مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عفو يجدد الآمـال وقد “يُـعـدّل” بعض الحسابات

صورة نشرها موقع كلمة تونس لبعض شبان جرجيس مع عدد من الأقارب والنشطاء فور الإفراج عنهم يوم 27 فبراير 2006 www.kalimatunisie.com

في خطوة مفاجئة، قرر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي العفو على قرابة السبعين من سجناء حركة النهضة.

جاء ذلك ضمن عفو رئاسي شمل أكثر من 1657 سجينا أغلبيتهم الواسعة محكوم عليهم في قضايا حق عام.

الجهة الوحيدة التي كانت تتوقع أن يصدر قرار الإفراج هي حركة النهضة التي يبدو أنها تلقت قبل فترة وجيزة تطمينات في هذا الشأن.

أما بقية الأطراف السياسية فقد كادت أن تيأس من احتمال حدوث انفراج في ملف المساجين السياسيين، وهو ما جعل الدكتور منصف المرزوقي، يجزم في بيان أخير بأن النظام “لن يطلق أبدا المساجين السياسيين، ولن يسمح أبدا بحرية التعبير، ولن يقبل أبدا بحرية التنظيم”.

وبالرغم من أن هذا القرار لم يشمل كل الذين اعتقلوا من أجل آرائهم وانتماءاتهم السياسية، حيث لا يزال العشرات منهم يقبعون في السجون، إلا أن الأوساط السياسية، وفي مقدمتها حركة النهضة تقبلت بارتياح واسع هذه الخطوة الجديدة. هذه الخطوة وصفها القيادي حمادي الجبالي المفرج عنه بالإيجابية، واعتبرها تمثل “بصيص أمل” حول احتمال الإفراج عن بقية المعتقلين وطي صفحة سجناء حركة النهضة.

تصريحات متفائلة

أول ما يلفت الانتباه في هذا القرار الرئاسي، هو توقيته، حيث جرت العادة بأن ترتبط قرارات العفو بالمناسبات الدينية والوطنية. وقد فتح ذلك مجال واسعا للتأويلات، حتى ربط بعضهم بين هذا الإجراء والزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد لتونس، الذي تعرض في محادثاته الرسمية إلى رغبة واشنطن في أن تقرن تونس الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بالإصلاح السياسي.

وبقطع النظر عن هذا التفسير الذي قد يبدو بعيدا عن الواقع، فإنه من المؤكد أن السلطة قد أصبحت “قلقة” من التقارب الذي تم مؤخرا بين حركة النهضة وعدد من الأحزاب وأوساط المعارضة التي تتهمها الجهات الرسميــة بـ “الراديكالية”.

وبالرغم من أن هذا التقارب لم يترجم على أرض الواقع بشكل ملموس، حيث كانت مشاركة “النهضويين” في التجمع الأخير الذي دعت إليه هيئة 18 أكتوبر (يوم الجمعة 24 فبراير) محدودة عدديا، خلافا لما كان يتوقعه البعض. وهو ما أثار السؤال التالي : هل يعود ذلك إلى حالة الضعف التي تعاني منها حركة النهضة نتيجة الإعصار الذي مرت طيلة التسعينات، أم أن السبب يعود إلى تقديرات سياسية، وحرص من القيادة الرمزية الموجودة داخل البلاد على عدم قطع الأمل نهائيا في النظام، إلى جانب عدم إشعاره بأن الحركة قد اختارت من جديد المواجهة المفتوحة؟.

ولا شك في أن الإفراج عن سبعين من كوادرها، سيزيد من حذر الحركة، ويجعل مشاركتها في النضال المشترك مع حلفائها الجدد تخضع لحسابات مصلحية واعتبارات حزبية لا يمكن التقليل من أهميتها. وإذا تحقق ذلك فإن النظام سيكون قد تحرك في الوقت المناسب ليرمي أكثر من عصفور بحجر واحد، غير أن حركة النهضة لم تغفل في البيان الصادر عنها عقب الإفراج عن مطالبة السلطة بـ “تحقيق مطالب حركة 18 أكتوبر للحقوق والحريات التي نتمسك بها مع كل القوى الوطنية الجادة”، إلى جانب التنويه بكل الذين “ساهموا في الدفاع عن المساجين السياسيين وطالبوا بإطلاق سراحهم من الهيئات والمنظمات والشخصيات الحقوقية والسياسية”.

في هذا السياق، جاءت تصريحات الجبالي لوسائل الإعلام متناغمة مع مثيلتها التي سبق وأن أطلقها كل من القياديين علي العريض وزياد الدولاتلي بعد الإفراج عنهما في نوفمبر 2004. لقد تميزت هذه التصريحات بالهدوء والنبرة المتفائلة، والرغبة في طمأنة السلطة من خلال خطاب يستبطن الدعوة إلى “المصــالحـة”.

وقد تجلى ذلك في تأكيده في تصريح خاص لسويس إنفو يوم 28 فبراير بأن الإفراج يمثل “خطوة على الطريق” وأنه من المهم “أن لا تنتكس وأن لا تتوقف”. وكان قد أشار في تصريحات سابقة بأن “تونس في حـــاجة إلى كل أبنــائها”، كما أعرب عن انتظاره لإطار أوسع “يقرب من اتجاه حل هذه القضية الوطنية” حسب تعبيره.

وهو خطاب ليس بالجديد بالنسبة لمدير صحيفة “الفجر” الذي عرف من قبل باعتداله، وحرصه على تجنب إدخال الحركة في مواجهات غير محسوبة العواقب، لكن المحاولات التي قام بها من أجل التهدئة وإطفاء الفتيل جاءت متأخرة، حيث “سبق السيف العذل”. ومن المفارقات أنه كان أول من استهدفته السلطة ووضعته في مقدمة ضحايا تلك الأيام الصعبة.

أسلوب السلطة .. مدروس

لا يخفى أن قضية الإفراج عن المعتقلين قد شكلت عنصرا ضاغطا على توجهات حركة النهضة، حيث لا تزال هذه القضية تأتي في مقدمة أولوياتها. وقد عبر عن ذلك المحامي نور الدين البحيري (الذي وقّـع في نوفمبر 1988 على الميثاق الوطني باسم الحركة) بقوله مؤخرا أن “قضية المساجين السياسيين هي خط الفرز الذي ما بعده فرز بين كل أطراف الساحة في الحكم والمعارضة وفعاليات وهيئات ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، من يقطع نحو حلها شبرا نخطو نحوه خطوة، إن لم تكن خطوات، ومن يتحرك فرسخا سعيا لتأبيدها نبتعد عنه أمتارا”. وبالتالي فإنه بدون استحضار الضغط الداخلي المتولد عن ملف المساجين، فإنه سيكون من الصعب فهم طبيعة المواقف السياسية لحركة النهضة في هذه المرحلة.

من جهة أخرى، يبدو أن هذا العفو جاء مدروسا، ويستشف منه ترتيب “أولويات” أصحاب القرار من حيث تصنيفهم الراهن للسجناء السياسيين. لقد كان من الطبيعي أن يكون النهضويون أكثر المستفيدين من هذا الإجراء بحكم أنهم يشكلون الأغلبية الواسعة من المعتقلين السياسيين.

وهنا حافظت السلطة على أسلوبها في معالجة هذا الملف. وهو أسلوب يعتمد على التصفية التدريجية للملف، بإعطاء الأولوية للذين قضوا أكثر من نصف العقوبة. وبهذا يرسل رسالة إلى حركة النهضة مفادها أن المشكلة في طريق الحل، إذا تمسكوا بالتهدئة ولم يتورطوا في عملية تصعيد جديدة، خاصة مع اقتراب الاحتفالات بخمسينية الاستقلال.

ولكن من جهة أخرى يبقى النظام يحتفظ بعدد واسع من مساجين الحركة وقادتها. فاستنادا للقائمة التي نشرتها “الجمعية الدولية للمساجين السياسيين” في شهر نوفمبر 2005، كان عدد معتقلي النهضة في حدود 250 شخصا، فإذا حذفنا المجموعة الأخيرة التي تم تسريحها أي 72 يكون العدد المتبقي من النهضويين في السجون التونسية هو 178 سجينا، من بينهم عديد الوجوه القيادية.

كما حرص النظام أيضا على التخلص من ملف مجموعة جرجيس، التي – وبعد اضطراب لا تعرف أسبابه – تم الإفراج عن عناصرها الستة المتبقين، حيث سبق أن أطلق سراح زميلهم في شهر فيفري من السنة الماضية. وقد تحول هذا الملف إلى عبء ثقيل على السلطة بعد أن فشلت في إقناع الأطراف الدولية بأن المجموعة مورطة في قضية لها صلة بالإرهاب. فالمنظمات الحقوقية والدافعة عن حرية التعبير والإبحار على اإنترنت دافعت ببسالة عن براءة هؤلاء الشبان، واستندت على قضيتهم لتحاصر النظام التونسي، حتى في عقر داره، وهو يحتضن الجولة الثانية من القمة العالمية لمجتمع المعلومات (16 – 18 نوفمبر 2005).

في مقابل ذلك، رفضت السلطة الاستجابة للمطالبة المحلية والدولية بإطـلاق ســراح المحامي “محمد عبو”. فبالرغم من الضجيج الذي لا تزال تحدثه قضية هذا المحامي الذي فقد حريته على إثر كتابته لمقال شديد اللهجة على إحدى مواقع الشبكة العنكبوتية، إلا أن ذلك لم يثن السلطة عن مواصلة اعتقاله، بل والعمل على شطبه نهائيا من قائمة المحامين الممارسين للمهنة. إضافة إلى ما تعانيه أسرته من مضايقات متنوعة، حسبما ذكرته الجمعيات الحقوقية التونسية.

أما الذين حوكموا بمقتضى قانون الإرهاب، وبلغ عددهم قبل موفى السنة الماضية حوالي 156 معتقلا، فإن النظام يعتبرهم حاليا أخطر أنواع المساجين السياسيين، رغم أن المنظمات الحقوقية مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمجلس الوطني للحريات بتونس والجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، إلى جانب محاميهم يعتقدون بأن ملفاتهم “خاوية من أدلة إدانة من شأنها أن تبرر الأحكام الثقيلة التي سلطت عليهم” من طرف المحاكم.

آمال تجددت .. وحسابات تعدلت

في تونس يتداول الجميع السؤال التالي: هل يمكن أن يكون هذا القرار المفاجئ مدخلا لإجراءات أخرى قد يستفيد منها بقية سجناء الرأي، ويتوقع البعض أن تصدر قبل موعد 20 مارس عيد استقلال تونس عن فرنسا؟ أم أن المسألة ستقف عند هذا الحد؟.

هناك أيضا من يتحدث عن احتمال أن يعفو الرئيس بن علي عن دفعة جديدة من المعتقلين قد تشمل السيد عبد الرحمان التليلي، مؤسس والرئيس السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي الوحدوي.

إن هذه المناسبة ستكون هامة في رمزيتها وفي الاحتفالات الضخمة التي ستحيط بها، وهو ما يوفر فرصة للرئيس التونسي بأن يتخذ قرارات نوعية، تنهي حالة الاحتقان السياسي، إضافة إلى بوادر الاحتقان الاجتماعي.

وإذا كان البعض يستبعد أن يكون النظام قادرا على “تغيير جلده” وتعديل خياراته الكبرى، فإن هناك من لا يزال يؤمن إيمانا قاطعا بأن الرئيس بن علي قادر سياسيا على تغيير المشهد كليا بإحداث منعرج جديد والقيام بـ “الحلقة الثانية من تغيير السابع من نوفمبر”، على حد تعبير البعض.

وفي انتظار ما ستكشفه الأسابيع الثلاثة القادمة، فإن الثابت هو أن العفو الذي صدر، رغم حدوده، إلا أنه جدد بعض الآمال، وعدل بعض الحسابات، وخلق حالة إيجابية، قد تكون مؤقتة إلا أنها ستساعد – في كل الأحوال – على تأمين مرور الذكرى الخمسينية للإستقلال في أجواء أقل احتقانا.

صلاح الدين الجورشي – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية