والتكوين للسماح لهذا البلد بالنهوض بقطاع ستكون له تأثيرات إيجابية على فهم تاريخ المنطقة وتاريخ الإنسانية ككل. كما يعقد العديد من المسؤولين، سواء المحليين أو في العاصمة الخرطوم، آمالا كبرى على أن يعمل ذلك على ترويج سياحة ثقافية قد تدعم تنمية المنطقة.

يرافق شارل بوني في عمليات التنقيب عن الآثار منذ حوالي أربعين عاما ثلاثة من أقدم العمال من أبناء المنطقة الذين تحولوا إلى رؤساء فرق أو ما يطلق عليهم إسم “الرايس “. وقد اصطحبهم شارل بوني إلى جنيف حيث شاركوا في عمليات تنقيب بسويسرا، وتعلموا تقنيات التنقيب عن الآثار. وهم اليوم يشرفون على فرق التنقيب في منطقة كرمة بعد أن اكتسبوا خبرة يودون نقلها للأجيال القادمة.

عن هذه التجربة، يقول الرايس جادو عبد الله جاد الرب محمد “شاركت مع شارل بوني منذ عام 1965 لما كنت شابا. وقد اشتغلت بيومية لم تكن تتجاوز 23 قرش ونص. وكانت البداية في منطقة تابو، ثم جئنا إلى كرمة في عام 1973 لغاية اليوم”. ويعتز الرايس جاد بكون شارل بوني قد كونهم تكوينا جيدا بحيث تحولوا من مجرد عمال ينقلون التراب إلى مختصين يملكون تقنية تنظيف القطع الأثرية التي يتم اكتشافها والإشراف على باقي العمال في غياب المسؤول السويسري. ويتذكر فرحة اكتشاف تماثيل الفراعنة السود في دوقي جيل، كما يعتز بإقامة متحف كرمة في عين المكان.

ومن الاكتشافات التي ساهم فيها العثور على تمثال يعود لعهد ممكلة مروي في منطقة تابو في السبعينات. ولا يتردد في تشجيع أبنائه على تعلم هذه المهنة بحيث أن واحدا منهم يشتغل حاليا معه في البعثة السويسرية التي يقول إنها أحسن بعثة من حيث التعامل مع العمال المحليين.

وإذا كان الرايس جاد يعترف بأن هذه المهنة كانت في البداية من تخصص أبناء قفط (بمصر)، فإنه يعتبر أن “أبناء المنطقة أصبحوا قادرين على أداء هذا الشغل على أحسن وجه”، خصوصا وأنه شارك مع شارل بوني في حفائر في سويسرا وفرنسا وإسبانيا والمغرب.

الرايس صالح مديح صالح، من منطقة حي زمار قرب تابو، ساهم إلى جانب شارل بوني في عملية التنقيب بمنطقة تابو منذ عام 1965. ويعترف بأنه لم يكن لديه أي علم بعملية التنقيب عن الآثار، لكن بعد سنتين من العمل العادي، وبعد أن علم أنه يحسن القراءة، طلب منه شارل بوني تولي مهمة الإشراف على العمال بدل الخبير المصري الذي كان يقوم بذلك. وقد تخصص الرايس صالح في التنقيب عن الهياكل العظمية في مقبرة الديفوفة الشرقية إلى جانب خبير البعثة لوي شيكس.

وقد شارك الرايس صالح مرتين في أعمال تنقيب بسويسرا وهذه التجربة سمحت له بـ “التنقيب في محيط جغرافي مغاير لما هو معروف في السودان”. كما شارك في أعمال تنقيب داخل كاتدرائية جنيف.

الرايس عبد الرازق عمر نوري، من منطقة تابو، بدأ العمل مع شارل بوني في تابو منذ حوالي عشرين سنة وانتقل معه إلى كرمة. ويجد في مهنة التنقيب عن الآثار مهنة ممتعة ويعتز لكون نشاط شارل بوني عمل على زيادة اهتمام السودانيين بماضيهم الحضاري.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية