مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

ما الذي ستخسره الولايات المتحدة؟

رغم تشابك المصالح العربية الأمريكية فإن تداعيات أزمة الشرق الأوسط على المدى البعيد قد تكون وخيمة swissinfo.ch

لم يسبق أن بلغ النزاع العربي-الإسرائيلي هذه الدرجة العالية من التجاذب التي يحتاج فيها الطرفان إلى تدخل وسيط دولي لتقريب وجهات نظرهما، كما هي عليه الحال اليوم. وسعت الولايات المتحدة على مدى العقود الماضية إلى تحقيق هدفين، الأول: اعتبارها المرجع الوحيد للنزاع العربي- الإسرائيلي، والثاني الحصول على اعتراف العالم العربي بإسرائيل.

منذ مؤتمر مدريد قبل عشرة أعوام بدأت الولايات المتحدة قطف ثمار سياستها هذه، إلا أن ما لم يكن أحد يتوقعه هو أن تفشل سياسة واشنطن، ليس بسبب معارضة موسكو أو العالم العربي، وإنما بسبب معارضة حليفتها إسرائيل.

وأحرج هذا لأمر الدول العربية الحليفة لواشنطن، والتي لا تستطيع أن تبرر أمام الرأي العام العربي سبب قبولها برفض إسرائيل المصالحة، من دون أن تلجأ إلى الحرب كخيار بديل. وفجّرت الانتفاضة الفلسطينية في الشارع العربي تساؤلات حول جدوى خيار السلم، وهو ما يعني أيضاً تساؤلات حول خيار السير في ركاب الولايات المتحدة.

وزاد الأمر حدة أن إدارة الرئيس بوش قررت الامتناع عن التقدم بأي مبادرة سياسية والاكتفاء بمراقبة ما يجري بين حليفها الإسرائيلي المدجج بأضخم ترسانة سلاح في منطقة الشرق الأوسط، وبين السلطة الفلسطينية وجموع الانتفاضة التي تملك بنادق ورشاشات خفيفة لا قدرة لها على مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي. وقال الرئيس بوش إنه لن يقوم بأي بادرة إلا إذا تقدم منه الطرفان معاً بطلب للتوسط، وهو ما عنى رسمياً التخلي عن الفلسطينيين ووضعهم تحت رحمة إسرائيل وصقور اليمين الإسرائيلي المتطرف.

في البدء كانت المقاطعة

ومنذ اندلاع الانتفاضة قبل أحد عشر شهراً تقريباً، تحرك الشارع العربي في صورة هددت مصالح الشركات الأميركية في المنطقة. إلا أن هذا التحرك بقي محدوداً ولم يرقَ إلى مستوى السياسات الإقليمية. وبعدما كانت جموع المتظاهرين تخرج مطالبة بإقفال فروع الشركات والمصارف الأميركية، وبمقاطعة البضائع الأميركية، انتهت هذه التظاهرات إلى مجرد اجتماعات لبعض النقابات، بعدما استطاعت الأجهزة الحكومية تنفيس النقمة الشعبية.

ولم تستطع هذه الظاهرة الاستمرار طويلاً بسبب معارضة السلطات وجود تجمعات مناهضة للولايات المتحدة، خشية أن يؤدي وجودها إلى قيام قنوات تحريض قد تستغل استياء الرأي العام لتحويل غضب المواطنين ضد حكوماتهم.

تبعية عربية..

وبخلاف التراجع الملفت لظاهرة مقاطعة البضائع الأميركية، فإن التبعية الغذائية للدول العربية للولايات المتحدة وللأسواق الدولية تخفف من قدرتها على فرض شروطها بحرية. إذ تستورد الدول العربية ربع صادرات العالم من القمح التي تبرز فيها الولايات المتحدة كأحد أكبر المصدرين. وعلى سبيل المثال تستورد دول الخليج وحدها قرابة مليوني طن متري من القمح.

ولا يقتصر التشابك في المصالح العربية- الأميركية على واردات الأغذية فقط، ولكنه يمتد إلى سلع أخرى منها النفط والغاز. ويصل حجم التجارة البينية بين العالم العربي وواشنطن إلى ثلاثة وأربعين مليار دولار في السنة، يأتي ثلثاها من العالم العربي والثلث المتبقي من الولايات المتحدة. وتسهم صادرات الطاقة بأكثر من نصف قيمة المبادلات هذه.

وكان قد ساد الاعتقاد أن النقمة العربية ضد سياسة الرئيس بوش ستؤثر على مصالح الشركات الأميركية والعقود الكبيرة التي ستحصل عليها. إلا أن التراجع المسجّل يعتبر نسبياً للغاية، وهو لا يتجاوز 2. في المائة في أسوأ الأحوال، ويتماشى إلى حد بعيد مع الركود الاقتصادي الكبير الذي تعاني منه الدول العربية، وفي مقدمها دول الخليج النفطية التي تحسنت ماليتها العامة منذ العام الماضي، إلا أنها لا تزال تعتمد سياسات إنفاق حذرة خوفاً من معاودة التراجع الاقتصادي، والعودة إلى سياسات الاقتراض الكثيف التي شلت اقتصادياتها في السنوات الماضي، قبل ارتفاع أسعار لنفط مجدداً.

وكانت السعودية بين أولى الدول التي حذرت من احتمال تضرر عقود الشركات الأميركية نتيجة سياسة واشنطن اللامبالية حيال مصير الفلسطينيين، إلا أن الموقف تغير أخيراً مع منح عقود تنقيب عدة من الغاز للشركات النفطية الأميركية في شرق السعودية. لكن بالمقابل، وفي وقت يصر ولي العهد السعودي الأمير عبد الله على عدم زيارة واشنطن بسبب مواقفها، يبدو واضحاً أن عقوداً تجارية أقل أهمية استراتيجية من عقود النفط مُنعت عن الشركات الأميركية في السوق السعودية، التي تعتبر أكبر سوق اقتصادية في العالم العربي.

وعلى المدى البعيد؟

وقد تكون الولايات المتحدة نجحت في تجنب الإضرار، على المدى القصير، بمصالحها الاقتصادية في المنطقة، إلا أن هذا الأمر مرتبط بوجود رغبة من قبل السلطات في عدم تحويل الاحتقان الشعبي إلى قوة منظمة قد تتطور إلى قوة تغيير ذات مشروع سياسي أكثر تماسكاً.

إلا أن المعروف أن كل الأزمات التي واكبت القضية الفلسطينية فرّخت بعد سنوات في المنطقة انقلابات عسكرية، ظهرت بعد وجود شعور بالخيبة في صفوف أفراد الطبقة المتوسطة والنخب العسكرية. وفي هذا الإطار فإن التغيير قد يحدث على مستوى الحكومات، إذا واصلت الولايات المتحدة سياساتها التي لا تراعي توجهات الشارع العربي،ولم تحمِ بالتالي الأنظمة الحليفة لها من خطر الانقلابات المقبلة.

وبالمقابل فإن في وسع الولايات المتحدة، في حال نجحت مراهنات أصدقائها العرب في إثبات فشل إطروحات اليمين الإسرائيلي المتطرف عن تقديم بديل يضمن حماية أمن الإسرائيليين، في وسع الولايات المتحدة حينذاك أن تتقدم بمشروع يعيد مشروع التسوية السلمية إلى مساراها السابق، بعد الإطاحة بحكومة شارون وإجراء انتخابات جديدة تحظى ضغط من واشنطن.

وتبدو المصالح الأميركية اليوم في العالم العربي مترابطة إلى حد غير معهود مع مصالح الحكومات الحليفة في المنطقة. وستؤدي إعادة السلام إلى ربوع المنطقة إلى تبديد غيوم الاحتقان التي تهدد بنسف أسس الاستقرار الإقليمي، من دون أن يستطيع أحد أن يتنبأ كيف سيكون الانفجار.

إلا أن المشكلة هي أن إدارة بوش التي سلّمت ملفات الشرق الأوسط إلى أعضاء في اللوبي اليهودي اليميني المتطرف في واشنطن عاجزة عن إغضاب أعضاء هذا اللوبي، لاسيما وأن الديموقراطيين، المناهضين للرئيس بوش وأدارته، مرشحون للاستيلاء على مجلس النواب الأميركي العام المقبل، بعدما فرضوا غالبيتهم على مجلس الشيوخ هذه السنة.

وما يزيد الطين بلة أن أعضاء مجلس إدارة بوش من خارج اللوبي اليهودي منقسمون على أنفسهم، وتهيمن عليهم إطروحات اليمين الانعزالي الأميركي الذي لا يستطيع أن يجدد في طروحاته المحافظة ما يبرر تغيير سياساته السيئة المتبعة حالياً في الشرق الأوسط.

إبراهيم الشريف/ لندن

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية