مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“لقد سـرقُـوا منّي شـبـابــي”

أفراد من السلطة يعرضون أطفالا للمزاد العلني، وهي من الممارسات الشائعة حتى القرن التاسع عشر (لوحة محفورة على الخشب لـ "إميل زبيندن" و"ليمات فيرلاغ") Emil Zbinden, Holzschnitt, Limmat Verlag

بعد صمْـت استمر سنيــن طويلة، جاء الوقت الذي يتكلّـم فيه الأطفال الذين تمّ نزعهم من عائلاتهم من عشرينات إلى ستينات القرن الماضي في سويسرا.

افتُتح في العاصمة الفدرالية برن يوم 26 مارس الماضي معرض يرْوِي صفحة مُـؤلمة من صفحات التاريخ السويسري، وتستمِـر فعالياته إلى يوم 27 يونيو القادم.

سويسرا ليست بجنّـة، بل توجد فيها فظائع أيضا. فقد تُـصاب بالقُـشعريرة وأنت تستمع لشهادات مَـن سُرِقت طفولتهم والمعروفون باسم: “فيردنغ كيندر” أو “أطفال المزاد”، وهم أطفال تحت الكفالة.

في العهد القريب، وحتى الستينات من القرن الماضي، انتُزع عشرات الآلاف من الأطفال من أبويْـهم وتم إلحاقهم بدُور الرِّعاية أو بأسَـر غالبها يعيش في الأرياف ويعمل في الفلاحة، وكثيرا ما أجبِـر هؤلاء الأطفال على القيام بالأعمال الشاقة، وتحمُّـل أصناف التسلّـط والاستخدام.

لقد بقي مصير هؤلاء الأطفال يلفّـه الغموض وتحُـوطه الضبابية لسنوات، إلى أوائل التسعينات الماضية، حيث بدأ بعضهم ممّـن كانوا أطفالا وكبروا، يتجرّؤون على البَـوح بشجْـبهم لسياسة الظُّـلم الاجتماعي التي امتدّ شرّها لعشرات السنين.

ففي مقابلة معه من خلال شريط فيديو مصور، يصف “ميشيل” تلك الأيام قائلا: “كانت عصِـيبة، ومجرّد ذكرها يبعث على الألم”.

ومن جانبها، صرحت جاكلين هاوسلر، المشرفة على المعرض وعُـضو جمعية “الطفولة المسلوبة”: “إنها قضية أجيال”، مضيفة: “العديد من هؤلاء الأشخاص باتوا لسنوات يخفون طفولتهم، لخشيتهم من أن ترتدّ عاقبة تذمّرهم عليهم، وكثيرا ما انفلتوا في الكلام بمجرّد خروجهم إلى عالم العمل أو بمجرد أن كبر أبناؤهم”.

عمالة رخيصة

تعتمد المادّة الأساسية للمعرض على مقابلات أجرِيَـت ضِـمن دراستيْـن شملتا قرابة 300 شخص ممّـن تم ضمّـهم لغير أسَـرهم خلال الفترة ما بين العشرينات والستينات من القرن الماضي.

وحول هذه الاعترافات، تقول جاكلين هاوسلر: “بالطبع، هذه اعترافات موضوعية، وإلا فإن هنالك أيضا وبلا شك، أشخاصا كانت تجربتهم ناجِـحة وطفولتهم سعيدة”.

وللسعادة أوجُـه مختلفة، فقد اعترف كل من جوهان وسيمون وجورج وجون لويس وباربرا.. بأنهم قد حصلوا على الكثير من السّعادة، إلا أن “ما كان ينقصهم بكل بساطة، هو ما يطلق عليه الناس اسم الحبّ”، كما عبّـر عن ذلك أحدهم.

كما أن للتبنِّـي أسبابا مختلفة أيضا، منها الفقر ووفاة الوالديْـن والطلاق والولادة غير الشرعية والأسباب غير الأخلاقية، وكذلك إن لم تتوافق حياة الوالديْـن مع مستوى المعيشة للطّبقات الوسطى أو البورجوازية في المجتمع…

نقرأ في إحدى لوحات المعرض هذه العِـبارة: “عندما مرض والِـدي، طلبَـت أمي المساعدة من مكتب المساعدات الاجتماعية، إلا أنهم رفضوا. لقد فضّـلوا توزيعنا على عدّة أسَـر، بدلا من تقديم المساعدة لأمِّـنا وهي تقوم بتربِـيتنا. كنا تسعة أطفال وتم تفريقنا جميعا على أسَـر متعدّدة”.

لقد كان نهج السلطات يقضي بأن ضمّ الأطفال إلى أسَـر أخرى – تستخدمهم كأيدي عاملة رخيصة – أقلّ تكلفة من تقديم المساعدة للوالديْـن.

منبوذون

الحياة اليومية مزرية، كما تبيِّـنها شهادات الكثيرين، من بينهم “جوهان” الذي قال في شهادته: “كنا نأكل في زريبة بلا نوافذ قريبا من حظيرة الدواب. لم أجلس طوال حياتي على طاولة طعام”.

وتستطيع أن تشاهد على إحدى واجِـهات المعرض بعض الأشياء التي تحمِـل معنى خاصا بالنسبة لهؤلاء الأطفال الذين كثيرا ما عاشوا حياة حِـرمان وإقصاء، فهذه – على سبيل المثال – دُمية تخصّ أحدهم أهداها إياه أباه بالتبنِّـي قبل وفاته، إلا أنها ما لبثت أن أخِـذَت منه واستولى عليها كافِـلوه.

ويحتوى المعرض على سبعة فضاءات، يحمِـل كل منها عنوانا ويختصّ في جانب أو في موضوع ما مثل: قسم ذكريات اليوم الأول من أيام الكفالة، وقسم الصوتيات لسماع شهادات الـ “الفيردنغ كيندر” أو “أطفال المزاد” ممّـن تعرّضوا لمآسي الكفالة، وقسم استراتيجيات التغلّـب على الصّـدمة عند سنّ البلوغ، ورسائل الفيديو، والوضعية الراهنة، والمشاكل الحالية…

وهناك قسم صغير يُذكّـر بأيام الدراسة وكيف كان هؤلاء الأطفال يُـعامَـلون معاملة المنبوذين. يقول سيمون، الذي كان يرتاد المدرسة مع أخويْـن له آخرين: “أكثر ما أشمئِـز له، هو أن أحدا من الأسَـر التي تُـعتبر طبيعية، استدعانا ولو لمرّة واحدة لحفل عيد ميلاد”.

لا اعتذار رسمي

توجد عند هذه الفِـئة من الأشخاص، نفرة شديدة تُـجاه السلطات، فقد كتب أندريه هذه العبارات شديدة اللّهجة: “كما أخشى الطاعون، أخشى كل ما هو خِـدمة اجتماعية وكل ما له صفة رسمية وكل ما هو حكومة”.

في بعض الأحيان، لا تجِـد أكثر سُـوءا من الأوصياء المعيّـنين من قِـبل الدولة والذين يُـفترض بهم أن يحسنوا إدارة أموال المكفولين. تذكر فرانسواز أنها يوم أن بلغت من العمر 20 سنة، قدّم لها كافلها مبلغا من المال قدره 200 فرنك، إلا أنها لم تشم رائحة ملِّـيم واحد من مبلغ 160 ألف فرنك، هو ثمن بيع أرض كان يمتلِـكها والدها.

ويُـبدي ميشيل سخطه قائلا: “إن الحكومة لم تقدم أي اعتذار، إطلاقا، إطلاقا”، ويضيف فالتر زفالين، عضو جمعية “netzwerk verdingt”، وهي جمعية تضم مكفولين سابقين، أنه: “في عام 2003، صوّت البرلمان ضدّ قرض يُخصّص لأجل البحث التاريخي وتقصِّـي الحقائق حول هذه القضية”، وأستدرك قائلا: “حتى الآن، الكنيسة الكاثوليكية في مدينة لوتسرن هي وحدها التي قدّمت اعتذارا رسميا”.

التعلّـم من أخطاء الماضي

من الطبيعي، أن يلجأ المكفولون، عندما يصلون سنّ البلوغ، لعدّة وسائل من أجل التغلّب على صدمة الماضي، إذ منهم من يَـسعى إلى تكوين أسْـرة والبحث عن عمل، ويطردون عن أنفسهم شبح ذكريات الطفولة، ومنهم من يجِـد متنفّـسا في ممارسة هواية أو القيام بنشاط ما، والبعض منهم ينتهي به المطاف إلى السِّجن أو إلى مصحّـات الأمراض العقلية أو النفسية.

وتؤكِّـد جاكلين هاوسلر معربة عن الهدف المنشود من المعرض قائلة: “لا نريد من خلال هذا المعرض اجترار الماضي وفتح الجروح، بل نريد أن نؤكِّـد على مفهوم وجوب الاستفادة من أخطاء الماضي واستخلاص الدروس والوعي السليم بمحاذير التربية خارج النطاق الأسري، وأن.. نتجنب أن نأتي بعد سنوات فيَـصيح بنا طفل آخر، كما صاح ميشيل: “لقد سُرِق شبابي”.

سويس انفو – دانييلي مارياني

فكرة انتزاع الأطفال الفقراء أو الأبناء غير الشرعيين من والديهم وضمهم لكفالة آباء غرباء، هو تقليد يعود إلى العصور الوسطى.

يُعهد بهؤلاء الأطفال في الغالب إلى الأسر الريفية، وتدفع لها البلديات مبلغا ماليا نظير تأمين الغذاء والسكن لهؤلاء القُصَّر، الذين عادة ما يتم استخدامهم فيما بعد للقيام بالأعمال الشاقة.

كان يوجد في العديد من الأماكن، وحتى القرن التاسع عشر، أسواق ينتهي إليها هؤلاء الأطفال ليُـباعوا فيها بالمزاد العلني. ففي كانتون لوتسرن، على سبيل المثال، لم تُمنع هذه المزادات إلا في عام 1856.

بالإضافة إلى عامل التوفير – حيث أن العُـهدة بالأطفال إلى أسر يكلف أقل من العهدة بهم إلى دُور الرعاية – كانت هناك نظرة تعتبر أن العهدة بالطفل إلى أسرة، من شأنه أن يوفِّـر له البيئة التربوية الأفضل.

في الستينات من القرن الماضي، توقف في كثير من المناطق الريفية استغلال هؤلاء الصّبيان في العمالة الرخيصة، “نتيجة – كما تقول مايا براومغارتنر، من جمعية “الطفولة المسلوبة” – للتطوّر والحداثة، حيث قلّـت الحاجة لهذا النوع من العمالة الرخيصة، ومن ثم زادت رقابة الدولة، ناهيك عن التطور الأخلاقي والحسّ المدني”.

لا توجد إحصاءات حول هذه ظاهرة، بينما تشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من 10 آلاف طفل خضعوا لهذا النوع من الكفالة خلال الفترة ما بين 1920 و1960.

افتتح في مقر منتدى الكنفدرالية السياسي في برن (Käfigturm) المعرض: “أطفال تحت الكفالة يروُون كيف سُـلبت طفولتهم“، وتستمر فعالياته من 26 مارس إلى 27 يونيو 2009.

سينتقل المعرض بعد ذلك، إلى كل من لوزان وبازل وبادن وفراونفلد ولوتسرن ومارتيني وفريبورغ. وتجرى المشاورات حاليا لنقله كذلك إلى جنوب جبال الألب.

وسيتم تدعيم المعرض خلال مراحل تنقّـله، بمواد ومعلومات ومواضيع تخُـص المنطقة التي سيعرض فيها. ففي كانتون تيتشينو، جنوب سويسرا، على سبيل المثال، سيتطرّق إلى موضوع استغلال الأطفال في تنظيف مداخِـن التدفئة.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية