مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

في قصر الحير الشرقي.. أعمال تنقيب سويسرية مستمرة منذ 10 سنوات!

تنتصب بقايا قصر الحير الشرقي الذي يعود تاريخ بنائه إلى العهد الأموي في قلب البادية السورية swissinfo.ch

منذ عشرة أعوام، تنكب فرقة تنقيب سورية سويسرية على دراسة محيط قصر الحير الشرقي للتعرف على نمط العيش الذي كان سائدا لدى السكان في الفترة التي قام فيها الخليفة الأموي هشام ابن عبد الملك بتشييد القصر وللمدينة المتكاملة التي كانت تحيط به في قلب صحراء الشام في بداية القرن الثامن للميلاد.

فقد شرع فريق الآثار السويسري بقيادة دونيس جانكان في التنقيب في الموقع ضمن فريق مشترك سوري سويسري منذ عام 2002. ومنذ ذلك الحين، يتردد الباحثون على الموقع كل سنة لفترة شهرين لمحاولة القيام بدراسة شاملة لطريقة العيش التي كانت سائدة في فترة تشييد القصر من قبل الملك هشام ابن عبد الملك في النصف الأول من القرن الثامن ميلادي.

ويقول دونيس جانكان “إن الخلفاء الأمويين ونخبة العصر آنذاك قامت بتشييد أكثر من 30 قصرا ودارا فخمة في بادية بلاد الشام مزودة بملحقات اقتصادية وزراعية وتجارية وصناعية، وفي مناطق شبه صحراوية تمتد ما بين الأردن وسوريا” (حاليا). ويهدف عمل البعثة السورية السويسرية في قصر الحير الشرقي إلى معرفة الأسباب التي دفعت القادة الأمويين آنذاك لتشييد هذه القصور في مناطق شبه صحراوية.

ومع أن البعثة توصف بالسويسرية – السورية، إلا أن مكوناتها العلمية، بالإضافة الى ما بين 6 و 12 من الخبراء السويسريين وبعض الخبراء السوريين من متحف تدمر وما بين عشرين إلى ثلاثين عاملا محليا، تضم خبراء من جنسيات فرنسية وأسترالية وبريطانية وفقا للإحتياجات التخصصية.

وفي كل سنة، يتم تحديد تشكيلة الفريق طبقا لاحتياجات البحث والتنقيب حيث هناك بعض الخبراء الذين لا يقدمون إلا عندما تتوفر المواد واللقى الأثرية التي تتطلب تواجده مرة كل سنتين أو ثلاثة، ولكن ما هو ثابت في هذه البعثة هو تواجد خبير أول مختص في دراسة الحيوانات والنباتات وثان في التنقيب الجيوفيزيائي، وثالث في مجال الخزف والزجاج.

اهتمام غير مسبوق بحياة السكان

جرت العادة عندما يتعلق الحديث بالتنقيب عن الآثار في الحقب الإسلامية أن يتركز الإهتمام بالدرجة الأولى على الآثار العمرانية. ومع أن البعثة السويسرية تولت في بداية الأمر مهمة تحديد تصميم لقصر الحير الشرقي بعد كل ما عُرف عنه من خلال تنقيب فريق أمريكي في الستينات من القرن الماضي، فإنها “سرعان ما ابتعدت عن ذلك لتهتم بدراسة المنشآت الواقعة في ضواحي القصر والتي بإمكانها أن تقدم لنا معلومات أوفر عن الجوانب التجارية والعملية وعن الطريقة التي كان يُستغل بها هذا الموقع وهذا القصر خلال النصف الأول من القرن الثامن والذي استمر حتى الى الفترة الأولى من العصر العباسي”، مثلما يشرح رئيسها دونيس جانكان.

وفي معرض تقييمه لهذا الإسهام الجديد للبعثة السويسرية، قال المهندس وليد اسعد، مدير متحف وآثار تدمر: “إنها تستخدم تقنيات حديثة، وأجهزة ومعدات وتحاليل متنوعة تركز على المحيط (أي ما حول القصر وليس فقط المبنى في حد ذاته). إذ أن هناك دراسة أجريت على جزء من شبكة الأقنية التي تجلب المياه للقصر، وتجرى دراسات حالية على حي سكني مجاور للقصر ومعاصر له”.

ومنذ عام 2002، شملت أعمال التنقيب خمسة مبان محيطة بالقصر، إضافة الى الكشف عن معظم القنوات التي كانت تستخدم لجلب المياه للقصر من منطقة تبعد عنه بحوالي 30 كيلومترا. واستفاد خبراء الحفريات في هذه الأعمال من جميع أصناف البقايا العضوية التي تم العثور عليها للتعرف على طبيعة الحيوانات والنباتات التي كانت متواجدة في تلك الحقبة ومحاولة اكتشاف كيفية استخدامها من قبل إنسان ذلك الوقت.

ويؤكد السيد دونيس جانكان أن هذه الحفريات والأبحاث بـ “التعرف بطريقة أحسن على نوعية الزراعة التي كانت سائدة بالمنطقة في القرنين الثامن والتاسع، وما كان يُستورد من مناطق أخرى مثل غرب سوريا أو منطقة الفرات، وعلى طريقة استخدام الحيوان ونوعية ما كان يُستهلك منها وما إذا كان يُربّى في المنطقة أم لا؟ وما إذا كان يُربّى للحصول على اللحوم أم للحصول على الألبان؟”.

وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها التركيز على هذه الجوانب بدل الإهتمام فقط بالعمران والآثار العمرانية الإسلامية. ويلفت رئيس البعثة السويسرية بقصر الحير الشرقي إلى أن “هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها في مشروع أثري لدراسة حقبة أولية من حقب الإسلام، إدخال التقنيات الجانبية لعلم الآثار. فقد جرت العادة عموما أن يُعنى بدراسة الحقب الإسلامية مختصّون في تاريخ الفن وخبراء في تاريخ الفن العمراني وهم عادة ما يهتمون بالدرجة الأولى بالمباني بدون الإهتمام بالجوانب التي تقدم لنا معلومات عن كيفية استغلال الإنسان لهذه المباني وكيف كانت الحياة فيها”.

وينتهي دونيس جانكان إلى أن “مشروع التنقيب في قصر الحير الشرقي يقدم أسلوبا جديدا حيث كنا أول من أدخل أساليب القياس “أركيو – ميتري” Archéométrie في أعمال تنقيب حول موقع هام هو قصر أحد الخلفاء الأمويين، وقد استعنا بخبير من جامعة يورك York، مختص في التنقيب الجيو مغناطيسي للكشف عن المباني المطمورة والتي لم يشملها التنقيب. ومن خلال إقحام كل هذه التقنيات التي تدور في فلك علم الآثار حاولنا استخلاص أفضل فكرة ممكنة عن الموقع”.

تمويل زهيد ولكن متواصل

يتم تمويل البعثة الأثرية السورية السويسرية عبر مصدرين: الإدارة العامة للآثار والمتاحف في سوريا من جهة و”مؤسسة سويسرا – ليختنشتاين لتمويل الأبحاث الأثرية في الخارج” من جهة أخرى. وهي مؤسسة خاصة يترأسها شارل بوني، عالم الآثار السويسري الشهير (الذي سبق أن خصصت swissinfo.ch ملفا كاملا عن إنجازاته وأبحاثه في شمال السودان) على علاقة بالصندوق الوطني السويسري للبحث العلمي.

وقد ساندت هذه المؤسسة مشروع الفريق السويسري في قصر الحير الشرقي منذ انطلاقته في عام 2002 بمبلغ قار يتراوح ما بين 50 و 60 الف فرنك سويسري سنويا. ومع أن مقدار التمويل يبدو زهيدا إلا أن دونيس جانكان يقول إنه “سعيد بالحصول على مبلغ زهيد ولكن بشكل متواصل يسمح بالإستمرار في التنقيب بدل الحصول على تمويل هام لفترة سنتين أو ثلاثة ثم المعاناة في الحصول على تمويل فيما بعد للإستمرار في التنقيب”.

“من البعثات القليلة المهتمة بالفترة الإسلامية”

إذا كان قصر الحير الشرقي قد خضع لتنقيب في الستينات من القرن الماضي من قبل فريق أمريكي ولعدة مرات من قبل فرق سورية، فإن تولي الفريق السويسري عملية التنقيب منذ عام 2002 ضمن البعثة المشتركة السورية السويسرية “سمح بتدقيق الأبحاث”، كما يقول المهندس وليد أسعد، مدير متحف وآثار تدمر، الذي يؤكد بالمناسبة أن لها “إسهام في زيادة المعرفة الدقيقة نظرا لكونها تضم العديد من الخبراء المختصين بالفخاريات أو العضويات أو بدراسات العظام والبحث الجيوفيزيائي. واستخدام هذه التقنيات وهذه المعدات يساعد على فهم أكبر للكثير من المعطيات التي كانت غير مفسرة بشكل دقيق من قبل”.

أما الميزة الحقيقية لهذه البعثة فتتمثل بالدرجة الأولى في اهتمامها بالتنقيب المنهجي في حقبة إسلامية، ويقول رئيسها دونيس جانكان: “نحن من بين البعثات القليلة التي اختارت التنقيب في حقب بداية الإسلام. وقد صادف أن اهتمت إدارة الآثار والمتاحف (في سوريا) التي كانت في العام 2002 تحت إشراف أحد المدراء المختصين في الحقب الإسلامية، بتشجيع البعثات على الإهتمام بهذه الحقب الإسلامية”.

أما عن العلاقة القائمة مع مختلف المصالح الساهرة على قطاع الآثار في سوريا، فيقول دونيس جانكان: “علاقاتنا ممتازة سواء مع المسؤولين في دمشق أو في تدمر وهناك تقدير للعمل الذي نقوم به. وهناك مشروع مشترك لإصدار كتاب تكريما للأثري السوري عدنان بوني، كما لنا مشروع مع مُتحف تدمر لتعزيز القسم الخاص بالحقبة الإسلامية فيه”.

قصور في الصحراء لتعزيز الروابط السياسية

إجمالا، تهدف الدراسات التي يقوم بها الفريق الأثري السويسري إلى معرفة الدوافع التي دفعت القادة الأمويين لتشييد هذه القصور في مناطق شبه صحراوية.

وعن التأويلات التي توصل إليها دونيس جانكان لحد الآن في دراساته يقول: ” لاشك أن ذلك كان لغرض سياسي ودبلوماسي خصوصا بالنسبة للقصور التي كانت تابعة للخلفاء والأمراء وهو تعزيز الروابط بين الخليفة وأهم الأمراء من جهة وبين زعماء القبائل التي كانت تقطن بلاد الشام وبالأخص قبيلة كلب التي كانت تقطن منطقة تدمر والتي كانت أكبر القبائل الداعمة للخلفاء الأمويين طوال النصف الأول من القرن الثامن الميلادي”. ويضيف دونيس جانكان “بفضل دعم قبيلة كلب أثناء الحرب الأهلية الثانية تمكن الأمويون من الاحتفاظ بالخلافة”.

محمد شريف – swissinfo.ch – قصر الحير الشرقي – سوريا

شيده الخليفة الأموي هشام ابن عبد الملك في السنة الهجرية 110 (أي 728 ميلادية) في صحراء أو بادية الشام وعلى بعد حوالي 105 كلم شمال مدينة تدمر هذه المدينة المتكاملة التي اشتملت على القصر الكبير والقصر الصغير وعلى الحمامات والبستان وقنوات جلب المياه.

كتب خالد أسعد وعدنان بوني في كتاب “تدمر، التاريخ والآثار والمتحف” أن هذه المدينة المُحصنة التي عرفت باسم “القصر الكبير” كانت مربعة الشكل ومحصنة بجدار له نقاط مراقبة دائرية، كانت تشتمل على القصر وعلى خزان للمياه بسعة 3000 متر مكعب في وسطها، وعلى معصرة للزيت. وقد شيد في زاويتها الجنوب شرقية “مسجد هشام” الذي يعتبر نموذجا مصغرا للمسجد الأموي في دمشق. أما الحمامات التي كانت تقع الى الشمال من القصر فكانت تشتمل على ثلاث قاعات متفاوتة الحرارة، رصفت ارضيتها بقطع من المرمر. أما البستان الممتد على مساحة 6 كلم على 3 كلم فقد أحيط بسور مازال جزء منه قائما حتى اليوم. وقد كان البستان وكذلك سكان المدينة يزودون بالمياه العذبة عبر قناة (صخرية) تمتد لمسافة 30 كلم وتجلب المياه من ينابيع منطقة الكوم”.

سبق للبعثة الأثرية لجامعة ميتشيغن الأمريكية، أن قامت تحت قيادة اوليغ غرابار بعمليات تنقيب في الموقع ما بين عامي 1964 و 1972 وتوصلت الى تحديد أنه من الحقبة الأموية وظل مسكونا حتى القرن الرابع عشر كخان على طريق القوافل التجارية المتوجهة من مدينة حلب الى بُصرى إلى أن تم حفر قناة السويس في أواخر القرن التاسع عشر.

على بعد نفس المسافة ولكن إلى الغرب من مدينة تدمر، أقام هشام ابن عبد الملك قصر الحير الغربي الذي نقبت فيه بعثة فرنسية ما بين عامي 1936 و 1938. وإذا كان قد تم ترميز جزء من بعض الجدران من قبل الإدارة العامة للآثار والمتاحف، فإن واجهة القصر نقلت الى دمشق وهي تُزين اليوم مدخل المتحف الوطني في دمشق.

قصر الحير الغربي كان يشتمل على حمامات بغرفتين وتستقبلان المياه الواردة من سد خربقة. وعلى بعد 10 كيلومترات من القصر أقيم خان لم يتبق منه اليوم سوى باب المدخل الذي نقل إلى حديقة متحف دمشق وقد كتب عليه بخط كوفي “أمر هشام ابن عبد الملك ببناء هذه المرافق في عام 109 هجرية” (727 ميلادية).

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية