مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

في تونس.. مشهد متحرك ومعارضة مشتتة وحزب حاكم مُهيمن

ساعد هذا الجسر الجديد الرابط بين ضاحيتي حلق الوادي ورادس على مزيد انسياب حركة المرور بين شمال وجنوب العاصمة التونسية، لكن جسور التواصل السياسي لا زالت في الإنتظار AFP

قبل أشهر قليلة من موعد الاستحقاق الرئاسي والتشريعي، يبدو المشهد السياسي التونسي سائرا نحو أحادية الحزب الحاكم، في مقابل لوحة فسيفسائية لمعارضة تبدو غير قادرة على توحيد صفوفها وحماية كياناتها من مزيد الضعف والتذرر.

آخر ما كشفت عنه التطورات على الساحة السياسية التونسية صدور بيان موقع عن 27 من قياديين وكوادر وسطى وقاعديين في الحزب الديمقراطي التقدمي، أعلنوا فيه انسحابهم من تجربة ساهموا في بنائها.

والحقيقة أن هذا القرار كان متوقعا نظرا لعمق الخلافات التي اندلعت بين هذه المجموعة وأغلبية قيادة الحزب حول مسائل مفصلية. كما أن المحاولات التي قام بها البعض من داخل الحزب من أجل حسن إدارة هذا الخلاف، لم تفض إلى نتيجة، وكان آخرها الرسالة التي وجهها خمسة أعضاء من المكتب السياسي إلى المجلس الوطني للحزب بتاريخ 4 أبريل الجاري، ومن بينهم الباحثان في العلوم الاجتماعية عبد اللطيف الهرماسي والمهدي مبروك. وقد حذر هؤلاء في رسالتهم مما وصفوه بـ “الممارسات الحاصلة خلال الأشهر الأخيرة التي تمس من وحدة الحزب والانسجام بين أفراده وتضعف روابط الانتماء إليه والحفاظ على صورته ومكانته”، كما دعوا إلى ” تكريس الحوار الداخلي.. ونبذ كل أشكال الأحادية والإقصاء والتهميش”.

وبسؤال الآنسة مية الجريبي الأمينة العامة للحزب عن مدى تأثير مثل هذا الانسحاب على مستقبل “الديمقراطي التقدمي”، عبرت عن أسفها، وتمنت للمنسحبين أن “يجدوا فضاءات أخرى تكون أرحب”، وإن شككت في إمكانية العثور على ذلك. وأضافت أنها لا تريد أن تقلل من خسارة الحزب لعناصر منهم أعضاء في المكتب السياسي ساهموا في وضع سياسات الحزب وترسيخ التعددية فيه، لكن ذلك لن يغير – حسب رأيها – من تمسك الحزب بتجربته المتعلقة بالنضال المشترك بين منتمين ينحدرون من مشارب فكرية وسياسية مختلفة، مشيرة في هذا السياق إلى تمسك عناصر أخرى بالبقاء داخل الحزب رغم أنها “منحدرة من نفس الحساسية الإسلامية التي يمثلها المنسحبون أو إسلاميون آخرون”. فالحزب حسب اعتقادها لا يزال يدفع في اتجاه إنجاح التجربة القائمة على “الإلتفاف حول البرنامج السياسي بقطع النظر عن الرؤى الأيديولوجية”.

وبقطع النظر عن هذه النهاية السيئة لتجربة فريدة في الساحة السياسية التونسية، فإن الحزب الديمقراطي التقدمي، الذي تمكن في السنوات الأخيرة من أن يتجاوز أزمته السابقة، ويفرض نفسه كرقم محترم في المعادلات الداخلية، قد تلقى ضربة موجعة، تستوجب منه – حسب اعتقاد البعض من مناضليه – “مراجعة جدية وتقييما عميقا لما حصل”، وذلك قبل أن يخسر عناصر أخرى أربكها الخلاف الأخير ووضعها أمام أسئلة محيرة، وذلك في ظرف يشعر فيه الحزب بأشد الحاجة للعنصر البشري والتعبئة والتجميع، خاصة وهو يستعد – حسبما ذكرت الأمينة العامة لسويس انفو – لمواصلة الدفاع عن ترشيح الأستاذ نجيب الشابي للرئاسية القادمة، وذلك إلى عشية الانتخابات، وحينها “سيكون لكل حدث حديث “، على حد تعبيرها.

التكتل والتجديد.. حملات ومضايقات

أما بالنسبة لحزب التكتل من أجل العمل والحريات، فقد نجح من ناحيته في تجاوز الضجة التي قامت على إثر الاتهامات الخطيرة التي وجهها رئيس تحرير صحيفة الحزب “مواطنون” إلى د. مصطفى بن جعفر رئيس الحزب، بعد تصريحات أدلى بها هذا الأخير في جينف. وقد حظيت تلك الاتهامات وصاحبها بتغطية إعلامية واسعة جدا، كما تولت أكثر من جهة إعلامية وحتى سياسية المشاركة بفعالية في هذه الحملة.

ويعتقد د. خليل الزاوية عضو المكتب السياسي في التكتل بأن سبب هذه الحملة ليست تصريحات بن جعفر، بقدر ما هي ردود فعل متشنجة من السلطة على ترشح هذا الأخير للإنتخابات الرئاسية المقبلة. وهو ما يؤشر حسب رأيه على “انغلاق سياسي وعدم استعداد لقبول المنافسة في حدها الأدنى”. مع الملاحظ أن السيد زهير المظفر الوزير المعتمد لدى الوزير الأول قد استبق قرارات المجلس الدستوري، وصرح بأن “المرشح للانتخابات الرئاسية يجب أن يكون منتخبا من قبل المؤتمر”، في إشارة ضمنية إلى وضعية بن جعفر الذي سيعقد حزبه مؤتمره الأول في موفى شهر أفريل، مما يفتح المجال إلى احتمال إسقاط ترشحه في آخر المشوار، رغم أن نص القانون المعمول به قابل للتأويل.

ونظرا لأن بن جعفر طالب (على غرار الديمقراطي التقدمي) بفتح المجال أمام رقابة خارجية بما في ذلك الأمم المتحدة على الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة، فقد ردت الأوساط الرسمية بشدة على مثل هذه الدعوة، رافضة قبول مراقبين دوليين يحجة أن تونس “ليست دولة ناشئة في مجال الديمقراطية”، وهو ما فسرته بعض أوساط المعارضة بكونه محاولة للتراجع عما تم الإعلان عنه سابقا حول فتح الاستحقاق القادم أمام المراقبين الأجانب، حيث تم استبدال ذلك بالترحيب بـ “الضيوف والملاحظين الأجانب”.

من جهتها تواصل حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا) التنديد بما تعتبره “مضايقات” مسلطة على مرشحها للإنتخابات الرئاسية السيد أحمد إبراهيم، وعبرت بدورها عن شكوكها في أن تجري تلك الانتخابات في ظروف مقبولة.

وفي هذه الأجواء، تحاول بعض الأطراف إزالة التوتر الذي نشب بين الحزب الديمقراطي التقدمي من جهة، وبين التكتل وحركة التجديد من جهة أخرى، على إثر مقال نشر بصحيفة “الموقف” تضمن هجوما على مرشحي هذين الحزبين، وهو ما زاد في إضعاف الأمل في إعادة تنشيط مبادرة 18 أكتوبر التي تسير ببطء شديد، أو في تفعيل المشاورات من أجل التوصل إلى صيغة قد تسمح بالتنسيق بين هذه الأحزاب القانونية المتبنية لخطاب نقدي تجاه السلطة من أجل تشكيل قائمات موحدة بينها لخوض الانتخابات التشريعية التي ستتزامن مع الاستحقاق الرئاسي في أكتوبر القادم.

هيمنة الحزب الحاكم..

أما الأحزاب غير القانونية، فقد اعتبرت نفسها غير معنية بالإنتخابات القادمة، فهذه الانتخابات من وجهة نظرها ليست سوى “مشهد ديكوري” لإضفاء المصداقية على نظام الحكم، الذي تعتبره “فاقدا للشرعية”. إنها وجهة نظر حزب العمال الشيوعي التونسي، وكذلك حزب المؤتمر من أجل الجمهورية. وهما حزبان يعلنان بوضوح عن ضرورة تغيير النظام السياسي برمته، ولا يعتقدان بإمكانية إصلاحه أو إقامة أي نوع من أنواع العلاقة معه. لكن رغم الجرأة التي تميز خطابهما فإن تأثيرهما في الرأي العام التونسي ضعيف ومحدود جدا.

وتبقى حركة النهضة في حالة تأرجح، فهي قد أعلنت منذ فترة بأنها غير معنية بهذه الانتخابات، لكن في الآن نفسه تستمر قيادتها في الخارج في إدانة الوضع القائم، والتشكيك في مصداقية الانتخابات القادمة وتوجيه انتقادات جذرية لسياسات النظام.

وحتى الأحزاب البرلمانية التي تتمتع بجسور مفتوحة مع السلطة، فهي تشعر بعدم الإطمئنان تجاه ما يعتبره الجميع “رغبة جامحة في مواصلة الهيمنة على مؤسسات الدولة والمجتمع” من قبل الحزب الحاكم. وهو ما كشف عنه برنامج حواري بثته القناة التلفزيونية الرسمية مؤخرا، حيث وجه فيه السيد إسماعيل بولحية، رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين انتقادات علنية وصريحة للتجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، متهما إياه بعرقلة قرارات رئيس الدولة، مما عمق حسب اعتقاده الهوة بين “قصر قرطاج وقصر باردو” (أي بين مقر إقامة الرئيس بن علي ومقر مجلس النواب).

شاب يصعد.. ومشهد متحرك

في هذه الأجواء، كثر الحديث بشكل علني خلال الفترة الأخيرة عن شخصية أصبحت مثار اهتمام المراقبين والطبقة السياسية التونسية. ونعني به السيد محمد صخر الماطري، البالغ من العمر 29 عاما، والذي يعتبر حاليا من أكثر الوجوه الصاعدة في بيئة سياسية أصبحت تفتقر منذ فترة طويلة للتجديد والتشبيب.

خمسة عوامل تضافرت لتجعل من هذا الشاب حديث المجالس، ومركز اهتمام المراقبين. أولها انتماؤه لأسرة معروفة حيث كان الدكتور محمود الماطري، عم والده من الشخصيات البارزة في الحركة الوطنية إلى جانب الحبيب بورقيبة والدكتور الحبيب ثامر وغيرهم من قادة الحزب الدستوري. وثانيا صلة القرابة التي تجمعه بالرئيس بن علي (فهو زوج ابنته البكر من السيدة ليلى الطرابلسي)، وعطف هذا الأخير عليه، وتشجيعه له. وثالثا اقتحامه مجال الاستثمار، حيث تحول في وقت قياسي إلى أحد كبار رجال الأعمال في تونس. ورابعا توجهه الإسلامي الصريح والواضح، حيث عرف عنه التدين، وكثرة تردده على البقاع المقدسة، وعلاقته الوثيقة بالمشائخ القدامى والجدد. وقد ازداد هذا التوجه وضوحا ورسوخا مع إطلاق إذاعة الزيتونة التي أحدثت رجة قوية في مختلف الأوساط، وسيتعزز ذلك بالفضائية الدينية التي ينوي إطلاقها قريبا، وكذلك البنك الإسلامي الذي هو بصدد تهيئته ليدخل قريبا حيز التنفيذ ضمن هذا الاهتمام العالمي بما يسمى بـ “الاقتصاد الإسلامي”، الذي كان من بين إفرازات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة.

أما العامل الأخير الذي زاد في حجم التوقعات، وأدرجه البعض ضمن حسابات بعيدة المدى، فيتمثل في شراء هذا الشاب كامل أسهم مؤسسة الصباح، التي تعتبر أقدم مؤسسة إعلامية تونسية بقيت تعمل حتى الآن. وإذا كان البعض قد قلل من أهمية هذه المؤسسة بعد التراجعات التي شهدتها خلال السنوات الأخيرة، إلا أن تراثها واسمها ودورها التاريخي الذي لعبته سواء في دعم السلطة من موقع الاستقلالية أو في تنويع المشهد الإعلامي، يجعلها أداة مهمة في وضع إعلامي يتسم بالهشاشة وضعف هامش الحرية.

وعندما يجتمع المال والتدين والإعلام في كف رجل طموح، فإن ذلك يكون كافيا لوحده حتى يطلق الألسن والخيال للتحليق بعيدا وفي كل الاتجاهات، ويدخل الحيرة في نفوس التيار اللائكي في تونس الذي لا يزال محروما من تكوين جمعية بسيطة، والذي أزعجته مشاركة الشيخ يوسف القرضاوي في فعاليات “مدينة القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية”، إلى درجة جعلته يحاول تجميع طاقاته من أجل منع عودة هذا الفقيه مرة أخرى إلى تونس، الذي يذكره بـ “كوابيس مزعجة”، على حد تعبير بعضهم.

معضلة

هكذا يبدو المشهد السياسي متحركا، وفي الآن نفسه محاصرا بعوامل عديدة تعمل على فرملته، حتى يبقى تحت السيطرة.

لكن المؤكد أن الجهات الحاكمة تتابع تضاريس المشهد، دون أن تنشغل كثيرا بما يجري، لأن ما يحدث هنا وهناك لا يهدد موازين القوى السائدة، ولا ترى فيه ما من شأنه أن يدفعها إلى تغيير أسلوبها في إدارة الشأن العام.

فلا المتمسكون بخطاب احتجاجي قادرون عمليا على التأثير في مجريات الأحداث بالبلاد، كما لن يطمع الذين ينتهجون أسلوب الاعتدال في أن تمكنهم السلطة من هامش جدي للحركة. وفي ذلك تكمن معضلة العمل السياسي في تونس.

صلاح الدين الجورشي – تونس

تونس (رويترز) – انتهت الخلافات المحتدمة بين شقين في الحزب الديمقراطي التقدمي وهو أحد أبرز تشكيلات المعارضة في تونس باعلان 27 قياديا الاستقالة من الحزب قبل أشهر قليلة من الانتخابات احتجاجا على ماوصفوه بأنه مسار خاطيء للحزب.

وقال محمد القوماني وهو قيادي في الحزب يوم الثلاثاء 28 أبريل 2009 لرويترز انه قدم للامينة العامة للحزب مية الجريبي استقالته برفقة 26 آخرين بدعوى الاحتجاج على سياسة الحزب الحالية القائمة على القطيعة مع الحكومة ورفض ما قالوا انه انفراد برأي واحد.

وكشف موقع (السياسية) المختص في شؤون الاحزاب السياسية في تونس ان الاستقالة شملت قيادات وكوادر بارزة من بينهم فتحي التوزري والحبيب بوعجيلة وعبد العزيز التميمي ورامي الصّالحي.

وقال القوماني الذي يقود فصيلا يدعو أساسا الى اتباع نهج حوار معتدل مع الحكومة “عوامل أساسية دفعتنا الى تقديم الاستقالة هي عدم الاقتناع بنجاعة الخط السياسي للحزب القائم على النهج الاحتجاجي فحسب اضافة الى الاجواء السلبية داخل الحزب التي تعتمد الاقصاء وهو أمر أصبح مقلقا للغاية”.

وتأتي هذه الاستقالة الجماعية داخل الحزب التقدمي في تطور لافت للخلاف بين شقين في الحزب قبل اشهر قليلة من موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر اجراؤها في اكتوبر تشرين الاول المقبل.

لكن القوماني ينفي ان يكون قد اختار برفقة مؤيديه الاستقالة في هذا الوقت بالذات للتشويش على قيادة الحزب في الانتخابات المقبلة التي يسعى الحزب للمنافسة فيها بمرشح في الانتخابات الرئاسية هو نجيب الشابي الامين العام السابق للحزب.

ويضيف القوماني لرويترز “بالعكس التوقيت مضبوط بشكل صحيح لاننا لا نريد ان ندخل في قائمات انتخابية ثم ننسحب او ندعم مرشح لسنا موافقين كلنا عليه”.

واكتفت الجريبي الامينة العامة للحزب الذي تأسس عام 1983 بتعليق مقتضب بشأن هذه الاستقالة.

وقالت لرويترز “اعبر عن اسفي لهذه الاستقالة الجماعية لكوادر من الحزب ومن بينهم من ساهم في بناء هذه التجربة واتمنى ان يجدوا فضاءات اخرى للمساهمة في الاصلاح الذي اجتمعنا على أساسه”.

ويقول الفصيل الثاني في الحزب والذي يقوده الشابي والجريبي ورشيد خشانة انه مستعد للحوار مع الحكومة متى فتحت المجال امام المعارضة في التمتع بالفضاءات العمومية ورفع القيود عن حرية التعبير في البلاد والافراج عن كل السجناء السياسيين.

والحزب الديمقراطي التقدمي معترف به من قبل الحكومة لكنه غير ممثل بأي نائب في البرلمان الذي يسيطر الحزب الحاكم على 80 من مقاعده وهي 189 مقعدا.

وأعلن الشابي الزعيم السابق للحزب الديمقراطي التقدمي المعارض وأحد أشد معارضي الرئيس التونسي زين العابدين بن علي اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية رغم ان هناك تعديلا دستوريا يمنعه من الترشح لهذا المنصب بعد ان تخلى عن الامانة العامة لحزبه لصالح الجريبي التي يحق لها الترشح.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 28 أبريل 2009)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية